شخبطة على الحائط

الخاتون المس بيل بل فلنذكرها بالخير

 

توما شماني – تورونتو / عضو اتحاد المؤرخين العرب

tshamani@rogers.com

المس بيل امرأة فريدة زمانها جمعت بين العلم واللغويات والدبلوماسية في بداية العشرينات من القرن الماضي، كانت متقدمة بالاركلوجيا اي علم الآثار والحفريات ومتضلعة باللغويات وفوق ذلك كانت دبلومسة بارعة. وكامرأة كانت رشيقة القوام ترتدي قبعة ليس لها ضريب ولباس من الموسلين الرقراق والكلوش اي الدوار مع حركة الجسم. كان اسمها (جيرترود بل) عاشت في بلاد الميزوبوتيميا (بين النهرين) التي اسموها العراق، وفي بغداد بالذات التي كانت تعيش قبلها عصر العثمنة نساء يلبسن العباءات السوداء ولا يظهر منهن غير وجوهن يمشين خلف بعولتهن، وكانت عربات نقل الركاب تجوب الشارع الرئيسي  في بغداد الي اسموه شارع الرشيد بعدئذ وكانت الشوارع غير معبدة وكان للمس بل الفضل في تخليص خان مرجان من فؤوس ارشد العمري امين العاصمة. كانت موظفة مؤثرة في عهد الاحتلال ثم الانتداب البريطاني على العراق اثر انتهاء الحرب العالمية الاولى حيث تلاشت الامبراطورية العثمانية عندما كانوا يدعونها بالرجل العليل وكانت قبلها قائمة بالدعم البريطاني خوفا من التسلل الروسي. المس بيل هي التي اكدت قيام دولة العراق التي تضم الموصل وبغداد والبصرة، وفي 1921 كتبت رسالة الى والدها تقول له (امضيت هذا الصباح في مكتبي لاجعل الصحراء الجنوبية حدودا للعراق).

المس بل كانت من المع الطلبة في جامعة اوكسفورد العريقة وكان والدها من الاغنياء. ثم ذهبت الى العراق الذي كان رجاليا صرفا ليس للامرأة في المجتمعات العامة وجود.  جعلت منها الصحافة آنذاك اسطورة زمانها اذ كانت تدور بين شيوخ القبائل آنذاك دون ان تنسى انوثتها الانكليزية وعطرها في بغداد حيث كانت تقيم المآدب الدبلوماسية بين جنان النخيل وماء الدجلة، دجلة الخير كما قال الجواهري. كانت المس بل اول امراة في التاريخ تدون مدوناتها السياسية التاريخية في 1920 وفي 16 مجلدا عن الادارة في العراق آنذاك وما يقرب من 1600 رسالة بعثتها لابويها وهي معروضة الآن على شبكة الانترنيت في مكتبة جامعة نيوكاسل البريطانية تحت عنوان (www.gerty.ncl.ac.uk) وهي التي يقرأها (لبنتاغون) وزارة الدفاع الامريكية. جيرترود بل ولدت عام 1868 وفي 1886 احتفلوا بها في قاعة الليدي مارغريت كاول امرأة تنال اعلى درجة في الصف الاول في التاريخ الحديث. تعلمت الفارسية وزارت ايران في 1892 حيث كان عمها سفيرا في ايران. واثر رحلتها  الى ايران نشرت رحلتها في كتاب (صور فارسية) كما ترجمت اشعار (حافظ) وفي ايران وقعت في حب السفير الانكليزي وقد عارض ذلك ابوها. ونالت الاعجاب ايضا عندما تسلقت (الالب) حيث هبت رياح شديدة فبقيت على الحبل لـ 53 ساعة. رحلت الى القدس حيث تعلمت العربية، في 1897 كتبت عن سوريا ثم علمت نفسها التنقيب عن الآثار التي نسيها ابناء الشرق الاوسط ، واغلب الآثار الآن موجودة في المتاحف الاوربية ولولا اكتشافاتهم آثارنا وحفظهم لها لفجرناها كما فعل الطالبان في افغانستان في تفجير تمثال بوذا دون هزة من ضمير. المعروف ان المس بيل تورطت او اهتمت في شؤون القبائل العربية سياسيا ففي 1914 رحلت الى الحائل في الجزيرة العربية للاتصال بالمركز القيادي لعبد العزيز آل سعود الحليف لبريطانيا وهو الذي اوجد المملكة العربية السعودية.

اثر اعلان الحرب العالمية الاولى قصدت المس بل القاهرة حيث تأسس المكتب العربي لجمع المعلومات عن البلاد العربية، وفي حصار الكوت من قبل العثمانيين في 1917 انتقلت المس بل الى البصرة وعند سقوط بغداد عينت سكرتيرة خاصة بشؤون الشرق للحاكم كوكس خاصة في الشؤون العربية. وفي 1920 قررت بريطانيا الانتداب على العراق وكانت المس بل القيمة بعنف على اعطاء العراق الاستقلال. واثر ثورة عشائر الفرات في العراق عقد ونستن تشرشل مؤتمرا في القاهرة وكانت المس بل الوحيدة بين الرجال وفي الاجتماع تقرر تعيين الامير فيصل الهاشمي ملكا على العراق بعد اخراجة من عرش سوريا وبتأييد من لورنس المعروف آنذاك. كتبت المس بل تقول (لن اسعى ابدا لخلق ملوك مرة اخرى انها عملية متعبة جدا) وكانت ضحية اطراء العراقيين لها فاسموها بـ (لخاتون) وهي اعلى درجات الالقاب للنساء العاليات المكانة آنذاك، اذ تقول في 1921 (عندما نعود راكبين في جنان ضاحية الكرادة كان كافة الناس يحيونني، وكان نوري السعيد قد فسر لي اسباب هذه الرحابة، اذ قال لي انك امرأة وليس هناك غير خاتون واحدة فخلال المئات السنين لم تركب الجواد امرأة وتمر بهم). الواقع ان النساء كن يعشن عصر المجرشة في العراق، حيث كانت 70 % منهن آنذاك يمارسن الجرش على المجرشة اثر زوال العصر العثماني، اذ لم يكن يعرفن الطحين الجاهز انما كن يجرشن القمح ويعجن العجين ويخبزن الخبز بالتنور المقام في كثير من البيوت، بالاضافة الى ذلك كن يرعين الصغار بـ (اكعد ولك واسكت ولك) اما الرجال فكانوا يقتلون الوقت بتدخين (النركيلة) او يدخنون السكاير اللف. وقد ارخ الملا عبود الكرخي المجرشة حين قال في شعره العامي (ذبيت روحي على الجرش مدري الجرش تاليها، ساعة وكسر المجرشة والعن ابو راعيها).    

في احدى الاحداث استعرضت المس بيل القوات هابطة في السليمانية بطائرة للقوة الجوية الملكية البريطانية في تجربة القاء ثلاثة قنابل من علو 3000 قدما، قالت عنها (عجيبة ومخيفة). في 1923 فقدت المس بل صفتها السياسية، لكنها بقيت على حبها للآثار فاسست المتحف العراقي للآثار الا ان صحتها اخذت بالانحدار اذ قيل عنها انها اصيبت بالملاريا عندما كانت في البصرة وكانت البصرة آنذاك مصدرا لاكتساب الملاريا لكثرة المياه والاهوار والبعوض الناقل للمرض بالقرب من البصرة، وكان سكان البصرة معرضون لاكتساب الملاريا في كل حين حتى نهاية الثلاثينات حيث اخذ الناس يحصنون انفسهم من الملاريا بالنوم تحت ما كان يعرف بـ (الكللة) ليلا على السطوح واثر استخدام الكينين آنذاك.

بعد استقلال العراق فقدت المس بل حصانتها الدبلوماسية  واصبحت مستشارة مع عدد غيرها من المستشارين الانكليز، بقيت على حب العراق وكان اهم ما في حياة المس بل هو هيامها الشديد بالآثار، ومع علاقتها الجيدة مع الملك فيصل الاول، كان لها الفضل الاكبر في الحفاظ على الآثار العراقية فانشأت المتحف العراقي للآثار ولولا ذلك لتأخر قيام هذا المتحف الجليل عقودا من الزمن ويعتبر ذلك معلما من معالمها. والجدير بالذكر ان المستشارين الانكليز آنذاك اصروا على تأسيس كلية الطب العراقية في وقت عارضها الوزراء العراقيون والوزراء العرب الذين اتوا مع الملك فيصل، وظلت كلية الطب في بغداد معلما حيث خرجت فطاحل الاطباء العراقيين المشردين الآن.  

المس بل غدت عليلة في بغداد وكانكليزية كانت تعاني الكثير من حرارة بغداد صيفا مما اثر في صحتها، ولم تكن آنذاك التكنكة التي نشاهدها الآن معروفة لانتاج المبردات وكان اغلب الناس انذاك يستخدمون (العاكول) على الشبابيك للتبريد وكان على رب العائلة ان يتولى نثرها بالماء بين حين وآخر، وكنا آنذاك نستخدم المهافيف اليدوية وكان رب العائلة ينام في (المجاز طرك الدشداشة) لتقوم زوجته بعملية التهفيف بالمهفة المصنوعة من سعف النخل. ومن جملة ماقيل عن المس بل انها كانت تبتلع المنومات وفي آخر مسيراتها في الحياة قيل عنها انها ابتلعت كمية عالية من المنوم، فكانت نهايتها وقيل عنها انها ارادت الانتحار للتخلص من متاعبها الصحية. وكان موتها في 1926 ودفنت في مقبرة قريبة من الباب الشرجي في بغداد. الا ان الذي حدث مع احداث العراق المؤلمة ان قبرها انمحى من الارض.

اهم ماتركته المس بل رسائلها ومما قالته لوالديها (لم يدر بخلدي انني سانفصل ابدا من ثروة هذا القطر...انه يثير الاعجاب واشعر بالثقة والعاطفة مع كافة الشعب الذين حولي – وتقصد العراقيين- وقد انتهت الحرب واشعر ان يدي مطلقة – بغداد 1917). والطف ما قالته في احدى رسائلها، كنت امام النساء المحجبات امرأة سافرة وكن يسدلن حجابهن امامي ولم يكن بامكاني اجراء صداقة معهن.  وكانت النساء يرونني رجلا اما الرجال فكانوا يرونني اكثر من امراة. المس بل عاشت عصرا لم يعهده عصرها، اذ فاقت الرجال شجاعة و(اعتلاء وسؤددا) كما قال احد الشعراء ابن سناء الملك الاندلسي  قديما.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com