حلبجة وضحايا الأنفال بين الحقيقة والخيال

 

محمود الوندي

m-w1948@hotmail.de

شهد تاريخ البشر الكثير من المجازر الدموية سواء في العصور القديمة او العصر الحديث، إلا أن المجازر في العراق هي الأكثر دموية أيام نظام البعث وتحديدا في اقليم كردستان وامام أعين العالم، لذلك لا أريد أن أكتب مقالا روتينياً عن تلك الجرائم التي أصبحت معلومة للقاصي والداني، ووضع عليها التأريخ إشارة بالخط الأحمر القاتم، بل أريد أن أرد على من طعن ويطعن الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكوردي بشكل خاص من الخلف، وأثبت لهم حقيقة تلك المجازر داخل العراق التي ينكرونها، وكان ضحية تلك المجازرهم سكان العراق اطفالا وصبيانا ونساءا وشيوخا. يعشقون الارض ويحبون الجبال والأهوار ويرسمون في فرحهم خارطة العراق، هولاء لاحول لهم ولا قوة، وليس لهم أي ذنب سوى أنهم من ذوي وأبناء المعارضين للنظام السابق والذين يريدون حريتهم في وطنهم.

 بدأت أولى المجازر لنظام البعث من كوردستان، بسحق القرى الكردية ومن فيها دون سابق انذار, ومنها الى باقي السلسلة الجبيلية الجميلة وما تحويه بين طيّاتها من أماكن جميلة ورائع، جريمة الانفال وقصف مدينة حلبجة بالسلاح الكيمياوي من الجرائم التي تقع ضمن جرائم ابادة الجنس البشري وهي من الجرائم التي حرمها القانون الدولي، وقبل القانون هي من المحرمات في كل الشرائع والاديان السماوية والاعراف الأنسانية التي حدثت في كردستان العراق عام 1988، لا شك أن الفاجعة الأليمة، تحتل مكانة حزينة خاصة في قلوب الكرد قاطبة وفي قلوب العراقيين عامة، لأنها فاجعة إنسانية كبيرة بمأسيها وفصولها الحزينة الدامية.
الجريمة قد وقعت دون شك وهذا ما لم يتمكن من نكرانه النظام البائد وقادته الى الآن، إلا أنهم يراوغون في كل محادثاتهم لكي يحولوا هـذه الجريمة الى واقع سياسي، بحجة كانت هناك قوات ايرانية في المنطقة وتوجد معارك بين العراق وايران تارة، وأن الايرانيين عندما دخلوا الأراضي العراقية قاموا بهذه الجريمة أي بضرب مادة الكيمياوي وتدمير القرى تارة أخرى، بالأضافة الى محاولة بعض الأعلاميين والأقلام المأجورة تكذيب تلك الجرائم، حيث يقرون هؤلاء المنافقين أن القوات الايرانية قد احتلت أنذاك عدد من المناطق داخل العراق، هي التي سببت تلك المجازر، مع العلم أن قادة النظام العراقي يصدرون بياناتهم أيام الحرب مع ايران و يؤكدون دائما انتصار العراق في كل القطعات العسكرية ولن يسمحوا للجيش الايراني الدخول الى شبر واحد من أراضينا، وهذا يتنافي مع أقوالهم بأن القوات الايرانية كانت داخلة في عمق الأراضي العراقية وقامت بتلك الجرائم.

 لذا أريد أن أقدم الشاهد الذي شارك في عملية الأنفال وقصف مدينة حلبجة وأكشف للجميع كيف حدثت تلك الجرائم من خلال الحديث مع أحد الضباط العراقيين :

 أنقل لكم هذا الحديث الذي دار بيني وبين أحد الضباط كان جالساً بجانبي داخل أحدى السيارات الكبيرة ( تسمى المنشأة ) في طريقي الى العاصمة بغداد من السليمانية، حاولت أن أستدرجه في الحديث عن قصف مدينة حلبجة وعن عملية الأنفال عندما علمت من كلامه بان وحدته العسكرية كانت في حلبجة أثناء قصف المدينة. ونقلت بعد ذلك الى مدينة جمجمال لأشراكها في عملية الأنفال، وأراد هذا الضابط ان يتكلم عن وحدته وعن كيفية مشاركتها في عملية الأنفال في قاطع قرده داغ من جانب مدينة جمجمال بأتجاه منطقة سنكاو. ولكني قاطعته، وقلت له تكلم أولاً عن قصف مدينة حلبجة وثم الأنفال، وقال لي على ماذا أتكلم وكل شيء قـد انتهى في مدينة حلبجة وأبيدت كل الكائنات الحية فيها، وسألته : من قام بهذه الأعمال؟ فأجاب : قامت الطائرات والمدفعيـة العراقيـة وبأمر من الرئيس صدام حسين وبتنفيذ مباشر من(المجرم) علي حسن المجيد مسؤول منطقة القاطع الشمالي ( من ضمنها كوردستان ) بقصف المدينة بالسلاح الكيمياوي المميت والمكون من غاز الخردل وغاز السيانيد، وزهقت أرواح المدنيين بالآلاف داخل المدينة وأطرافها. فسألته مرة أخرى : كيف عرفت نوع الغاز وكيف عرفت بأن الحكومة العراقية قامت بهذا القصف؟ وكان جوابه ألا تدري أنا ظابط كيمياوي وكنت هناك أثناء القصف. وقلت له : ما رأيك بذلك القصف وما كان ذنب أهالي حلبجة العزل. فقال : هل تريد أن تعدمني... فضحكت على جوابه.

 في أثناء حديثنا وقفت السيارة عند مدخل مدينة طوزخورماتو أمام احد المطاعم. وبعد تناول الطعام.. تمشينا معاً أمام المطعم وتبادلنا الحديث فيما بيننا، و قد حاولت تغير الحديث بين الحين والآخر لكي لا يشك بي وبما أريد، وبعد صعودنا الى السيارة متوجهين الى بغداد، دار الحديث بينا من الجديد وهذه المرة حول عمليات الأنفال، وأخذ يوضح لي كيف بدأت القطعات العسكرية وأفواج الجحافل الخفيفة ( يقصد بيها افواج الجحوش المرتزقة من الكورد )، في نهاية أذارعام 1988 بالقدوم والتجمع على الأطراف المحيطة بمدينة جمجمال، بعد ان اكملت تلك القطعات أستعدادها، قامت بشن حملة عسكرية واسعة تحت أسم عمليات الأنفال السيئة الصيت على منطقة قره داغ لتمشيطها والإستيلاء على مقرات الأحزاب المنتشرة فيها والهدف من تلك الحملات إخلاء كوردستان من سكانها بعد تدمير قراها. بعد أن تم تحديد ساعة الصفر والإشارة بالشروع في الهجوم على عدة جبهات ووفق الخطة المرسومة - ما زال كلام للضابط الذي يجلسً بجانبي- في الساعات الأولى من الصباح تحركت هذه القوات الى أطراف منطقة قره داغ، وتوجه لواءنا نحو قاطع ناحية سنكاو بأتجاه قرية ته كية التي لا تبعد عن مدينة جمجمال سوى بضعة كيلومترات. ومع ساعة الصفر باشرنا بقصف القرية بالمدفعية والأسلحة المختلفة قبل الهجوم عليها, وأثناء تقدم الجيش العراقي أيي بالأحرى لواءنا نحو تلك القرية بعد قصفها، تصدت لنا قوة من المخربين ( يقصد قوة من بيشمركة الأبطال) وعندما حاولنا الدخول الى القرية المذكورة، دار قتالاً عنيفاً بيننا وأستمر حتى مساء ذلك اليوم، ولم تستطيع قواتنا من التقدم نحو الأمام إلا بعد ان أنسحب المخربون بأستغلالهم ظلام الليل، وبعد أن خلت القرية من أهالها بصورة كاملة - وأستمر الضابط في سرد التفاصيل فيقول - عند دخولنا القرية صباح اليوم الثاني لم نشاهد أثراً للمخربين ولا وجدنا أحداً من أهالي القرية سوى أسيراً واحداً كان لديهم تركوه بسبب أصابته جراء قصف الجيش العراقي للقرية وكان مصاباً في أحدى رجليه، وأخذنا نحقق معه حول أسره، وماهي معلوماته حول المخربين، فقد تبين من كلامه ان المخربين الذين كانوا داخل القرية هم من الشيوعين ويقودهم الملازم كريم من أهالي بغداد، وأثناء المعركة وبعد طلب المساعدات من قبل المخربيين داخل القرية سارعت مفارز من الحزبين الأتحاد الكوردستاني والديقراطي الكوردستاني لمساندة الشيوعين لصد هجوم الجيش العراقي. وفي سياق حديثه تبين لي مدى الجرائم التي أقترفها مرتزقة وأجهزة النظام البعثي ضد الأهالي العزل في المنطقة، وأوضح كيف حرق الجيش العراقي تلك القرية بعد ان نهب ما في داخلها وخارجها، وأستمر الضابط في كلامه : وبعد ذلك توجهنا الى القرى الباقية، وألقينا القبض على بعض العوائل وأرسلناهم الى مدينة جمجمال. وسألته ما مصير تلك العوائل؟ فقال : حسب أعتقادي أسكنوهم في جنوب العراق. عندما أقتربت السيارة من سيطرة الراشدية طلب مني السكوت وعدم التكلم في هذا الموضوع خوفاً من الذين يقفون في السيطرة لأنهم ينتمون الى الأجهزة الأمنية المختلفة، وبعد وصول السيارة في آخر المطاف الى ساحة النهضة، ونزل جميع الركاب ونحن من ضمنهم، ودعت الضابط مع شكره على المعلومات التي حصلت عليها منه حول قصف حلبجة وعملية الأنفال، وسبب تلك المجازر الوحشية التي حدث في عمليات الأنفال وقصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية من فبل النظام السابق في كوردستان، سعيا منه لمسح هويتها الثقافية وتراثها الحضاري المتجذر في عمق التأريخ وتذويب هذه المكونات في بوتقــة افكاره الشوفينية انطلاقا من نظرته العنصرية النابعة من الغاء الاخر.

 أليست هذه الجريمة أفضع كارثة إنسانية يدنى لها الجبين العالم، أليست هذه إبادة جماعية لمجاميع بشرية، أليست هذه وصمة عــار على منفذي هذه الجريمة البشعة، أليست هذه وصمة عار على الحكام والملوك العرب والمسلمين الذين وضعوا رؤوسهم تحت أقدامهم، فأي قلوب قاسية جرداء يحملون لا إحساس فيها ولا وجدان. إلم تهتز ضمائرهم أزاء تلك الجرائم الدنيئة، أليست هذه وصمة عــار على المحافل الدولية والأنظمة العالمية التي وقفت مــوقف المتفرج أمام مشهد هذه المذبحة الجماعية التي أبيدت فيها مئات الإلوف من الكوردستانين من المسلمين والمسيحين وأطياف أخرى من سكان تلك المناطق من قبل جلاوزة النظام البعثي.

 هنا السؤال يطرح !!! هل قصف مدينة حلبجة وعمليات الأنفال هي حقيقية أم خيال أم أكذوبة العصركما يدعي المنافقون؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com