لن يقتلوك ايها المتنبي شاعرا كنت ام شارعا!!

د. سّيار الجميل / مؤرخ عراقي

www.sayyaraljamil.com

قتل الشاعر العظيم ابو الطيب المتنبي غدرا في صحراء بغداد قبل مئات السنين، ولكنه بقي حيا يعيش في جوارحنا كل هذا الزمن الطويل بكل مخلداته من اروع الاشعار واسمى الملاحم.. وتيمنا به، اطلق اسمه على واحد من اهم شوارع قلب العاصمة بغداد، وشارعه يتفرع من شارع الرشيد، ولم اجد شبيها لكليهما أبدا، فلكل منهما لون ما وطعم خاص وطقوس حياة حافلة.. ميزة شارع المتنبي انه معرض كتاب دائم على امتداد الزمن الطويل.. انه اصطفاف عجيب للمكتبات التجارية العريقة، وتجد الكتب بانواعها تنتشر في كل رقعة وكل رصيف من بائعين صغار يعرف كل واحد منهم شفاها الاف العناوين.. انه جادة المارة المثقفين والقراء والمهتمين، والطلبة والتلاميذ والمعلمين والاساتذة الجامعيين والموظفين والسابلة المتطفلين والمولعين بالثقافة والمثقفين.. وغيرهم ممن لا تعرفهم من العراقيين.. كّل يأوي الى المتنبي لغاية في نفسه، فالشارع يجذب كل الصفوة ويزيدهم هو متعة وجمالا وبهاء بأضوائه وأشيائه..

 كان في العقود الزمنية المنصرمة يتحسّر المرء فيه على كتاب جديد صدر هنا او هناك، وبعضها يسّرب من وراء الحدود ليباع فيه خفية بعيدا عن اعين الرقباء والجواسيس! وتتجلى عظمة الشارع بما يحتويه من روائع الماضي التليد.. لا تشتهي اي كتاب نادر وقديم، الا وتجده في جعبة المتنبي : مجلات ومأثورات وموسوعات ومجلدات والبومات ومخطوطات ومصورات ودواوين.. وفي كل يوم جمعة يزدحم الشارع باصناف الناس وكأنهم يسترجعون مآثر العظمة الثقافية ايام العباسيين! ولقد نثرت في ايام الحصار على العراق اعظم الاعمال عندما اخذ الناس يبيعون كتبهم كي يسدوا رمق الحياة وشظفها وهي أعز ما يملكون..

 جميعنا سمع بتفجير شارع المتنبي عندما اختاره القتلة ليفجروه بسيارة مفخخة في الاسبوع الماضي، ارادوا قتل المتنبي من جديد.. وأرادوا قتل الحياة واغتيال البراءة ومحو الكلمة وكل المضامين.. كانوا يريدون حرق الكتاب بعد ان نجحوا بتدمير العراق وحرق العراقيين.. كانوا يريدون قتل التاريخ فهم من اعدى اعداء التاريخ والحضارة والدين.. كانوا يبغون دحر الثقافة والاعتداء على العقل اعتداء اثيما.. كانوا يريدون قبرالحكمة وعصر القلوب.. انهم يريدون ارهاب كل العالم.. يا ترى.. هل يملكون ضميرا حيا؟ هل يملكون اخلاقا وحضارة؟ هل لهم انتماء لأي شرعة او دين؟ هل لهم اي نزعة انسانية وهم يصنعون مشهدا مأساويا يعد من أسوأ المشاهد المروعة التي يحياها كل العراقيين.. مشهد مؤلم من دماء منثورة وبرك قانية وتراب يعفر الاوجه.. حرائق تأكل الكتب الثمينة.. جثث مقطعة الاوصال.. زجاج متناثر في كل مكان.. اجساد مزروعة بالجروح والقروح.. نيران تأكل موجودات المتنبي هنا وهناك.. مشهد لا يمكن ان تصنعه حتى خيالات هوليوود والاعيبها المروعة في افلام تحكي قصص المجرمين!

 من كان وراء الجريمة؟ من فقد عقله وضميره ودينه واخلاقه ليفعل هكذا فعلة شنعاء؟ ان كل حالة من صناعات الموت الجماعي تخّلف عشرات الموتى والجرحى الابرياء.. ما ذنب الابرياء يذهبون ضحايا وقرابين، ليس لذنب اقترفوه الا لكونهم من العراقيين؟ هل سمعنا اي فصيل من الفصائل مهما كان جنسه وهدفه يعلن ادانته الصارخة لمثل هذه الاحداث؟ ما الذي يريده الجناة القساة من هؤلاء الابرياء الطيبين؟ من له مصلحة حقيقية في قتل العراقيين بهذه الطريقة الجنائية في وضح النهار وعلى مرأى العالمين؟ وهل الاسلام يقبل قتل اي انسان في هذا الوجود، بل هل يقبل قتل اي حيوان اليف، اذ يغدو القاتل حقا من المعتدين الآثمين؟ من هو المجرم الحقيقي لصناعة الموت في العراق؟ من يعلن عن مسؤوليته في هذا القتل الآثم كي نعرف اشتراطاته؟ ام هل انه يقتل ويدمّر لغايات لا ندرك مراميها ابدا؟؟

 لقد وجد القتلة ان كل الامكنة قد استبيحت في العراق، ولم يبق الا ذلك المتنبي الوديع الذي يمتد بقامته في قلب بغداد، فطالوا حياته بعد الانفراد به، وارادوا اعدامه وحرق كتبه وتقطيع اوصاله وزرع وجوه الناس بالزجاج والشظايا والتشوهات.. انهم ارادوا قهر اخر معقل لم يزل كل عراقي يلجأ اليه بأمان.. انهم مجموعات شريرة ارادت ارتكاب جريمة اغتيال الثقافة وقصدوا المتنبي وهو عنوانها.. ولكنهم نسوا ان المتنبي لم يزل حيا يرزق بيننا ولم يقتل.. وسيبقى ذكره واثره في ذاكرة الملايين.. ان المتنبي سيبقى حيا لا يموت، فهو من عمالقة الثقافة العربية، وسواء رفضناه او عشقناه، فهو واحد من ابرز الرموز الخالدة التي يزدحم بها العراق والتي تمّثل شواهد حضارة رائعة على امتداد العصور والتي يفخر بها كل المسلمين وغير المسلمين.

 ان مشروعات القتل والارهاب التي لا تعرف اي نوازع دينية ولا اي سلوكيات اخلاقية، ولا اي معان حضارية.. مطلوب منّا جميعا زرع وعي جديد بمخاطرها الشديدة على مستقبل مجتمعاتنا، وان يتخّلص كل المتوحشين من كراهيتهم وبغضائهم، وان يعيد كل المتعصبين التفكير من اجل فعل خير وكلمة طيبة وابتسامة رائعة.. فالحياة لا تبنى بالدمار، والسلطة لا تؤخذ من الابرياء.. وعلى الجميع ادانة قتل الابرياء والاعتزاز بالانسان واحترام المثقف والعمل من اجل الاخرين بالتعاون والسماحة والروح الاخوية.. وان مقاومة المحتل لا تنطلق من قتل الابرياء الآمنين والمطلوب استئصال حواضن الارهاب اينما كانت واينما وجدت.

 وأخيرا، اقول بأن المتنبي شاعرا وشارعا سيبقيان في قلب بغداد التي عرفناها وعشقناها، وسوف لن تؤذيه ابدا سيارة مفخخة او تفجيرات قاتلة او حرائق بالغة.. وسيبقى عنوان ثقافة عربية رائعة لا يمكنهم محوها من الوجود أبدا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com