فدرالية بالمقلوب

 

محمد جودة الفحام

newyaman10@yahoo.com

   منذ سقوط بغداد في نيسان 2003 كثر استعمال العديد من المصطلحات التي لا نقول بأننا نسمع بها للمرة الأولى ولكنها أخذت تستخدم بشكل مكثف لم نعتد عليه في السابق كون الساحة العراقية ومنذ التاريخ المذكور أصبحت مفتوحة لكل التيارات، تهب عليها الرياح بما تشتهي وبما لا تشتهي، من كل الاتجاهات، فليس هناك من رادع ولا مانع يردعها ويمنعها، فالأثير مفتوح للفضائيات والحدود مفتوحة ( ولله الحمد ) للجميع وبكرم حاتمي بنكهة أمريكية. أقول كثرت هذه المصطلحات كالديموقراطية والتعددية والشفافية والشمولية، يرددها من هب ودب، و آخرها الفدرالية، في الشوارع والمقاهي والدكاكين وسيارات الأجرة، ليس هناك من حديث يخلو منها، وكل من يتحدث منا تجده وحده العارف والمطلع على خفايا الأمور وكل من عداه لا يعرف ولا يعي شيئا، أي إنه يمارس دكتاتوريته بديموقراطية فجة ومملة. أود هنا أن أبين ما أعرفه عن معنى الفدرالية وأمثلتها، وسأكون ممتنا لكل من يتلطف ويصحح لي معلوماتي أن كانت خاطئة. فالفدرالية ببساطة شديدة هي الاتحادية، أي أن هناك بعض الكيانات أو المقاطعات أو المشيخات تجد نفسها ضعيفة إذا بقيت لوحدها فتتحد مع غيرها وتكون كيانا جديدا كبيرا، قويا وفاعلا، إقليميا ودوليا بما أصبح يمتلكه من أمكانات بشرية ومادية، وأمثلة ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وسويسرا والإمارات العربية المتحدة، أو قد يكون الاتحاد قسريا كالاتحاد السوفياتي السابق وجيكوسلوفاكية ويوغسلافية. والنوع الأول يمتلك صفة الديمومة كونه اتحادا طوعيا واعيا جاء بعد دراسة الواقع دراسة معمقة إلى أن وصل إلى حد القناعة الكاملة بضرورة قيام هكذا اتحاد. أما النوع الثاني وبالرغم من أنه يمثل قوة كبيرة وفاعلة إلا أنه يفتقد صفة الديمومة لأنه مفروض بالقوة ومن الخارج، ولذلك وفي لحظة زوال المؤثر الخارجي ينهار الاتحاد، وهذا ما حدث فعلا في العقد الأخير من القرن الماضي في جيكوسلوفاكية ويوغسلافية بعد زوال المؤثر الخارجي ( الاتحاد السوفياتي) الذي بدوره قد انهار لانهيار النظرية التي كان يحكم بموجبها لعدم توافقها مع الواقع الداخلي والخارجي ووصولها إلى طريق مسدود نظرا لفرضها فكرها بالقوة عن طريق الحزب الواحد والحكم الشمولي الذي يتعارض ويتقاطع بل ويتناقض مع الدين والنسيج الاجتماعي لتلك الشعوب. وبطبيعة الحال فإن الكيان الجديد ( الاتحاد) يتمتع بسياسة خارجية وعسكرية ومالية موحدة إضافة إلى ما يلحق بها من مستلزمات السيادة كالعلم والنشيد الوطني وغيرها من أمور. هذا كل ما أعرفه عن الفدرالية وخلاصته ( أجزاء صغيرة لها خصوصيات معينة تاريخية وجغرافية وغيرها تتحد وتكون واحدا كبيرا)، فالمشيخات السبعة، أبو ظبي، دبي، الشارقة، الفجيرة، رأس الخيمة، عجمان، أم القوين، و بعد رفع الحماية البريطانية عنها أدركت بأنها ستكون لقمة سائغة وسهلة الابتلاع من هذا الطرف أو ذاك، لذلك فإنها اتفقت على إنشاء اتحاد يضمها جميعا( ولا يخلو الأمر طبعا من أيدي ومساندة دول عظمى) وهكذا ظهرت إلى الوجود دولة الإمارات العربية المتحدة وما تمثله اليوم من ثقل سياسي واقتصادي إقليميا ودوليا

نقول ماذا حدا مما بدا، وما بال الفدرالية توضع بالمقلوب، إذ المفروض أنها تعني اتحاد أجزاء بواحد كبير، والعراق واحد كبير، تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا ومنذ القدم، تشهد بذلك حضاراته الموغلة في التاريخ ولأكثر من ستة آلاف سنة، حدوده معروفة بجغرافيته الحالية، وشعبه مكون من أديان ومذاهب وقوميات متعددة، متعايشة مع بعضها بدون تناقضات أو احتراب، ووضعه من هذا الجانب لا يختلف عن بقية الشعوب بل يزيد عليها بنسيجه الاجتماعي المتجانس. والسؤال هنا هو كيف يكون توحيد الواحد؟ ما هي الأسس والمعطيات؟ ما هي الأسباب والمبررات؟ كيف نفهم هذه الإشكالية ؟ أعتقد إنه طالما إن طرح المواضيع أصبح بالمقلوب، فلا بد إذا أن يكون الإيضاح وتكون الإجابة بالمقلوب أيضا أي أن يكون توحيد الواحد عن طريق التفتيت وتوحيده من جديد على أسس هشة وقابلة للكسر في أية لحظة، وكذلك تكون المحافظة على حدود العراق ووحدة شعبه عن طريق التجزئة، ولا بد لنا في هذه الحالة من إبدال معنى الفدرالية من الاتحاد إلى التجزئة (من FEDRALI إلى UNFEDRALI) حتى تستقيم الأمور. الطريف بالأمر إن الجميع يؤكد على وحدة العراق، كل الأطراف بالداخل، دول الجوار، الدول العربية ومنظمتها، الدول الإسلامية ومنظمتها، الدول الكبرى والصغرى، الجميع يعزف هذه النغمة، ولكننا نتساءل، من هو الذي طرح فكرة التقسيم إذا حتى تقوم ضده هذه الضجة ردا عليه؟ فلا بد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها، فموضوع الفدرالية بطرحها الحالي ليس جديدا فهو مرحلة من ضمن مراحل السيناريو الأمريكي الذي لابد أنه تم وضعه من قبل صناع القرار هناك. المرحلة الأولى هي إنشاء حكومة انتقالية عن طريق التعيين تقوم بإعداد دستور مؤقت للبلاد، المرحلة الثانية هي القيام بانتخابات تشريعية لانتخاب مجلس تأسيسي يمهد لإقامة حكومة منتخبة، ويجب أن لا تغيب عن بالنا حقيقة أن العراق لازال محتلا، لذلك فستأخذ الانتخابات اتجاها معينا لانتخاب جهات معينة ومحددة لتنفيذ أهداف معينة ومحددة، المرحلة الثالثة إقامة دولة فدرالية يتم بموجبها تقسيم العراق على أساس عرقي وطائفي يضم ثلاث مقاطعات، الشمال، الوسط، الجنوب، كردية في الشمال، سنية في الوسط، شيعية في الجنوب، مما يهيئ للأمريكان والشركات الغربية حرية التعامل بانفراد واستقلالية مع هذه المقاطعات ويضمن لهم السيطرة الكاملة على ثروات العراق ومن بينها النفط. وبالعودة قليلا إلى الوراء وبالذات إلى فترة هروب المقبور حسين كامل إلى الأردن، أخذ الملك حسين بن طلال يضغط بشدة بهذا الاتجاه ــــ والكل يعلم بأن الملك حسين لا يتصرف من تلقاء نفسه بل ينفذ ما يشار به عليه، ونذكر بهذا الصدد موقفاً واحداً من مواقفه ويكاد يكون آخر موقف اتخذه الملك في حياته وأقصد به عودته السريعة إلى الأردن قبل وفاته بأسبوع واحد فقط طرد خلاله الأمير الحسن من ولاية العهد وأسندها إلى ابنه الأمير عبد الله( الملك الحالي) ومن هذا الموقف فقط نستطيع أن نعرف من الذي يوجه الملك حسين وأية سياسة ينفذ ــ وكثرت في تلك الفترة تصريحاته التي يؤكد فيها على إن أنسب طريقة لحكم العراق هي الفدرالية بين الأكراد والشيعة والسنة، مثال ذلك تصريحاته خلال الفترة التي اجتمع فيها وزراء خارجية سورية وتركية وإيران لتنسيق مواقفها إزاء التطورات الخطيرة في العراق، كذلك أثناء زيارته إلى أوربا إذ قال لمضيفيه الأوربيين بأن ساعة الحسم في العراق أصبحت وشيكة، وصرح أيضا خلال زيارته إلى لندت بهذا الاتجاه، اتجاه الفدرالية، علما بأنه كلف الأمير رعد بن زيد بمهام نائب الملك عند مغادرته الأردن وهي المرة الأولى التي يسند فيها نيابة الملك للأمير المذكور محاولا بذلك تلميع صورته ودفعه إلى سطح الأحداث وتهيئته لاستلام عرش العراق على أساس أنه الوريث الشرعي للعرش العراقي محاولا إعادة نفس سيناريو تتويج الملك فيصل الأول على عرش العراق من قبل بريطانية بحجة أن العراقيين لم يتفقوا على ملك من بينهم بسبب خلافاتهم القومية والطائفية، ويكون الغطاء هذه المرة أمريكيا وليس بريطانيا. وهكذا تم تغذية النعرات العرقية والطائفية من قبل أكثر من طرف في الداخل والخارج وقد انزلقت بعض الأطراف ـ مع الأسف الشديد ـ بهذا الاتجاه. إن قيام فدرالية على أساس عرقي أو طائفي أو جغرافي ( حتى التقسيم الجغرافي سيصب في نفس الاتجاه إذ سيتم تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق جغرافية، شمال، ووسط، وجنوب، سيؤدي بالتالي وحسب الواقع إلى تقسيم عرقي وطائفي لأن الشمال يسكنه الأكراد والسنة في الوسط والشيعة في الجنوب وبضمنه الفرات الأوسط ) وهكذا سيتم التقسيم في واقع الحال، أكراد وشيعة وسنة، أن قيام مثل هذه الفدرالية سيقودنا بالتأكيد إلى تجزئة العراق إلى ثلاث كيانات هزيلة، ذيلية لهذا الطرف أو ذاك. لذلك فإن الحل الأمثل الذي يحفظ وحدة العراق أرضا وشعبا هو منح المحافظات الحالية  صلاحيات واسعة في إدارة الكثير من أمورها كالتعليم والصحة والخدمات البلدية والأمن وغيرها، على أن تبقى جزءا من كل، وتكون السياسة الخارجية والجيش والمالية وما يتبعها من أمور تستلزمها السيادة كالعملة والنشيد الوطني والعلم والطوابع، تبقى مركزية.

في هذه اللحظات الحاسمة التي يمر بها العراق نستصرخ ضمائر الجميع لأن تكون نظرتهم للعراق ككل لا يتجزأ ولا تكون نظرة ضيقة، أحادية الجانب سواء كان هذا الجانب قوميا أو طائفيا، لأنه ومهما استخلص  من مكاسب لجهته سيكون في نهاية المطاف خاسرا كبقية الأطراف. العراق أمانة في أعناق الجميع، فلنكن على مستوى المسؤولية التاريخية للحفاظ على هذه الأمانة ومهما بلغت التضحيات، وأقول لكل عراقي خير لك أن تموت على ساقيك من أن تعيش على ركبتيك. والسلام.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com