أثار المؤتمر الذي عقد في الفترة ما بين 24-26 آذار مارس 2007 في زيوريخ بسويسرا، اهتماماً كبيراً من شرائح وهيئات سياسية واجتماعية مختلفة. كما أثار سلسلة من التساؤلات والتكهنات، وبالقدر نفسه من علامات الشك واللغط والاستفهام حول جدوى، وماهية، وأهمية وتوقيت عقد مثل هذا المؤتمر في هذه الفترة بالذات التي تشهد تحولات جذرية وخلخلة بنيوية بادية في المفاهيم الفكرية والمجتمعية السائدة تنبئ بعصر جديد ومختلف عما كان سائداً من قبل. خلخلة، وهزات محسوسة لا يمكن تجاهلها تذهب بقيم ومبادئ وأفكار، عفا عليها الزمان، وتأتي بأخرى أكثر مناسبة للعصر الذي نعيش فيه. إذ أن كثيراً من الإيديولوجيات القائمة باتت في مراحل من العجز والترهل والشلل الظاهر، وعدم القدرة على مواكبة مسيرة العصر والتكيف معها، كما أن الكثير من الأطروحات، والرؤى، والممارسات المخجلة، حيال بعض الأقليات والمكونات المجتمعية الأخرى، هي غير أخلاقية وخارج أي إطار قانوني، أو شرعية إنسانية ودولية متعارف عليها.
لا يمكن لنا، بادئ ذي بدء، نكران أن الاستبداد بشتى أشكاله السياسية، والفكرية، والاقتصادية هو العنوان العريض لمجمل السلوك العام في هذه المنطقة. هذا الاستبداد يطال فيمن يطال الأغلبيات قبل الأقليات. ولنا أن نتصور في هذه الحالة حجم الاستبداد الذي يطال الفئات الأضعف، والأقل عددا في هذه المجتمعات كالمرأة والأقليات. لا شك أنه سيكون عندها مضاعفاً وخطراً نظراً لتأطيره وإخراجه وحتى تبريره وفق بلاغات وإيديولوجية سماوية عصماء لا يأتيها الباطل من أي مكان. وهذا يتجلى ويتراءى لنا يومياً في حجم التهميش والإقصاء والاضطهاد وإخماد الأصوات الذي تتعرض له المرأة، وأقليات مختلفة في طول وعرض منطقة الشرق الأوسط بفعل سيادة المفاهيم القومية والدينية اللتان تعتبران وجهين لعملة واحدة، وبروز أقليات وجماعات لم نكن نسمع بها من قبل، وما خفي كان أعظم، و"ياما في الجراب يا حاوي" على حد تعبير المثل الشعبي.
الأقليات والتنوع والاختلاف والاختلاط واقع لا مفر منه في عالم اليوم، ووداعاً وإلى الأبد لممارسات العزل والغيتوهات وغريزة القطعان الواحدة المسيّرة بوحي من السماء، ولا بد من مواجهة هذا الواقع بآليات قانونية ودستورية عصرية وضعية تمكن الأقليات والمرأة من العودة للمجتمع ومن عودة المجتمع لها. فليست المعادلة المطروحة الآن هي الأقليات في مواجهة الأغلبيات، أو الأغلبيات في مواجهة الأقليات، أو في خلق أية حالة من الصدام بين هذه المكونات الوطنية، أو في إحياء نزعات استقلالية أو انفصالية ما، بل في ضرورة إحلال قيم ومفاهيم جديدة، والالتفات إلى المرأة والأقليات المهمّشة، بنفس القدر الذي يتم فيه التعاطي مع مختلف المكونات المجتمعية الأخرى، والتعامل معها من منظور وطني وإنساني وكبناة وأخوة وشركاء في الأوطان لا التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو رعايا، أو سبايا، أو ذميين.
ووسط هذا الضجيج الهائل من التحريض، والتحشيد، وحملات الردة والتكفير والتخوين والازدراء والاستعداء، لم يكن هناك من بد أمام تلك النخب الفكرية والعلمانية الإنسانية والليبرالية التي تداعت وحضرت المؤتمر، إلا أن تضع هذه المهمة الإنسانية النبيلة والعظيمة نصب أعينها في محاولاتها الحثيثة والرامية لبناء الدولة المدنية الحديثة التي تضع قيم المواطنة المقدسة والإخاء الإنساني في مراتب عليا وأولى اهتماماتها تلك القيم الكفيلة وحدها ببناء مجتمعات حرة، وعزيزة وقوية.
لقد أثار هذا عقد هذا المؤتمر جملة من الهواجس لدى البعض لجهة توجهات أقليات الشرق المستقبلية، هذه الأقليات، مع المرأة، عانت وما تزال قروناً من التهميش والإقصاء بسبب ثقافة سائدة لا تعترف ولا تؤمن بالآخر وتحكمها قيم الكثرة والغلبة وقوانين الذمة وحظر الردة. فلقد كان هذا المؤتمر مناسبة هامة، وفرصة لا تعوض لتجميع كل تلك المعطيات، والوقائع والأحداث، وحتى الممارسات التي ترتكب ضد الأقليات، والمرأة، والتي تعكس أوضاعها الحقيقية، والاطلاع عن كثب على معاناتها، والخروج بتقييم شامل وصحيح لأوضاعها، وبالتالي اقتراح الأفكار والرؤى والتصورات وبحث الميكانيزمات الكفيلة بالتقليل من، إن لم يكن بوضع حد للاضطهاد والتهميش الذي تتعرض له.
ولقد تم التعرف، أيضاً، ومن خلال هذا المؤتمر، على أقليات وجماعات إثنية وعرقية ودينية لم يكن يعرف عنها شيئاً، وإشكاليات جمة تكتنف وضعها، وتهدد مستقبل وجودها، وعبودية واسترقاق لمّا تزل تمارس بعد، في الألفية الثالثة. ولم يكن ذلك متاحاً البتة لولا التئام هذا المؤتمر، وإيصال تلك الأصوات المكبوتة وإخراجها إلى العلن، والذي كان الفضل الكبير في عقده لـ "أقباط متحدون"، ورئيسها البارع المهندس عدلي أبادير يوسف الذي نذر حياته، وجهده، وماله لهذه القضية الإنسانية العادلة، والهامة، وكان لتضحياته الجمة، وحضوره الحميم، وشخصيته الفذة، الأثر الأبلغ واللافت في دفع المؤتمر نحو غاياته المنشودة التي عقد من أجلها ألا وهي مناصرة قضية الأقليات والمرأة في الشرق الأوسط، وإظهارها إلى السطح، والتي يمكن اختزالهما بكلمة واحدة وعنوان واحد وهو الاضطهاد. هذا الاضطهاد الذي لم يعد مقبولاً، ولا مرغوباً في عالم يتحرر من أوهامه ومن كل ترسبات الماضي الإنساني البدائي ويسعي إلى أطوار جديدة من الحالة الإنسانية التي تقدس الفرد والمواطن الإنسان بعيداً عن أي تمييز واعتبار. كما كان المؤتمر مناسبة لالتقاء تلك الكوكبة المميزة من رواد الليبرالية والوطنية وعلى رأسهم الأستاذ الكبير سعد الدين إبراهيم الذي كان لنا الشرف التعرف المباشر عليه، وكان لوجوده أثراً في رجحان، وإضفاء عقلانية كبيرة على مجريات وحوارات وسير أعمال المؤتمر.
نحن إذاً أمام طور جديد وضاغط من حيث كيفية التعامل مع واقع يتراءى لنا فيه الآخر في كل حيز ومكان ويتعرض فيه للاضطهاد والتهميش والنكران. طور فرضه عصر العولمة والانفتاح ولم تعد تنفع معه كل المفاهيم والقيم التي وضعت في إطار المقدس والتابوهات. أطوار جديدة يؤمل ألا تعود بنا القهقرى إلى الوراء، البتة، وهذا ما حاول المؤتمر التأسيس له عبر هذا اللقاء.
ليست المهمة سهلة البتة، كما أن الطريق ليس معبداً بالورود والرياحين والغار، و"المناكفة" والنضال والتعب والشقاء، هما عناوين عريضة للمرحلة المقبلة التي سيتم التعامل معها بحلم وصبر وحكمة وإناة وإصرار على تحقيق شيء ما على أرض الواقع وحصد نقاط مهمة وإنجازات لقضية المرأة والأقليات. وفي المحصلة النهائية هي الخطوة الأولى الرائدة والجريئة في طريق مظلم، صعب وشائك، وطويل، إلا أنها، وحتماً، خطوة مباركة في الاتجاه الصحيح.