محمد حمام القلب اليساري!

 

يوسف أبو الفوز / سماوة القطب

haddad.yousif@hotmail.com

في سبعينات القرن الماضي، اشتهرت كثيرا اغنية " جميلة... جميلة... زهرة البستان "، رغم بساطة كلماتها وانسيابية لحنها، لان الصوت القوي المؤدي لها كان يلفت الانظار اليه بقوة، ويثبت لنا مقولة بتهوفن بان " اجمل الاصوات الموسيقية هو صوت الانسان". صاحب هذه  الاغنية هو الفنان المصري والمناضل محمد حمام، واسمه الحقيقي "محمد سيد محمد ابراهيم "، والذي توفي قبل ايام عن عمر ناهز 75 عاما، بعد صراع طويل مع المرض منذ اصابته بالشلل النصفي اثر جلطة تعرض لها عام 2001. توفي الفنان محمد حمام في غرفة الرعاية المركزة فى مستشفى عين شمس في القاهرة، وسط انباء عن تعرضه لحالة اهمال ادت الى وفاته، والمفارقة ان مكان وفاته لم يكن بعيدا عن قبر وجامع جمال عبد الناصر، الحاكم الذي طالما اضطهده وسامه العذاب، ورماه خمس سنوات في سجونه السيئة الذكر، بدءا من معتقل "الواحات " الشهير، الذي ازدحم فى نهاية خمسينات القرن الماضي بالشيوعيين وحملة الفكر الماركسي المناضلين من اجل حياة حرة كريمة وديمقراطية، وكان محمد حمام من اصغر السجناء السياسين فيه، وهناك اكتشف رفاقه السجناء موهبته في الغناء وكتابة الشعر، فشجعوه للتخلص من خجله.

رحل الفنان محمد حمام، الصوت الشجي، القوي، العذب،وسط تعتيم اعلامي مشين من النظام المصري واجهزة اعلامه التي لم تعطه يوما حقه، ونسي هذا الاعلام، ومعه الاعلام العربي، اغنيته الشهيرة "يا بيوت السويس"، من كلمات عبد الرحمن الأبنودى وتلحين المبدع إبراهيم رجب:

 يا بيوت السويس... يا بيوت مدينتى

استشهد تحتك... وتعيشى انت

هيلا... هيلا... يالاه يا بلديا

شمر دراعتك... الدنيا اهيه

هذه الأغنية التي كانت بيانا تاريخيا عن صمود الكادحين من اهل السويس، وعبرت عن موقف وطني رفض العدوان والتدميرالإسرائيلي للمدن المجاورة لقناة السويس خصوصا مدينة السويس التي فاق دمارها، حسب المراقبين الدوليين، دمار الكثير من المدن الأوروبية أثناء الحرب العالمية الثانية.  الفنان محمد حمام، العاشق لتراب وطنه، غنى هذه الاغنية بين حشود الناس، ومقيما وسط جنود وضباط الجيش المصري بعد هزيمة ونكبة الانظمة العربية 1976، وطاف بالجبهة من اجل ان يرفع من همم الجنود وافراد القوات المسلحة المصرية ليسعيدوا الثقة بأنفسهم خلال سنوات ما سمي بحرب الاستنزاف، ومن اجل تحريك الشارع المصري من اجل موقف وطني موحد.

نسي الاعلام الرسمي المصري والعربي، سنوات السجن والاعتقال والتعذيب المر، الذي ذاقها المناضل اليساري محمد حمام على يد نظام جمال عبد الناصر وجلاوزة نظامه، وثم نظام انور السادات في نضاله المثابر من اجل الديمقراطية وحقوق الانسان، والذي لم يتوقف عن ذلك يوما! نسي الاعلام الرسمي المصري  فرقة "اولاد الارض" التي شكلها الفنان محمد حمام، وكان فيها شاعرا ومغنيا، ودارت المدن المصرية، تشيع روح الانتماء للوطن وتنادي بسعادة الانسان وتقدم الفن الانساني الملتزم بقضايا الانسان!

في زمن انور السادات،لاحقت الاجهزة الامنية المناضل محمد حمام، وضيقت عليه كثيرا واصدرت قرارا رسميا بمنع بث اغانيه في الاذاعة والتلفزيون، فأضطر للهجرة الى الجزائر للعمل هناك مهندسا لفترة من الزمن، ومن هناك زار بغداد نهاية 1978، في اجواء معارضة معاهدة كمب ديفيد وسجل لاذاعة بغداد اغنية:

الوطن الكبير العربي نبنيه بأرادتنا

ونمد الاساس خرسان من قوة عزيمتنا

لم يكن لحن هذه الاغنية سوى اقتباس عن لحن اغنية تحدي مصرية ثورية، معروفة في مصر جيدا بين صفوف اليسار المصري، ولدت في سجون جمال عبد الناصر، ايام اعتقال الفنان محمد حمام  عام 1959 وتقول:

الحزب الشيوعي المصري نبنيه بارادتنا

سأل الفنان محمد حمام، عن الدافع لذلك:

ـ قال لاحفظ  اللحن من النسيان!

واذ لم يجد فيه نظام البعث العفلقي في العراق مطبلا لفكره القومي الشوفيني، سد امامه ابواب فرص العمل، فغادرالعراق غير اسف.

كان محمد حمام مناضلا جسورا، تعرض لاضطهاد وتعتيم اعلامي رسمي واسع،ورفض الانحناء لثقافة الانظمة العربية السائدة، فحلت عليه اللعنة، فلم تسجل له مؤسسات الدولة المصرية، وفي مقدمتها شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات التابعة للدولة اي من اغانيه. قاوم بكبرياء طويلا فكرة الهجرة والرحيل عن موطنه مصر متحملا كل اصناف انواع العوز والاضطهاد، وسافر لفترة قصيرة خلال سنوات حكم السادات للعمل في الجزائر كمهندس من اجل التمتع بهامش من الحرية. منتصف سبعينات القرن الماضي زار  فرنسا واتيحت له فرصة الاشتراك كممثل ومطرب في فلم فرنسي، وفي باريس سجل اغنيته الشهيرة "بابلو نيرودا "، التي نالت من الشهرة والانتشار الكثير وبيعت من اسطوانتها آلاف النسخ فى فرنسا والعالم العربى وأمريكا اللاتينية، وكانت من الحان الفنان عدلي فخري:

بابلونيرودا

صوتك على موج البحور لقلوبنا ساري

زى ابتسامة الطفل فى القلب اليساري

وكان محمد حمام شاعرا مبدعا، كتب الشعر ونشره وغناه، وان لم يصدر ديوانه الخاص. كان كثيرين يعرفون بأن محمد حمام وبامكانياته الفنية، بأمكانه ان يكون المطرب الاول في مصر لو تخلى عن مبادئه وسار مع موجة السوق وعرف دهاليز وكواليس العلاقات الخاصة التي تصنع النجوم. ويتناقل معارفه مقولته التي عرفت جيدا " اجوع مثل اهل بلادي واغني معهم حتى يفخرون بي مثلما افخر بهم ". كان المناضل محمد حمام مناضلا يساريا، باسلا، ساهم في تأسيس منظمات شيوعية في مصر، منها حزب الراية الشيوعي، الذي  ناضل طويلا في صفوفه كادرا قياديا شجاعا وعاش حياة الملاحقة والتخفي والعمل السري، ثم انضم لحزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، وكان عضوا في لجنة امانة الحزب. وفي الوقت الذي  قدم في محمد حمام للعمل السياسي والنضالي الكثير من جهده ووقته، فهو لم يتخل عن عشقه للغناء، فكان على هامش المؤتمرات والاجتماعات الحاشدة يغني بعضا من اغانيه السياسية التي تتغنى بحب الارض والانسان وهموم الكادحين.

كان بعض النقاد، وامام الشهرة الكبيرة التي حققتها اغنية " يا بيوت السويس " يعده من مطربي الاغنية الواحدة، وهذا اجحاف بحقه، فهو وسوية مع الفنان عدلي فخري والشيخ امام، لم يعرفوا الطرق الملتوية الى مؤسسات الدولة  ليكونوا نجوم الشاشة والحفلات المخملية، واكتفوا باغانيهم في الاحتفالات والاجتماعات الحاشدة ومسجلة بطرق بدائية على كاستيات توزع باليد بين الناس. قدم محمد حمام عشرات الاغاني، التي تتغنى بالوطن والانسان، قدمها بروح المناضل الذي لم يفقد الامل يوما بحياة افضل للانسان الكادح، ربما لم تحقق النجاح والشهرة التي نالتها اغنية "بيوت السويس"، لكنها كانت اغان تحمل روحه وموقفه الوطني وعذوبة صوت الجياش القوي. فصوت الفنان محمد حمام يعتبره نقاد الموسيقى من الأصوات النادرة، حيث يمتلك صوتا حنونا شديد العمق ترك تاثيرا كبيرا في مسارالأغنية السياسية في مصر، والاغنية الوجدانية، فهو من أوائل المغنين النوبيين الذين حملوا التراث النوبي إلى أسماع أبناء الشعب المصري، وسار على خطاه العديد من الفنانين المصريين، اشهرهم الفنان محمد منير الذي يعتبر نفسه تلميذا له.

ستظل مثل ومبادئ المناضل الفنان محمد حمام خالده، وتظل مسيرة حياته مثالا حيا للفنان والانسان الملتزم بقضايا شعبه، والذي لم ينحن لعسف الانظمة، والذي ينشد ويكتب لحياة افضل لابن بلده:

الصبر مش عايزه أنا عايز أشيل بلدي

ع الكتف فوق الزند جوه العين يا بلدي

يا راكبين القوارب حديد للسما طالعين

دقوا معايا الوتد شيلو معايا الطين

لجل ما نرفع سوا بلدى اللى كلها الطين!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com