جدلية العلم والعرفان .. رؤية مغايرة

نضير الخزرجي*

alrayalakhar@hotmail.co.uk

تتعدد الأسلحة بتعدد الأهداف فهناك سلاح دفاعي وآخر هجومي، وهناك سلاح بعيد المدى وآخر قصير المدى، بعضها بالضد من الآليات وأخرى بالضد من الأشخاص، وهناك أسلحة برية وجوية وبحرية، فلكل سلاح دوره في الميدان، وهي في محصلتها إما لدفع عدوان أو لرفع احتلال، ولا تخرج عن كونها أداة قوة تضفي على حاملها هيبة وتبعث في قلب الآخر رهبة.

ومع كثرة الأسلحة وتنوعها، فانه يبقى سلاح واحد حاد في شفرته ماض في ضبه، لا يدانيه أي سلاح في مضائه، يتقلده كل من في الأرض من ذكر أو أنثى، يملكه الفقير قبل الغني، يحمله المظلوم في حله وترحاله في نومه ويقظته، لا يفارقه ولا يبارحه، قريب المنال سريع المآل، وأكثر ما يستعمل عند الشدائد وفي جنح الليل عندما تنام الأعين وترخى السدول، في مثل هذه الحلكة يشهر الداعي سلاحه وعلى شفرتيه يسيح دموعه، انه أمضى سلاح كان ولا زال ولا يزول، انه سلاح الدعاء.

في مثل هذه الأجواء الملكوتية ينقلنا الدكتور الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي عبر كتابه "الصحيفة الحسينية الكاملة" في جزئه الأول الصادر في العام 2007 م عن "المركز الحسيني للدراسات" بلندن في (494) صفحة من القطع الوزيري، إلى عالم اللامتناهي حيث تطوى المسافات بين العبد وربه ويكون فيها الرب إلى العبد اقرب من وريده.

الكتاب هو سياحة عرفانية في الأدعية الواردة عن سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي (ع)، حيث هيأ المصنف لمركبتها مقدمة شافية وافية عن الدعاء وحقيقته وآثاره وآدابه وشروطه ومعوقاته، يمهد للداعي سبل السلام في سلوك الطريق الأصوب للوصول إلى رضى المعبود ونيل مناه، ويقرب إليه الوسيلة ويبعده عن الوسائل الموصلة إلى طريق مسدود قد لا يجد فيه الداعي في آخره بصيص أمل، ليدخل بعد المقدمة بعرض الأدعية التي أنشأها الإمام الحسين والتي رواها، جمّلها بخط النسخ، ليتناول في الجزء الأول من الصحيفة الحسينية شرح القسم الأعظم من دعاء عرفة، تاركا البقية للجزء الثاني. 

شفرات روحية

ولكن ما حقيقة الدعاء الذي ينقاد إليه الجميع من مؤمن أو غير مؤمن بخاصة عندما تدلهم على المرء الهموم كسحب سوداء تهز كيانه وتخلخل ميزانه؟

يشبه آية الله الكرباسي الدعاء بالرموز المستخدمة في مجال الاتصالات والحاسوب، فبدونها لا يمكن تحقق الاتصال أو تشغيل الآلة، وعليه فان: "الدعاء رمز يستخدمه العبد في اتصالاته بالرب فبدونه لا ترتبط الذبذبات اللاسلكية ولا تتصل الأمواج الروحية بالعالم العلوي للتحاور وعرض الطلب"، وبذلك يكون رب العزة على عظمته التي يصغر عنده كل عظيم: "اختصر الطريق لعبده وجنبه المعاناة للوصول إليه فجعل الدعاء الذي لا يكلفه طي زمان ولا مكان وسيلة للتحدث معه".

وفوائد الدعاء كثيرة ولا تنحصر بواحدة أو اثنين فهي بعدد طلبات الداعين، بيد ان القواسم المشتركة في مجموع الأدعية والداعين وجدها المصنف في ثلاثة: "الشفاء"، "الراحة والطمأنينة" و"الحصانة".

فأكثر ما يلم بالمرء هو المرض بوجهيه النفسي والجسدي، والإنسان حتى وهو تحت رحمة الدكتور يجد نفسه بحاجة إلى قوة غيبية لتخليصه مما هو فيه من مرض جسدي أو نفسي، وقد ثبت بالتجربة ان الاضطرابات النفسية لها مدخلية كبيرة في الأمراض الجسدية، ولذلك فان الراحة النفسية هي مفتاح إلى الشفاء من الأمراض العضوية، وكثيرا ما ينصح الطبيب مريضه بالخلود إلى الراحة النفسية والابتعاد عن المشاكل المسببة للإضطرابات النفسية، لما للراحة والاسترخاء من تأثير كبير على عضلات الإنسان وأعصابه، وأهم طريق لاستحصال الخلود النفسي هو الدعاء والتقرب من الله، وصدق الرب بقوله في سورة الرعد: 28 (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، من هنا نجد ان بعض مستشفيات بريطانيا مثل مستشفى نورث بارك هوسبتل (North Park Hospital) في شمال غرب لندن، أفرد جناحا خاصا للعبادة، يجد فيه المريض ضالته الروحية، فإدراك أطباء بريطانيا لأهمية العبادة والدعاء في تطبيب النفوس وتطييبها، ومن ثم تأثير ذلك على الجراحات، جعلهم يخطون في هذا الإتجاه، وقد أدرك الطبيب والجراح الفسيولوجي الفرنسي، ألكسيس كارل (Alexis Carrel) (1873-1944م) الحاصل على جائزة نوبل في الطب في العام 1912م أهمية الدعاء في الاستشفاء وتضميد آلام الجوارح، وضمّن هذه الاكتشافات في كتابه الشهير (Prayer) الدعاء.

فالدعاء يجلو صدأ القلوب ويزكي النفوس، مما يبعث على الراحة والطمأنينة حتى وان لم تتحقق مطالب الداعي في الحال، لان التوجه إلى القوة الغيبية بحد ذاته يرطب من جدب النفس ويبلل من صدي القلب، يقول الكسيس كارل في كتاب الدعاء:85: "فالدعاء معراج روحي للإنسان نحو الله وبالدعاء يتغلغل الله في أعماق ذواتنا، وهكذا يتبدى لنا ان الدعاء ضرورة لا يستغنى عنها لرقي الإنسان وتساميه نحو الأمثل والأفضل" وحسب تعبيره: 81، فان: "الدعاء يعتبر وظيفة طبيعية للروح والجسد في آن معاً بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبداً".

 وكلام طبيب مجرب ومتفوق مثل ألكسيس كارل هو مصداق لحديث الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): (عليك بالدعاء فانه شفاء من كل داء)، من هنا يصبح الدعاء حصانة للإنسان يدفع به البلاء المقدر والبلاء النازل، وهو بمثابة سلاح، كما يقول النبي محمد (ص): (الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض). وقد أحسنت بعض الصيدليات صنعا عندما رفعت لافتة تقول: "منّا الدواء ومن الله الشفاء" لان مثل هذا الشعار تذكير للمريض بالكهف الحصين الذي تستريح عنده النفوس التعبى من أمراضها.

وبالطبع لا يعني التمسك بالدعاء، التواكل وعدم الأخذ بالمسببات، لان الأمور تجري بأسبابها، لكن الدعاء بحد ذاته مع العمل يوفر للداعي الشعور بالعز لأنه يتوجه إلى رب العزة كما يسبغ عليه شعوراً بالقدرة والقوة لأنه يتوجه إلى صاحب القدرة المطلقة، ولذلك فان مما أوحى الله سبحانه وتعالى لنبيه عيسى المسيح أن: "ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث، يا عيسى سلني ولا تسأل غيري فيحسن منك الدعاء ومنى الإجابة".

ويرى الفقيه الكرباسي وببيان نماذج من أدعية النبي (ص) وأهل بيته (ع) ان الدعاء يتشعب في موارده ولا يتقيد بالخوف والرجاء فحسب، صحيح ان: "الجانب الخلقي والصفاء الروحي هو أرقى الجوانب في هذه الحياة المليئة بضوضاء اللاأخلاقية، وطمأنينة النفس لهي الأرضية الصالحة للخير والسعادة الأبدية"، لكن الصحيح أيضا ان الأدعية المأثورة تتلمس إلى جانب الروح والنفس، القضايا العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية فهي موسوعة من علوم شتى.

ضوابط وآداب

وكما ان لكل ممارسة ضوابطها، فان للدعاء آدابه وضوابطه، واستنتج المصنف من جملة نصوص شريفة من القرآن والسنة، أن الداعي يفترض فيه لاستجابة الدعاء ان يتقدم بين يديه ربه وهو على طهارة من وضوء أو غسل. وان يستقبل القبلة. وان لا يجهر بالدعاء وكما قال النبي محمد (ص) لأصحابه عندما رفعوا صوتهم بذكر الله: (أما إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً وإنما تدعون سميعا قريبا معكم). كما ينبغي اختيار الزمان المناسب، فللزمان تأثيره المادي والمعنوي في تقبل الدعاء وتحققه، وأفضل أوقات الدعاء: عند السحر وعند زوال الشمس وبعد المغرب، وأفضلها يوم الجمعة، وكذلك الدعاء إثر الصلاة الواجبة وعند قراءة القرآن وعند الآذان وعند نزول الغيث. وللمكان تأثيره المباشر أيضا، ولذلك يفضل اختيار المكان المناسب للدعاء ممن يقدر عليه مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومراقد أئمة أهل البيت (ع) فقد ورد عن الإمام محمد بن علي الباقر (ت 114 هـ): (ان الحسين صاحب كربلاء قتل مظلوما مكروبا عطشانا لهفانا، فآلى الله على نفسه أن لا يأتيه لهفان ولا مكروب ولا مذنب ولا مغموم ولا عطشان ولا مَن به عاهة، ثم دعا عنده وتقرّب بالحسين بن علي (ع) إلى الله عز وجل إلا نفَّس كربته وأعطاه مسألته وغفر ذنبه، ومدّ في عمره، وبسط في رزقه).

ومن ضوابط الدعاء التصريح بالحاجة، صحيح ان الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولكنه تعالى يحب من السائل ان يبث همومه وشكواه، لان الشكوى إقرار بالعجز والحاجة إلى نفحات القدرة الربانية. كما ان من الآداب البدء بالبسملة. ومنها تقديم الدعاء بالتحميد والتمجيد، فمن يرد على مسؤول يقدم لطلبه بمدحة فما بالك برب العزة! ولذلك ورد عن الإمام الصادق (ع): (إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على الله سبحانه وليمدحه فان الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام أحسن ما قدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة فمجّدوا الله عز وجل العزيز الجبار وامدحوه واثنوا عليه). كما ان من الآداب تقديم الصدقة لأنها تدفع البلاء المبرم.

 ومن الضوابط، الدعاء بالمأثور وتجنب تأليف الأدعية، صحيح ان العبد يناجي ربه ويدعوه بما تفيض به نفسه تناغما بين أصغريه بين قلبه ولسانه، لكن تعلم الدعاء المأثور عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) هو الأصوب لأنهم أمراء الكلام وأرباب الدعاء، وحسب تعبير الشيخ الكرباسي ان الأدعية الواردة عن المعصومين كثيرة: "وألطف ما فيها أنها متنوعة تعايشك في سائر أحوالك، فلا حاجة اذاً إلى خلق أدعية جديدة إذا كان المأثور يفي بالغرض، مضافا إلى أنهم أحبة الله، والحبيب يعرف لغة حبيبه، وكلام العاشق لا يعادل بكلام غيره". وكما ان الإنسان يستعين بوسيلة عند تقديم طلبه بوصفها الباب إلى الجهات العليا، فان الله يحب ان يقدم الداعي بين يديه الوسيلة عملا بقوله تعالى في سورة المائدة: 35: (وابتغوا إليه الوسيلة) وعملا بقوله تعالى في سورة البقرة: 255: (مَن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، ولذلك: "ومن تلك الوسائل المأذونة الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، فهم أحد المصاديق".

ومن آداب الدعاء وضوابطه التضرع والرقة، ولذلك يقول النبي محمد (ص): (اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة)، وحسب قول الإمام علي (ع): (بالإخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع، فإلى الله المفزع). ولأن أبواب رحمة الله مفتحة للجميع فان من آداب الدعاء تعميمه وعدم الاقتصار على ذات السائل، فان ذلك أدعى إلى شد اللحمة الاجتماعية وادعى إلى قبول الدعاء، ولذلك فان من آداب الدعاء تحشّد الجمهور والدعاء جميعا أو ان يدعو احدهم ويؤمن البقية على دعائه. ويفضل عند الدعاء الابتعاد عن اللحن. كما ان من الآداب رفع اليدين عند الدعاء. ومنها التزين، فان الإنسان يتزين لغيره إذا سعى إليه في حاجة، فكيف لا يسعى بزينته للجميل الذي يحب الجمال؟

شرائط ونقائض

وقد يدعو الداعي أو الدعاة فلا يستجاب لهم، وقد يصل اليأس بالبعض إلى التوقف عن الدعاء أو يساوره الشك بمحل الإجابة، لكن الدعاء كالطلب في الحياة اليومية بحاجة إلى ان يستوفي الطلب شروطه حتى يكون محل نظر واستجابة وإجابة، من هنا فان المصنف يستقرئ من نصوص القرآن والسنة الشريفة مجموعة شرائط يراها ضرورية لاستجابة الدعاء.

 وتقف على رأس الشرائط: المشروعية، أي ان يكون الدعاء مشروعا في ذاته، ولذلك ورد عن الإمام علي (ع): (يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يكون ولا يحل)، إذ لا يحل للمرء ان يدعو على نفسه بالموت أو ان يدعو لتحقيق منكر ما. ومن الشرائط المبادرة بالعمل، فالبركة في الحركة، وطلب الخير وتحقق الأماني دون عمل مفسدة للنفس، فمن وصايا النبي محمد (ص) لأبي ذر الغفاري جندب بن جنادة (ت 32 هـ): (يا أبا ذر مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر).

 ولأن النبي (ص) وأهل بيته (ع) مصداق الوسيلة إلى الله، فان من شرائط قبول الدعاء الصلاة على محمد وآله، وقد ورد عن النبي محمد (ص) قوله: (الدعاء محجوب حتى يصلى على محمد وأهل بيته). ومن الشرائط الإخلاص في الدعاء فالله العالم بالنفوس يعلم إخلاص الداعي من عدمه، ومن تعليم القرآن الكريم للناس في سورة الأعراف: 29: (وادعوه مخلصين له الدين). ومن الشرائط الإلحاح والإصرار، فمن وصايا الرب الجليل لنبيه موسى بن عمران (1568-1442 ق. هـ): (يا موسى من أحبني لم ينسني، ومن رجا معروفي ألحّ في مسألتي، يا موسى إني لست بغافل عن خَلقي، ولكني أحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي). ويقتضي عند الدعاء التهيؤ النفسي فهو مدعاة تحقق الصفاء والجلاء الروحيين. وبهذا الصفاء يتوجه الداعي إلى الله، وكلما أكثر التوجه إلى مالك السموات والأرض ضمن الإجابة، ولهذا ورد عن الفيلسوف الرواقي ابيكتيت (Epictete) (50- 130م): "فكّر بالله أكثر مما تتنفس"، وبالطبع فان التوجه الخالص إلى الله يتطلب تقوى الله، إذ قرر القرآن الكريم وعلى لسان هابيل في سورة المائدة: 27: (إنما يتقبل الله من المتقين).

وفي مقابل الشرائط هناك نقائض تحول دون استجابة الدعاء، استوحاها المصنف من مجموع نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، فوجد ان من أهمها: "عدم الوفاء بالعهد"، لان مقتضى الإجابة ان يعمل الداعي بما أوجبه الله عليه وفقا لقوله تعالى في سورة البقرة: 40: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون). ومن النقائض "مخالفة القوانين الكونية"، فليس من المصلحة ان يدعو المرء لحبس المطر لمجرد أنه يريد لمصنوعاته من الخزف، وعلى سبيل المثال، أن تجف تحت أشعة الشمس، فهذا خلاف المنظومة الكونية.

 ومن النقائض "نقض شروط الدعاء" فإذا كانت الرقة مدعاة إلى استجابة الدعاء فان القسوة حاجبة عنه فلا يدعو السائل وهو لا يتوفر على شرط الرقة لان الله يحب القلب الرقيق. ومن النقائض "عدم توفر الأرضية المناسبة" لتحقق استجابة الدعاء لمصلحة قدرها رب العالمين لعبده، وهذا المعنى يشير إليه الإمام علي (ع) في الدعاء المشهور بدعاء كميل: (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور)، وفي الأمثال الشعبية: "لكل تأخيرة خيرة"، وأضيف: "لكل تأخيرة ذخيرة".

 ومن النقائض "الخطأ في الاتجاه" حيث يطرق الداعي بابا لا تؤدي به إلى الله فتشط دعواه وتخيب آماله. ومنها "التناقض في الأدعية". ومنها "اقتراف الذنوب" فهي بمقام العوارض تحول صعود الدعاء إلى محل القبول، وقد ورد عن الإمام محمد الباقر (ع): (ان العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطئ فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تقض حاجته واحرمه إياها فانه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان منّي).

ومن النقائض "استعجال الإجابة"، فالإنسان بطبعه عجول فهو إما ان يستعجل في الطلب فلا يوفر لطلبه مقدمات شرائط الدعاء، وإذا وفّرها تعجّل في استحصال الجواب وقد يصل إلى حالة القنوط المنهي عنه. ومن النقائض "سبق الأمور". ومنها "التقاعس" فيعتمد المرء على الدعاء دون العمل. وأخيرا فان من نقائض الدعاء "عدم مصلحة الداعي" فربما يدعو السائل بالغنى وفي علم الله أن المال وبال عليه، فيرزقه بقدر. ومن محسّنات الدعاء المسح على الوجه بباطن اليدين كما يستحسن ان يختم الطالب دعاءه بقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

إنسجام دقيق

وخصص المحقق الكرباسي مبحثا لبيان "أدب الدعاء وأسلوبه" ذاكرا عينات من أدب الدعاء في القرآن الكريم وفي الحديث القدسي ودعاء الرسول (ص) ودعاء سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) ونماذج من أدعية الإمام علي (ع) وسبطيه الحسن والحسين (ع) والأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين (ع) حتى الإمام القائم محمد المهدي المنتظر. وبحث الأدعية من الاتجاهين اللفظي والمعنوي، وخلص إلى ان القرآن الكريم من حيث اللغة هو رائد أدعية النبي (ص) وأهل بيته (ع) لان كلامهم فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، فالدعاء المأثور عن المعصومين في مجمله: "روعي فيه اختيار الكلمات ذات التركيبة المناسبة والمنسجمة مع المعنى المراد، مضافا إلى الوقع والسجع اللذين هما ظاهرتان من ظواهر الأدب عند أهل البيت (ع) المستلهم من القرآن الحكيم".

أما في الاتجاه المعنوي فان أدعية المعصومين: "تعكس لنا صورة ما يختلج في صدر كل إنسان داهمته الهموم وأغرقته الغموم، فلا يجد ملاذا ولا ملجأ إلا عَرض ما ألمَّ به إلى السلطة العليا بتضرع وانكسار ليجلب عطف تلك القوة المطلقة فيفرج عنه ويحرر من أغلاله" ولذلك فان توجه السائل بالدعاء إلى الله عبر تلاوة المأثور يستبان فيه الأهمية القصوى لان هؤلاء القادة: "أعرف بالطرق التي توصلنا إلى الغاية المتوخاة من الدعاء، والوقوف على باب رحمة الخالق"، فالمعصومون فوق ان يذنبوا ولكن الأدعية الواردة عنهم إنما هي رحمة للعبادة، وان: "تعليمهم هذه الأدعية للسائل يكون بمثابة إسعاف له إلى أقرب الطرق الكفيلة للنظر في طلباته واستجابة دعواته، فالتعبير العاطفي الذي استخدموه في طيات هذه الأدعية ليس له مثيل في تاريخ الأدب العربي. كما ان الخضوع الذي مارسوه من خلالها له أهميته القصوى في تأثير الإجابة، وليس له عديل في الخُلق الإنساني".

ولاحظ المحقق من خلال إجراء مناظرة بين الأدعية الواردة في القرآن الكريم، وأدعية المعصومين: "ان هذه الأدعية هي تلو القرآن، لأن أكثر معانيها أخذ منه ومن الأحاديث القدسية التي أوحى الله بها إلى أنبيائه" ولذلك فان البعض سماها بالصحيفة أو الزبور أو التوراة أو الإنجيل لما فيها من الهدى ولأنها تحمل مضامين الوحي. ولاحظ المصنف: "التنسيق المعنوي بينهما، ومن هنا فان القرآن والدعاء صيغة واحدة، خرج من مصدر واحد، يختلفان في نسبة القوة والمباشرة"، مع التأكيد أن الأدعية الصادرة عن المعصومين هي: "بمنزلة وثيقة تعليمية ومنهاج تربوي".

 واستعرض المصنف 73 موردا للدعاء من آيات الذكر الحكيم. على أن الدعاء لا يختص بالقرآن الكريم أو بالمسلمين، فهو أمر عام تشترك فيه كل الديانات كما إن الدعاء من ابرز مصاديق العبادة، ولذلك فانه لا يتوقف على البشر ويتعداه إلى الجن بنص قوله تعالى في سورة الذاريات: 56: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).  

مضامين راقية

في الواقع ان الكتب الخاصة بأدعية الإمام الحسين (ع) اقل من أصابع اليد، ولكن ما يميز هذا الكتاب انه خضع للتحقيق والتدقيق واقتصر على الأدعية التي دعا بها الإمام الحسين (ع) في المناسبات وما دعا به للأشخاص وما دعا به على الأعداء وما دعا به ضمن خطبه وكتبه وكلامه، وقد ارجع المحقق كل فقرة من الدعاء إلى آية أو آيات من القرآن الكريم، مما يشعرك ان المعصوم لا يمتح في دعائه إلا من عين القرآن الكريم ويغترف من نميره، فالقرآن الكريم خُلقه وأدبه.

وتفرد الكتاب بشروحات مستفيضة جمعت بين علوم القران والفقه والأصول واللغة والعلوم الحديثة أي جمع بين علم الأديان وعلم الأبدان والعلوم الأخرى الطبيعية والرياضية وغيرها، بخاصة وان جانبا كبيرا من دعاء عرفة الذي استحوذ على أكثر من ربع الكتاب، ضمّن فيه الإمام الحسين (ع) مسائل علمية كثيرة ومنها وظائف البدن أمكن لعلم التشريح فهم مضامينها، فأعمل المحقق الكرباسي جهده في استكناه العلوم المختلفة لشرح نصوص الدعاء العالية المضامين، وأظهرت شروح دعاء عرفة حقائق علمية غاية في الأهمية، وبعضها لم يتحقق منها العلم الحديث حتى يومنا هذا من قبيل بصر العين، فالمحقق الكرباسي يرى من خلال فقرة الدعاء: (اللهم اجعل .. والنور في بصري) أن: "للبصر نور كما نعتقد، فمن الملاحظ أنك في الظلام ومع غمض الجفون تشعر بذلك النور وقد يكون محسوسا لدى البعض أكثر من غيره، وقد يكون ملحوظا لدى بعض الحركات للعين أو الاحتكاكات، وعلى أي تقدير فالمصادر الإلهية دائما تؤكد أن للبصر نورا، فإذا افتقده المرء عمي ولم يبصر شيئا بمعنى أنها فقدت قابلية الإبصار وان امتلكت بقية الإبصار. أما نوعية النور فهذا ما يجب تحديده، فلاشك أنه نوع من أنواع الإشعاعات، فالعين ترسل الإشعاع فيقع على الجسم المرئي فتحس العين بالإبصار، هذا لا ينافي ضرورة وجود النور الخارجي أو انعكاساته على الجسم في إمكانية تحصيل الرؤية".

وتم تعضيد الكتاب بستة وعشرين فهرسا في مناح مختلفة، يرجع إليها القارئ والباحث بسهولة، مع قراءة نقدية لأستاذ اللغات في معهد بكين للغات الأجنبية في الصين الأستاذ محمود شمس الدين تشانغ تشي هوا (Zhang Zhi Hua)، الصيني الأصل الذي كتب قراءته باللغة الصينية، حيث عبر عن عظيم تقديره للموسوعة الحسينية التي صدر منها حتى الآن 34 مجلداً، إذ: "وجدت دائرة المعارف الحسينية اكبر دوائر المعارف التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وهي مشروع ضخم وعمل عظيم"، ويشير بعد سرد محتويات الدائرة، أن: "يمكن القول إن دائرة المعارف الحسينية هي كنز الفكرة الاسلامية والعلوم الاسلامية والحضارة الاسلامية، وهي كنز الأفكار البشرية والحضارات العالمية، وتتحلى بالقيمة العلمية العالية"، وخلص بعد بيان محتويات هذا الكتاب ودور الامام الحسين (ع) في فضح السلطة الأموية، الى حصول: "إجماع المؤرخين على أن الحسين جرف وهدم بدمه صرح الدولة الأموية الفاسدة".

وبالإمكان القول أن الكتاب تفرّد في شروحاته عرضا ومضمونا، ويشكل فتحا معرفيا في عالم المأثور من الأدعية وبخاصة المنسوبة للإمام الحسين (ع) والواردة عنه، ويقدم منهجا جديدا في التعاطي مع النصوص الروحية، فإذا اشتهر في علوم القرآن تفسير القرآن بالقرآن أو تفسيره بالمأثور، فأن ما جاء به المحقق الكرباسي هو أن فسّر الدعاء بالقرآن وعرض نصوصه على العلوم الحديثة، فلم يتخلف العلم عنها ولم تتخلف عنه.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com