تقسيم بغداد و"خط البرغل"

رد على مقال الأخ فؤاد طعمة نوري

د.علي ثويني

thwanyali@hotmail.com

من أغرب ما تسمع في دنيا الغرائب العراقية، دعوة الأخ فؤاد طعمة نوري في مقاله (من اجل مادة دستورية لاستعادة الطابع الحضاري لبغداد)، يدعو فيها أن يعاد كل وافد لبغداد إلى أصوله،وتركها لأهلها "المتحضرين" خشية من فساد "دمائهم" وطبعهم وضياع أعرافهم.وعلاجه المطروح جاء إقتفاءا بالتقسيم العنصري في  كركوك بحسب ماتدعيه (المادة 140) من الدستور الملفق. وأقترح الأخ المثقف إخراج من ورد بغداد، أو تقسيمها الى مدن عنصرية بحسب الإنحدار والأصول.

قبل أن ابدي رأيي بالأمر جدير أن أعرج على تاريخ بغداد ، ومن لم يعرفها اليوم فعمرها بلغ 1245 عام،حيث تأسست عام 762م، وكانت تدعى (دار السلام والزوراء وأم الدنيا أو صرة الدنيا)،وهي وارثة بابل بإعتداد،واصل أرضها تعود لنصارى عراقيين جثليق(كاثوليك) ،ووصل سكانها في القرن العاشر الى مليوني ساكن وكان إستثناء في تاريخ التحضر البشري. و  تعرضت للكوارث آخره سقوطها عام  1258م، ثم الإحتلالات التركية والفارسية منذ العام 1508م،وقل سكانها وكادت أن  تدرس بعد فيضان وطاعون داود باشا الكرجي عام 1831، والذي خفض عددهم الى 11 الف نسمه ، و مكث يسكنها من بقى على قيد الحياة من اليهود والنصارى، بسبب إتباعهم الحمية (الكرنتينه) أو الحجر الصحي، على عكس المسلمين الذين كانوا يسجون المريض وسطهم ويندبوه تقبيلا،  فيصيبهم الداء ويموتون بعد حين، مما تداعى في إنقراضهم. وهكذا لجأ على أغا الوالي التركي الذي خلف داود باشا ، أن يغري سكان البادية بالسكن في بغداد،دون طائل، وخاطب عشائر ديالى ولم يردوا، وحاول إستجلاب بعض أهل الجزيرة،دون كبير أثر،وهكذا مكثت بغداد حتى بواكير القرن العشرين تشكوا من قلة السكان ولم تزد عن 80 ألف ساكن جلهم من اليهود والنصارى العراقيين الأصلاء.

حكم داود باشا ورهطه بغداد ثمانية عقود(مملوكية) إبتداءا من سليمان باشا ابو ليلى عام 1750م، ،وكانوا قد أستجلبوا أطفال،بعدما بيعوا في سوق العبيد في (تبليسي-تفليس) عاصمة جورجيا ،وأشتراهم الولاة الأتراك لأستعمالهم في معادلة الولاءات التي لاتضمن من طرف الأهالي أو من أجل قمعهم عند القلاقل . وتبغددوا هؤلاء العبيد بعد حين وتصاعد وجودهم وثرائهم ويعرف الجميع أن السياسي(حكمت سليمان)، هو أحد أحفاد سليمان باشا الكرجي ،قد ملك نصف بغداد الشرقي ، وباع أجزاء منه للحكومة العراقية بملايين الدنانير في الأربعينات ، وسخرت في مخطط توسعة بغداد بحسب خطة (دوكسياديس) الأمريكي. وهكذا وبحسب ما يذهب له الأخ فؤاد فأن حكمت سليمان رئيس الوزراء في العهد الملكي الذي  ورد أجداده  كعبيد ، يعتبر بغداديا "اصيلا"  بالمقارنة مع (الشراكوه أو المشاهدة والحلاوية والفراتيين أو المصلاوة أو التكارته والسوامره  والكركوكليه والفيلية) ممن وردوا  بغداد ليعتاشوا في بقعة أخرى من وطنهم العراقي الكبير.

ولم تنتعش الحياة في بغداد  إلا في نهاية العشرينات وبواكير الثلاثينات من القرن العشرين، حينما وردوا أهلنا من شتى قرى العراق،بسبب تمثيلها عاصمة البلاد والأهم بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت اطنابها وتجلت في الريف العراقي حصرا وساعد على تفشيها  الشيوخ في الوسط والجنوب والأغوات من الإقطاعيين في الشمال،مما جعل الريف العراقي منذئذ موقع نبذ بشري، وأمست بغداد بؤرة استقبال.وهكذا فأن أي من البغداديين يقول بأنه  من أصول قديمه (أكثر من قرن ونيف) فهو مبالغ أو كاذب،فلم تكن بغداد إلا قرية، أنعش الحياة فيها القادمين من الريف ، الذين هاجنوا المصلحة مع سكانها الأصليين من اليهود والنصارى. وباختفاء اليهود بعد التسفير الظالم ضاع منها نصف النصاب، ثم رحل عنها جل النصارى ،وبذلك فان دعوة الأخ فؤاد لاتمت للحقيقة بصلة،وان كان هو بغدادي كما يدعي، فليجمع أقرانه، فسوف لايشكل معهم نصاب قرية صغيرة .

هذه الأحجية تذكرني  بقصة كنت أسمعها وأنا صغير عن  شخص من عتاة العروبة في العهد الملكي يدعى (عمر علي) تفتقت قريحته وروج في حينها لاصطلاح (خط البرغل) مدعيا فيه أن ثمة خط جغرافي عرضي وهمي يمر شمال مدينة بغداد  و يفصل فيها جنوب العراق ووسطه عن شماله  .وقد أراد من خلال ذلك "الإكتشاف" استجلاء أسباب الذكاء والفطنة وروح الإقدام الفطري الذي يتمتع بها القوم الساكنين فوق هذا الخط على عكس من أوقعه حظه العاثر و يولد جنوبه بما يتقمصه من تخلف وغباء وبدائية وجبن وابتذال. والمبرر "العلمي" بأن أهالي شمالي الخط يتناولون (البرغل) كغذاء رئيسي بينما جنوبه يتناول أصناف أخرى كالرز والخبز الذي لا يساعد على تطوير ملكات الفطنة  . وقد دافع الرجل عن نظريته هذه مستميتا حتى فطس في بواكير السبعينات .

وقد فات (عمر علي) أن يطلع على ابسط المكونات "الكيمياوية" المتعلقة بمحتوى مادة القمح التي يشترك الخبز والبرغل بها .لكن الرجل "الحصيف" أراد أن يصنع له خطا حتى ولو كان من (برغل). ويعرف العراقيون من الأجيال السابقة شخصية هذا الرجل ولاسيما من العسكريين. فهو من الضباط الذين تعلموا عند العثمانيين،و أحد المشاركين في انقلاب بكر صدقي عام 1936 ثم حرب فلسطين 1948 ،ويشهد له بعضهم بحماسته في الحرب وعروبيته المتأججة، بالرغم من أنه من عائلة "غير عربية" من كركوك.ثم تبوأ عدة وظائف مدنية وعسكرية في حقبة الخمسينات ،ثم أعتزل الحياة السياسية بعد قيام ثورة تموز 1958.وعندما مات سار وراء نعشه رئيس الجمهورية حينئذ أحمد حسن البكر ،بإيعاز خارجي،"وردت بالشفرة" ،لكون الرجل ناشط في الحركة الماسونية.

وعلى خطى (عمر علي) سار البعض ومنهم حتى صدام الذي فرز الكرخ والأعظمية كمحميات "سلطوية" .وأن شارع حيفا كان يمكن أن يبنى في الزعفرانية أو بغداد الجديدة أو الغزالية أو أبو غريب، لكنه أراده على تخوم قصوره والأهم في الكرخ  كونها تشكل بؤرة "عروبية- سنية"، سكنها أهل غرب وشمال بغداد منذ أقل من قرن وعقودها تفصح عن إنحداراهم ،وأسمائها:  (التكارته والسوامرة والدوريه والعانية..الخ) وجلهم من أصول شتى غير عربية،وانتقل من ترفه منهم الى الأعظمية، وقد كان نصابها واضحا في أحداث إنقلاب شباط الأسود 1963،وانقضاض البدو على سدة الحكم،وإشاعتهم عقلية البداوة التي هي رائجة اليوم .

 كان ومازال التشرذم غاية القوميين والطائفيين المنتهزين لفرصتهم في سلطة اليوم. و كنا قد لمسنا بعد ثورة تموز 1958 شيوع النزعة الوطنية العراقية، واضمحلال التشرذم ،وسمت الى القمة وأينعت في بداية السبعينات ولاسيما بعدما شرعت سلطة البعث إلغاء الألقاب الذي كان الأنجح في تاريخ العراق الحديث ،وهو توجه كرس المواطنة وحد من سطوة النظام القبلي. لكن الاعوجاج في "ذيل الكلب" يجب أن يمكث ،و عاد فعلا منذ الثمانينات حينما أجبر الناس في  البحث عن "عمامهم"و"قومياتهم" وطفقوا يفبركوا أشجار العشائر الملفقة، وشاع النسب النبوي الشريف إقتفاءا بصدام "إبن أبيه"،ونعرف الكثيرين اليوم من الرعاع ممن أدعى أنه (سيد) هاشمي ،مجافيا لأي حقيقة،ومنهم حتى إبن خالي(ياسر) الساذج ،والغريب في الأمر ليس الرعاع من هؤلاء، بل دجال و كاتب  ينتحل لقب (بروفيسور) ونعرفه أنه كان (معلم) في العراق ، و لم يكن أهله "سادة" البته.

وهكذا طفق متهافتي النفوس رصد ما يميزهم عن الآخرين من عرق ولون ودين ومذهب ومدينة وقرية و حي وزقاق و دار، أو بغداديين أصلاء و"فالصو"، وقد سمعتها من الفلسطينيين المؤيدين لصدام بأن يجب التمييز بين العشائر العربية الأصلية والمزورة في العراق. وإذ اقر أن جيلي كان لايعرف العشائر أو الطوائف،وكنا حينما نتلاطف ونمزح، نشتم العشيرة أو المذهب، ،كونه لايشكل أمر ذو قيمة.

تذكرني قصة البرغل ودعوى السيد فؤاد بقصة أوردها إبن خلدون في (كتاب العبر) حينما ذكر عن سيرة الأسكندر المقدوني(ذو القرنين) وبعدما استتب له الأمر في بابل، طلب من أستاذه أرسطو أن يرشده الى الخطوة القادمة من الحكم، فاشار إليه بأمرين أولا أن يقسم الناس الى طوائف كلدان وآراميين وآشوريين وفرس وغيرهم،ويشعل روح التنافس  ثم التناحر بينهم ليلهيهم عن شأنه،والأمر الثاني أن يختار من بينهم حثالاتهم وسقط متاعهم ويبوئه منصبا ساميا ، فهذا وطبقته سيكون متشبثا بالمنصب، مدافعا عنه وبالنتيجة حاميا لسلطة الأسكندر الذي نصبه، وهو مايحدث اليوم مع الأمريكان ومنصبيهم من القوميين والطائفيين.

كان الأمر عينه قد حدث  بعد كل احتلال ابتداء من الإنكليز بعد الحرب الأولى ثم الحالي وحتى لعبة إيصال سلطة البعث الى سدة الحكم (بقطار أمريكي) تدخل في نفس الإطار،والكل يعلم أنهم (ونموذجهم طلفاح) شكلو الطبقة الساقطة من المجتمع العراقي. ويبدو أن الأمريكان قرأوا التاريخ وأتعضوا من (عبر) إبن خلدون،وها هم يقسمون الناس الى عرب وتركمان وأكراد وسنة ومسيحية وصابئة ويزيدية وشيعة، وبذلك فهم في مأمن من روح الإنعتاق والحياة الجماعية والإنتماء المشترك.  

لقد اعتنق أهلنا مبدأ (الوحدة العراقية) أجيال بعد أجيال، مثلما آمنو بالدين ،و أدركوا من خلال الإطلاع والتنوّر، أن هذا البلد كان دائما واحدا وأن حضارته المتعاقبة بنيت خلال وحدته ،وأن مصدر الدماء هو الماء ،وأن شرب العراقيين لماء الفراتين وحد دمائهم ،والأهم أن أي تقسيم أو فدرالية في مكان يعني إستحواذ وقطع شرايين الأجزاء الأخرى ،فالعراق تحكمه مصلحة الجغرافية أكثر من أصول الناس ومصالحهم الضيقة. والعراق كان  أرض مشاع لكل من جاع في الأصقاع وولجه معدما لائذا،فمنهم من تفرعن وطغى ومنهم من شكر النعمة وهادن.وإذا راجعنا  سيرة كل من طغى في حكم العراق أو تجبر أو فرز أو فرق نجده منحدرا من أصول خارجية، أي دخيل على مبدأ ابو الحسنين (ما تعصب إلا دخيل) ،ومشكلة هؤلاء انهم شحنوا منذ الصغر بعاطفة التشرذم والإستحواذ والإغتنام وروحية العقود و الحارات (الكيتو) الذي عادة مايعاكس الشعور بالإنتماء الجمعي. والمصيبة أن الأكثريات أنجرفت وراء تلك الأحجية الإبليسية، ومنهم بعض المتنورين.

وهكذا وبعدما كان (خط البرغل) محل تهكم أهلنا ، ظهر  الى السطح اليوم رهط أرسى  خطوطا  و نسج خيوطا، تفوق خطوط (العلي) الساذجة وبرغله.فقد وجدوا في جرائم السلطات  ذريعة لاستجداء العطف المبطن ،الشاحذ للاقتطاع  و المكرس للفواصل وطالب كل إقليم ومحافظة، فدرالية خاصة به،وكل تجمع سكاني بحقه في تقرير المصير،كما نسمع ما أراد بعضهم بالنجف أن تصبح مثل الفاتيكان ناهيكم عن مملكتي أربيل والسليمانية الواهيتين. وعلى "دق الطبل" ،خفت أرجل القوم وتحركت غرائز الأنا والأمر سيان فالبارحة إستحواذ بعثي عروبي واليوم قومي وطائفي فما الضير والمانع من أن نطالب بحصة من الكعكة .

سكان بغداد اليوم الذين يريد أن يطردهم الأخ فؤاد هم العبيد والفقراء الباحثين عن لقمة العيش من سكان العراق الأصليين القادمين من أصقاعه الشتى ، والمتسلطين والطغاة دائما كانوا من أصول غريبة. وللعلم فأن كل مبدعي بغداد وأعلامها من أصول غير بغدادية،ونجد ثقافة الريف قد عمت بغداد منذ الستينات ،ثم تلتها الثقافة البدوية أيام البعث،واليوم أهل بغداد يتكلمون لهجة بدوية على خلاف ما كنا نتداوله قبل أربعة عقود. أما اللهجة البغدادية اليوم فهي هجينة وغير أصلية وتكونت منذ اقل من قرن، أما الأصلية فهي شبيهة بلهجة أهل الموصل وتكريت ، ومازال القليلين من النصارى يتقنها اليوم،وتحتاج الى جهد معرفي أكاديمي لتدوينها قبل الإنقراض.

أن إعادة الروح للهجة أهل الجنوب في بغداد هي محض إشعار بالإنعتاق،ولاضير في الأمر أوفرق لدينا بين هذه اللهجة العراقية أو تلك فالدنيا دوارة والتاريخ الإجتماعي واللغوي سجال تتداوله الأجيال.وهنا أشير الى أن لهجة أهل الجنوب هي من ضمن أجمل لهجات العراق ،كونها أحتفظت بتميزها و بمخارج اللفظ الآرامي ،وهي حبلى بالكلمات السومرية والأكدية والآرامية من تراثنا المحلي وغير الواردة من الأعراب أو التتر أو الفرس أو الكرج أو الأنكليز كما لهجة بغداد،وفي ذلك شجون،سنكتبها تباعا.

وجدير أن ننبه هنا أن القوقعة والانطواء على الذات ، سوف  لا يضمن لأحد السلامة،وحتى صدام بما أنتابه من شعور بالأقلية، لجأ بسببها في استعمال فقراء اهلنا في بغداد كدروع بشرية من أجل حماية سلطته، لكن الأمر لم يطيل عمرها ،فقد تخلت عنه الجموع عندما جاء الأمريكان. والأمر عينه سوف يحدث في كركوك، فسوف لن يدافع عن برزاني عراقي واحد وأنا أولهم ،وسيتخلى عنه حتى حراسه الشخصيين حينما تقع الواقعة. وهنا نقر بأن يمكن للبعض أن يخدع البعض لبعض الوقت،لكن الأمر لايدوم طويلا، ولا يصح إلا الصحيح، وتبقى بغداد أم العراق، والعراق مثل الجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعي إليه بقية الجسد بالسهر والحمى.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com