فقاعة التهديد التركي وكلام في صلب الصراع

قيس قره داغي

keys_karadaghy@hotmail.com

غالبا ما نسمع تهديدات شديدة اللهجة من لدن قادة تركيا العسكريين والمدنيين ضد التجربة الكوردية في جنوب كوردستان ( كوردستان العراق )، وخصوصا فيما يتعلق بمسألة كركوك التي تدخل الآن مراحلها الأخيرة في إرتداء الرداء الكوردستاني الذي عري منه عنوة، وكثيرا ما يبدأها العسكرأولا لتجترها بعدهم المسؤولين المدنيين الذين لا زالوا يعيشون في هامش الأحداث ضمن المنهج الكماليستي الذي سارت عليها تركيا منذ بنائها قبل ثمانين عاما من قبل الجنرال مصطفى كمال ولحد الآن ولا خيار لهم غير هذا ما دام العسكر يقودون البلاد من خلف الكواليس.

غير أن المسؤولين الكورد ظهروا في السنوات الأخيرة في وسائل الأعلام وهم يردون على تلك التصريحات الممغلفة بالتهديد بتصريحات لا تخلو من الجرئة مما يخلق في الطرف الثاني في تركيا ردودا فعل تقترب في أغلب الأحيان الى المبتذل من الكلام لا ترتقي الى كلام متبوئي المناصب الرفيعة في الدولة، والمثال الأخير يعتبر صارخا في هذا المجال، حيث ما أن ظهر رئيس كوردستان السيد مسعود بارزاني في لقاء مع فضائية العربية وردا على سؤال لمحدثه عن التدخلات التركية في الشأن التركي قال أن تركيا ( لو ) تدخلت في شأن كركوك فسيكون بأمكاننا آنئذ التدخل في شؤون المدن التركية وضرب مدينة دباربكر مثلا، ففقدت تركيا صوابها وطفى على سطح الفضائيات مسؤولون أتراك ومنهم رئيس الوزراء عبدالله كول وقال بأن البارزاني سيدفع ثمن تهديده غاليا!!

في البدأ يتبادر الى الذهن السؤال التالي، ترى هل ستتطور هذه التصريحات المتبادلة الى صراع في الميدان أم تبقى حربا كلامية باردة في معناها الحقيقي وحارة في تأثيرها الحقيقي على مصداقية الطرف الذي يعني مايقول؟.

بعد الإجابة على السؤال الأول علينا الإجابة على السؤال الأهم وهي ماهية الآليات المتاحة لكل طرف في الخروج منتصرا في آخر المطاف.

 عموما لا يمكن الخضوع الى الرأي الذي يأرجح تطور الأمر الى عمليات عسكرية في الميدان بعد التمعن الى خارطة الوضع وإشكالياتها في المنطقة بصورة عامة وشبكة العلاقات والمصالح الدولية والأقليمية فيها ووجود الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة كلاعب أساسي وخصوصا أن أية عملية حريبة في منطقة كوردستان ستعني إلصاق الفشل الذريع لسياسة الأخيرة في المنطقة وهذا ما لا يمكن السماح به أمريكيا، وعليه علينا الوقوف عند حدود أمكانيات التدخل، تركيًا في كركوك وكوردستانيا في كوردستان تركيا.

مسألة كركوك فيما يتعلق بهضم حقوق التركمان والتي تتبجح بها تركيا وتستخدمها كقميص عثمان ليست بمسألة حديثة، فالضربة القاضية التي تلقفها التركمان في كركوك كانت في عهد النظام السابق بعد ما أخليت دورهم أسوة بالكورد وأعطيت للعرب المستوطنين ضمن سياسة التعريب التي أستمرت أكثر من ثلاثة عقود من الزمن كانت علاقات تركيا أثنائها في أحسن أحوالها مع ذلك النظام ولم نشهد يوما حتى كلمة عتاب منها توجه الى النظام السابق لئلا تتعرض مصالحها الإقتصادية الى النكوص والخسارة في حالة الإمتعاض العراقي، فالسياسي التركي الوحيد الذي كان يشير الى مظلومية التركمان أحيانا ولكن في حدود أعلامية محدودة جدا كان الراحل تركيش آبسلان الذي كان يرأس حزب قومي متطرف يعيش في هامش الأحداث ولم يفز يوما بأكثر من خمسة مقاعد في البرلمان التركي، ولكن الصياح التركي الذي يصم الآذان ليس لكركوك ولا لتركمان كركوك كما يبدو، فكل ما تصبو تركيا إليها في هذا المضمار هو ضرب التجربة الكوردية في جنوب كوردستان فهي تتوجس من هذه التجربة أن تتطور الى دولة كوردية قابلة لتصدير تجربتها شمالا وهذا ما سيحدث وفق آلاف المقالات والآراء المطروحة من قبل ذوي الأختصاص والعامل الثاني الذي يحرك تركيا ويجعلها في موقف الأرتجال السياسي دائما خسارتها لمصالح إقتصادية عملاقة كانت عليها أن تستثمرها في العراق المقولب في هذا الرداء الجديد وبالمقابل ترى تركيا بأم عينها ندها إيران كيف وضعت شبكة من العلاقات الأخطبوطية في عموم العراق رغم العداء المستحكم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية ومرد خسارة تركيا هنا تعود الى إنها وضعت ثقلها في الجبهة التركمانية التي لا تعدو حدود إمكانياتها في العراق مقعد واحد في العراق كما أصبح معلوما في الإنتخابات النيابية التي جرت في العراق، وقد نبه الصحافي التركي المشهور محمد علي ميراند السلطات التركية بهذا الصدد في برنامجه الخاص في قناة سي إن إن التركية قائلا، أن بلاده يرتكب خطأ كبيرا حينما يغض الطرف عن البارزاني والطالباني ويتشبث بعناصر ضعيفة في الجبهة التركمانية وأضاف في نفس البرنامج الذي قدمه عقب مشاركة له في مؤتمر للمعارضة العراقية في كوردستان قبل سقوط نظام صدام حسين، انه يتنبئ للبارزاني والطالباني مستقبلا مهما في العراق الجديد وسيكون لهما الثقل الأكبر في رسم السياسة العراقية ولكن كما يبدوا أن بلاده قد أصم أذنه أزاء نصائحه ونصائح الآخرين.

وعلى ذلك الأساس فان المنفذ الوحيد لتركيا للتدخل في مسألة كركوك هي الباب الضيق لصنيعتها ( الجبهة التركمانية ) الذي لا يتسع بدخول دولة بحجم تركيا من خلاله، وليست هذه المرة الأولى التي تتدخل تركيا في شؤون الآخرين، فتدخلها العسكري وإجتياحه لجزيرة قبرص في 1974 ترك أثرا سلبيا لها في الذاكرة وها نرى أتراك قبرص الآن يناشدون تركيا بالكف عن الحديث عن شؤون قبرص وتركه وشأنهم كي يحتلوا موقعا لهم في نادي الإتحاد الأوروبي، وربما لا تدرك تركيا أن لتركمان العراق عدد غير قليل من الأحزاب التركمانية خارج الجبهة التركمانية متفاعلة مع الوضع العراقي والكوردستاني في آن واحد ولا تريد لتركيا التدخل في شؤون التركمان بأي شكل من الأشكال وغالبا ما يقولون أن تركمانيا واحد لم يسجن لسبب سياسي طوال فترة تشكيل حكومة أقليم كوردستان في 1992 ولحد الآن ما يجعل مظلومية التركمان والدفاع عنهم حسب ما تدعي تركيا مبررا غير مقبولا من جهة وجعل آلية تركيا في التدخل في مسألة كركوك ضعيفة جدا.

ومن آليات تركيا التي تبرزها بشكل مباشر أو غير مباشر بين الحين والآخر هي إمكانية فرض الحصار الإقتصادي على كوردستان ولكن بمجرد التفكير بأهمية هذا التهديد يتوصل الفرد الى إكتشاف نكتة حقيقية، فتركيا هي المستفيدة من الوضع في العراق بشكل عام وكوردستان العراق بشكل خاص فهنالك العشرات من الشركات التركية تنشط في مدن كوردستان يمكن الأستغناء عنهم والإتيان بشركات أخرى تابعة للدول الأقليمية أو حتى الدول الأخرى وإيران ترحب بهكذا فرصة وتستغلها بسرعة البرق، وفي نفس السياق يجب على تركيا وعلى المدى البعيد أن تفكر بمصير الأنابيب النفطية التي توصل نفط كركوك بموانئها مقابل أموال طائلة وطائلة جدا، فهنالك خطوط أخرى أقل تكليفا عطلها النظام السابق لأسباب خلافات له مع سوريا كما هو معروف، وإذا كانت تركيا تعتبر أراضيها نافذة لكوردستان على العالم فنقول أن هذه الفكرة باتت قديمة في الضروف الراهنة بعد سقوط النظام السابق حيث ترحب وتعترف كافة الدول الأقليمية بما هو قائم في كوردستان وزيارة الرئيس مسعود بارزاني الى الرياض تصب في هذا المعنى، فمن الممكن أن تنفتح كوردستان على سوريا وإيران والدول الأخرى عبر الجنوب العراقي والخليج العربي، تبقى مسألة عدم تكافؤ القوتين العسكريتين وهذا ما أستبعدناه من البداية لأن تركيا لا تتمكن من إجتياح العراق ولا حجة لها للشروع بذلك ولا المجتمع العالمي تسمح لها أن تفعل ذلك ولا الضروف باتت نفس الضروف التي كانت تسمح لتركيا بالإجتياح لمرات عديدة أبان تسعينات القرن المنصرم بحجة متابعة مقاتلي حزب العمال الكوردستاني ولو فعلتها فستكون قد رمت مصير الكماليستية برمتها في زاوية حرجة لا يمكن الأنفلات منها نظرا للمستجدات التي تتوجه سهامها ضدها ناهيك عن الإقتصاد التركي الهش والمتآكل الذي لا يصمد أمام أسبوعين من الحرب الفعلية التي لا نستبعد أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية أحد طرفيها.

بالمقابل، لا بد لنا الوقوف قليلا أمام تصريحات السيد مسعود البارزاني التي قالها مؤخرا في برنامج قناة العربية، فنقول أن الأوراق التي يمسكها الأخير هي الأقوى، فهو على عكس تركيا التي تركن في اللعب مع مجموعة صغيرة من تركمان الجبهة التركماني فهو يتعامل مع عشرين أو أكثر من كورد تركيا وهم منتشرون في أصقاع تركيا بدءا من أستانبول ومرورا في العاصمة أنقرة وإنتهاءا بمدن كوردستان تركيا، فنسبة الكورد في أستانبول وحدها وهي العاصمة الثقافية والصناعية لتركيا تبلغ ( 45 % ) من نسبة سكانها معظمهم هاجروا إليها بعد تدمير قراهم أثناء حرب تركيا مع العمال الكوردستاني أبان الثمانينات والتسعينات، وهذا العدد الهائل فقدوا شيئا من كاريزما رئيسهم الأسير عبدالله أوجلان ومن الممكن إيجاده في شخصية البارزاني، وهم بعد ألقاء القبض على رئيسهم نتيجة لقرصنة دولية أشبه ما يكونون بكرة من البارود لا تحتاج إلا شرارة صغيرة لتنفجر وتشعل نارا يصعب إخمادها، ومن مراكز قوة البارزاني إلتفاف التركمان الحقيقيون حوله والدخول في العملية السياسية التي يتبناها في كوردستان، فالسياسة الكوردية وخصوصا سياسة الحزبين الكبيرين الديمقراطي والوطني الكوردستانيين هي سياسة لينة مفتوحة بإمكان غير الكورد المشاركة فيها بفعالية وقد نجحت هذه السياسة في كركوك بوجه الخصوص بعد أن تمكنت من إحتواء عدد كبير من التركمان والعرب والكلودوآشوريين حول قائمتها الفائرة بفعل تلك السياسة بمجلس محافظة كركوك، ولكن ماهو أهم من هذا وذاك فإن خطة تطبيق المادة 160 هي من صميم الدستور العراقي الدائم فلا يمكن لكائن من يكون سواء من داخل العراق أو خارجه العمل ضد الدستور وتعطيل تلك المادة التي صوتت لها من قبل العراقيين، فتركيا نفسها تقيم الدنيا وتقعدها إذا تكلم أحد عن دستورهم، فهي أحالت أحدى عضوات برلمانها ( ليلى زانا ) الى المحاكمة لإنها أقسمت اليمين الدستورية باللغة الكوردية التي تعدها لغة ممنوعة في الوقت الذي يتكلم بها أكثر من عشرين مليون مواطن وهو عدد أكثر من نفوس عشرات الدول العضوة في الأمم المتحدة.

لهذه الاسباب ولاسباب أخرى لايمكن الوقوف عندها بهذه العجالة نرى أن تصريحات المسؤولين في تركيا وإجتماع المجلس الأمني التركي لا تعدوا حدود البهلوانيات الكلامية، فمن الواضح أنها أزدواجية السلوك، علنا تبرز العضلات وفي الخفاء تنظر الى مصالحها التي لا يستحسنون تدبيرها كما يبدو وتحسب لها ألف حساب.

الأيام القليلة القادمة تشهد العلاقات بين تركيا وكوردستان تطورا سنشهدها حول طاولات البحث بينهما، ولا نستبعد أن تتراجع تركيا في مطاليبها المبالغ فيها أزاء كركوك مقابل تطوير علاقاتها الأقتصادية في كوردستان والعراق، وتنقشع الغمامة في سماء التوتر القائم، هذ ما أراه فلننتظر.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com