|
لهذا تكرم الهند في معارض الكتاب العالمية د. عبدالله المدني / باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية elmadani@batelco.com.bh في معرض الكتاب الدولي الذي انطلقت فعالياته في العاصمة الفرنسية في الثالث و العشرين من مارس و اختتمت قبل أيام قليلة، حظيت الهند بتكريم رفيع وسط احتفالات فلكلورية و ندوات ومحاضرات متتالية شارك فيها كبار رواد الفكر والإبداع الهنود، و ذلك اعترافا من المنظمين بتراثها الثقافي و الأدبي الغزير و حضارتها الغنية و دورها في صناعة الكتاب و ترويجه. و كانت الهند قد حظيت بتكريم مماثل في معرض فرانكفورت للكتاب في العام الماضي (احد أضخم معارض الكتاب العالمية و احد أهم المناسبات للتبادل و التواصل الثقافي في العالم) حينما اختيرت كضيفة شرف من بين 110 دولة مشاركة، لتصبح البلد الوحيد الذي نال هذا الشرف مرتين (المرة الأولى كانت في العام 1986 ) منذ البدء في إقامة هذا المعرض قبل 59 عاما. و الحقيقة أن هذا لم يكن غريبا بالنسبة لبلد يطرح في الأسواق كل عام ما معدله 200 ألف عنوان في مختلف حقول العلم و المعرفة و بشتى اللغات الأربع و العشرين الرسمية في شبه القارة الهندية، و من ضمنها بالطبع اللغة الإنجليزية. و إذا كان المطروح من هذه العناوين باللغة الإنجليزية قليل بالنسب المئوية ولا يتجاوز معدله السنوي 15 بالمئة، فانه بالرقم المطلق كبير ويصل إلى نحو 30 ألف عنوان، أي ما يفوق بثلاثة أضعاف العدد الكلي لنتاج العالم العربي السنوي من العناوين و الذي معدله 8 آلاف عنوان كل عام و بنسبة تقل عن 1% من إنتاج العالم. و بين هذه المؤلفات المكتوبة بالإنجليزية روائع أدبية صيغت بأسلوب يتفوق على أسلوب أهل اللغة الأصليين، على نحو ما ظهر في رواية " آلهة الأشياء الصغيرة" للقاصة الشابة "أرونداتي روي" مثلا التي فازت بجائزة بوكر البريطانية لأفضل رواية بالإنجليزية في عام 1997. ومن ناحية أخرى، و خلافا للسائد في دول الغرب الرائدة في صناعة الكتاب و نشره التي تلجأ أولا إلى طرح طبعات فاخرة لمؤلفات مبدعيها في الأسواق و لا تطرح الطبعات الشعبية رخيصة الثمن إلا بعد مضي بعض الوقت، فان الهند تفتخر بأنها دأبت على فعل معاكس منذ عام 1946 ، و ذلك بهدف إيصال المؤلف فور ظهوره إلى أوسع قطاع من القراء، لا سيما و أن المتعلمين من الهنود شغوفون بقراءة كل ما تطاله أيديهم كجزء من عادة متوارثة لم تستطع كل المؤثرات و التحولات حتى الآن أن تصرفهم عنها. و لنا في قصة رئيسهم عالم الصواريخ و الذرة ابوبكر زين العابدين عبدالكلام خير مثال. حيث تروى سيرته الذاتية انه قضى طفولته و صباه يبيع الصحف على أرصفة الشوارع من اجل أن يوفر بعض النقود للإنفاق على شراء الكتب المستعملة، بل كان يقضي كل أوقات فراغه في حانوت للكتب في قريته محاولا قراءة اكبر عدد من المؤلفات في شتى مجالات المعرفة. و إذا كان هذا مثال من الماضي يوم كانت الهند في بداية مسيرتها التنموية المرهقة، فان المثال المستمد من الحاضر هو الملايين من الطلبة و الموظفين الذين تزدحم بهم أرصفة و أكشاك بيع الكتب الممتدة لعدة كيلومترات في قلب بومباي مثلا، حيث يجد المرء كل ما يخطر أو لا يخطر على البال من المؤلفات المستعملة والجديدة بأسعار تقل عن أسعارها الأصلية بنسب تتراوح ما بين 20-60 بالمئة، هذا علما بأن بومباي تبدو شيئا لا يذكر مقارنة بكلكتا سواء لجهة دور النشر أو أسواق الكتب أو جمهور القراء. أما الهنود غير المتعلمين، فالثابت أن إبداعات مواطنيهم - الأدبية على الأقل - تصلهم أولا بأول من خلال السينما التي تعتبر هي الأخرى صناعة ناجحة وطيدة الأركان و تنافس من حيث الكم والإيرادات وعدد المشاهدين مثيلتها الأمريكية. فمعظم النتاج الروائي الهندي ما يلبث أن يظهر على الشاشة في صورة فيلم سينمائي، من خلال علاقة قوية و منظمة ما بين دور النشر و اتحاد الأدباء و أرباب صناعة السينما في بوليوود. و من هنا لم يكن غريبا أن يصاحب اشتراك الهنود في معارض الكتب العالمية كمعرضي باريس و برلين عروضا سينمائية للأفلام الهندية المستوحاة من روايات كتبها رموز الأدب الهندي سواء في الوطن أو المهجر. ثمة أمر آخر جدير بالذكر، و ربما لاحظه كل من زار أجنحة الهند في معارض الكتاب العالمية في السنوات الأخيرة و قارن تطورها من عام إلى عام، و نعني به استثمار الإنجازات التي حققتها وتحققها الهند في مجال تكنولوجيا المعلومات و البرمجيات في صناعة الكتاب و ترويجه و تسهيل عملية البحث عنه واقتنائه، و بصورة انتهت معها الفجوة التي كانت تفصل ما بين دور النشر الهندية الكبرى و دور نشر عالمية مثل دار جامعة أكسفورد مثلا. ومن المفيد في هذا السياق أيضا الإشارة إلى أن ازدهار صناعة الكتاب في الهند يحدث في الوقت الذي لا يزال نحو 40 بالمئة من السكان في عداد الأميين، بدليل أن المستثمر فيها يفوق حاليا 75 بليون روبية مع حصيلة صادرات بلغت العام الماضي أكثر من 4.5 بليون روبية مقارنة بنحو 330 مليون روبية فقط في عام 1991 . و الأمر المثير حقا أن معظم الصادرات الهندية من الكتب كانت باتجاه دول العالم الأول. و لعل هذا، معطوفا على أجواء الانفتاح الاقتصادي في البلاد وتفوق الهند في صناعة البرمجيات و المعلوماتية، هو ما حفز دور نشر عالمية رائدة مثل ماكميلان وبنغوين و جون ويلي و طومسون و سبرينغر إلى دخول صناعة الكتاب في الهند واتخاذ الأخيرة كمركز لأنشطة ما قبل الطباعة. الأمر المؤسف حقا هو أن لا شيء من هذا المنتج الثقافي الهندي المكتوب باللغة العالمية الأولى يصل إلى أيدينا في منطقة الخليج و الشرق الأوسط رغم غزارة عدده و ثراء محتواه و تنوع موضوعاته، و رغم وجود أعداد متزايدة في صفوفنا ممن يجيدون القراءة بالإنجليزية. و هذا بطبيعة الحال يعكس مدى ضعف روابطنا الثقافية مع هذا العملاق الصاعد الذي كان في حقبة ما قبل النفط ليس فقط مصدر رزق آبائنا وأجدادنا بل و أيضا مصدر تعليم و ثقافة الرعيل الخليجي الأول، و منبع إلهامهم و انفتاحهم على ثقافة الآخر وحضارته و معرفتهم بأساليب الحياة المتمدنة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |