منذ أن تولى حافظ الأسد الحكم في سوريا عام 1970، وتحولت سوريا إلى حكم القبيلة الواحدة والعائلة الواحدة، وسوريا تعتبر من قبل أجهزتها الرسمية الحزبية وغير الحزبية، ومن قبل المناصرين لها داخل سوريا وخارجها قوة إقليمية عظمى. وبالفعل فقد أصبحت سوريا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، هي القوة الإقليمية العظمى في منطقة الشرق الأوسط، قبل أن تبرز إيران في الأيام الأخيرة، وبعد ظهور نجم أحمدي نجاد كقوة إقليمية عظمى حليفة.
ولكن كيف أصبحت سوريا دون غيرها في المنطقة، تلك القوة الإقليمية العظمى، خاصة بعد احتلال لبنان (1976-2005) بمباركة أمريكية لفضِّ الصراع الطائفي هناك؟
السرُّ، كل السرِّ في هذا، هو في هذا الشعار الإرهابي، الذي رفعته سوريا، منذ 1970 ، وما زال شعارها الذهبي حتى الآن:
القتلُ أساسُ المُلك
لقد أمكن سوريا من خلال هذا الشعار، تحقيق هذه القوة الإقليمية العظمى، وذلك لعدة عوامل سياسية وتاريخية أهمها:
1- أن سوريا بعد العام 1970، رسمت لنفسها سياسة داخلية بوليسية، بحيث تقطع دابر الانقلابات العسكرية المتوالية، منذ الاستقلال 1946 وحتى 1970. أي أن تصبح سوريا مُلكاً وراثياً علوياً عضُوضاً. وكان لها ذلك. ولذا، بنى حافظ الأسد (معاوية العلوي) (وهذا اللقب ليس سُبّة للعائلة الملكية العلوية، كما يعتقد بعض حلاقي النظام، وإنما هو للتمييز بين معاوية العلوي، ومعاوية الأموي) النظام البوليسي لسوريا من جديد، لكي تكون سوريا ذلك المُلك العضُوض له، ولأبنائه، ولأحفاده من بعده، وبانتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وشفافة حسب الطلب والمواصفات الغربية، وبالنسبة العربية ذات النكهة الاجماعية البدوية، وهي نسبة 96 بالمائة أو أكثر، في كل جولة انتخابية. وهكذا كان.
2- أن معاوية العلوي بنى كل هذا بعد 1970، معتمداً بالدرجة الأولى على الدعم السوفيتي في إخراس الغرب وسكوته عن الدولة الديكتاتورية الجديدة في الشرق. وهو الدعم الذي أمكن كثيراً من الديكتاتوريات العربية في مصر والعراق والجزائر وليبيا واليمن الجنوبي، من تثبيت حكمها، منذ مطلع الخمسينات وحتى زوال الاتحاد السوفيتي في 1991. وكان هذا الدعم السوفيتي السياسي لمعاوية العلوي، مقابل الشعارات الاشتراكية الاستهلاكية البرّاقة التي كان يطلقها حزب البعث ضد ما كان يُطلق عليها الامبريالية والرأسمالية العالمية. ولولا نظرية حفظ موازين القوى في المنطقة، بحيث تساند أمريكا ما كان يُسمّى بالدول العربية المعتدلة والمحافظة، ويساند السوفييت الدول الديكتاتورية التي تدعي الاشتراكية والديمقراطية، لما استطاع معاوية العلوي أن يقيم دولته على حطام دولة نور الدين الأتاسي وصلاح جديد، ويفوز بانتخابات الرئاسة الأولى بنسبة 99 بالمائة في عام 1971، أي بعد عام واحد فقط من اغتصابه للسلطة بقوة السلاح (كان وزيراً للدفاع)، دون أن يتبين الشعب السوري منه بعد، الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والصالح من طالح الأعمال. وأصبحت هذه النسبة (99 بالمائة) منذ ذلك التاريخ، هي الرقم الذهبي المميز للانتخابات الجمهورية الديكتاتورية في العالم العربي. وهي تنخفض قليلاً أحياناً استحياءً وخجلاً، وتحت ضغط الرأي العام العالمي والإعلام الغربي، الذي يسخر دائماً من هذه الموالد و(الزارات) السياسية المقرفة.
3- لم يُهيئ معاوية العلوي سوريا، لكي تصبح قوة إقليمية عظمى بجيش قوي. فجيشها هُزم شر هزيمة في 1967، وكذلك في حرب 1973. ولا بثقافتها التي انهارت بصعود المجتمع البوليسي العسكري، بحيث هاجر الكثير من المثقفين والمبدعين السوريين إلى لبنان والغرب، وبقي من بقي داخل سوريا، يعاني من القهر، والسجن، والتعذيب، وكتم الأنفاس، والحرمان من العمل. أما القلّة القليلة فقد آثرت البقاء داخل سوريا، وفتح دكاكين للحلاقة لرموز النظام الجديد.
4- لم يبنِ معاوية العلوي سوريا اقتصادياً لكي تصبح قوة إقليمية عظمى. بل على العكس من ذلك. فقد تحولت سوريا في العهد الجديد إلى مزرعة وضيعة لعائلة واحدة. وعاشت على المعونات الخارجية، ونهب لبنان مالياً، وزراعة الحشيش في سهل البقاع بمليارات الدولارات. وانتشرت البطالة، واستولت السلطة العلوية على المناصب العليا القيادية في الجيش والأمن والتربية والتعليم والإعلام وغير ذلك. وأصبحوا السماسرة (الهوامير) في السوق السورية، فلا بيع، ولا شراء، ولا عقود، ولا صفقات، إلا من تحت أيديهم. وتشير الدراسة التي أعدها الدكتور محيي الدين اللاذقاني الأمين العام للتيار السوري الديمقراطي، إلى أن ثروة عائلة الرئيس السوري تقدر بأربعين مليار دولار، موزعة بين أعمامه، وأخواله، وأبنائهم. وذكرت هذه الدراسة نصيب كل منهم من هذه المليارات. وأكدت هذه الدراسة، استناداً إلى الاقتصادي السوري السجين عارف دليلة، أن حجم ما هرّبه هؤلاء اللصوص من أموال إلى الخارج، يعادل خمسة أضعاف القدرة الإنتاجية السنوية لسورية. فانهار الاقتصاد السوري، وجاع الشعب السوري كما جاع من قبله الشعب المصري، والليبي، والعراقي، والجزائري، والسوداني. وعاش السوريون أحلك أيام تاريخهم الماضي والحاضر، وجفّ الماء من نهر بردى، وملأت الطحالب (الفسقيات) الدمشقية، وماتت شجرة الياسمين في بيت نزار قباني القديم.
5- ورغم هذا كله، أصبحت سوريا قوة إقليمية عظمى، ليس بتعدد أحزابها السياسية، وليس بمؤسساتها المدنية، وليس بزيادة هامش الحرية في الصحافة. فمعاوية العلوي، ألغى كافة الأحزاب السياسية (كما فعل عبد الناصر في مصر، والقذافي في ليبيا، وأبو مدين في الجزائر، وصدام في العراق) وأبقى على الحزب العلوي الوحيد، وهو حزب البعث، إلى جانب أحزاب للزخرفة والزينة السياسية، وطلاء الحكم بالقشرة الديمقراطية الذهبية المزيفة، وهي المنضوية تحت لواء "الجبهة الوطنية التقدمية".
6- إذن، كيف أصبحت سوريا قوة إقليمية عظمى؟ بكل بساطة، أصبحت بقوة البطش في الداخل والخارج، خاصة بعد أن نجح معاوية العلوي في احتلال لبنان 1976 بمباركة وغطاء أمريكي (كانت حجة أمريكا في ذلك إخراج سوريا من الفلك السوفيتي، كما هي حجة أمريكا الآن في محاولة مغازلة سوريا لإخراجها من الفلك الإيراني) واعتباره إقليميا سوريا بامتياز، حيث لا حدود ولا سفارات بينه وبين لبنان منذ 1943. في حين فشل منافسه وعدوه اللدود صدام حسين في أن يفعل ذلك في الكويت لاختلاف المعادلات السياسية في المنطقة. وأصبح معاوية العلوي بعد احتلاله للبنان، يخيف بجهازه البوليسي العاتي، كل جيرانه من حوله، بما فيهم حكام بغداد في ذلك الوقت. بل إن بعض الدول العربية المعتدلة والمحافظة، كانت تطلب ودّه، وتمسح له جبينه، وتقبّل رأسه، وتحرص على رضاه، وتلبي طلباته السنوية من الدعم المالي. ثم تمكن نظام الحكم السوري بعد ذلك، من استقطاب كل المنظمات الفلسطينية المسلحة المنشقة على ياسر عرفات، وعلى مسيرة السلام، بمن فيهم من هم صقور في حركة فتح (فاروق القدومي مثالاً) فيما عُرف بـ "جبهة الصمود والتصدي" و "جبهة الممانعة". وأصبح كل هؤلاء، وخاصة بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970 ، قوى إرهابية ضاربة في القبضة السورية، زادوا من قوة سوريا الإقليمية العظمى.
7- وفي نهاية التسعينات، أصبحت سوريا الحاضنة الرئيسة والأولى للإرهاب الديني المسلح، رغم خلافها السياسي مع الإخوان المسلمين وصراعها الدموي المرير معهم في حماة عام 1982، والذي راح ضحيته أكثر من 20 ألف قتيل. وبذا أصبحت الدول العربية من معتدلة وغير معتدلة، ومن محافظة وغير محافظة – خوفاً ورعباً - تطلب الرضا السوري، وترحب بالسلام مع سوريا، التي أصبحت خطراً على العالم العربي أكثر من خطر إسرائيل. وباتت إسرائيل أرحم على العرب من سوريا، كما قال صراحة بالأمس الشيخ اللبناني مصطفى غادر مفتي حاصبيا ومرجعيون في تلفزيون "المنار". وهو قول فيه من المعاني الكثير، فيما لو علمنا أن رجال الدين الإسلامي والمسيحي في معظمهم، لا يعادون الحكام ولا الأنظمة. ولكن الكيل طفح طفحاً شديداً على ما يبدو، مما دعا مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو هو الآخر، لأن يطلق على بشار الأسد "السياسي المراهق" و "وريث من باعوا سوريا ولبنان لإسرائيل". إذن، بالإرهاب والعدوان، أصبحت سوريا تعدّ نفسها، ويعدّها حلاقوها، وكهنتها، وسدنة معابدها، قوة إقليمية عظمى.
8- وعندما بزغ فجر الحرية العراقية، صباح التاسع من نيسان المجيد 2003، تحرك المارد السوري الإرهابي الجبار نحو العراق، وشمّر عن ساعديه. ففتح حدوده على مصراعيها لكل مرتزقة الأرض للعبور إلى بلاد الرافدين لتحويلها إلى بلاد الرافضين، ولحرقها، وقتل العشرات من أبنائها في كل يوم، بحجة مقاومة الاحتلال، بينما الاحتلال الحقيقي هناك في الأرض السورية من الجولان منذ عشرات السنين، ونظام الحكم السوري، لا يستطيع أن يرسل إليه ذبابة مقاومة، أو برغوثاً مُفخخاً. بينما يفتح النظام السوري حدوده ويدعم سلاحاً ومالاً ولوجستياً مرتزقة "القاعدة"، و "فتح الظلام"، و"جند عين الفيجة"، و "كرابيج الأنصار"، و"جند أبو عنتر"، و "أنصار غوار الطوشة"، و "عشاق السيدة حيص بيص"، و "فرسان حسني البورزان" وسلسلة طويلة من الأسماء التي ألّفتها ولحّنتها وأخرجتها المخابرات السورية، التي تعتبر أعتى وأقوى جهاز بوليسي في المنطقة، والذي ورث نظامه البوليسي عن نظام "الشتازيStasi " في عهد الديكتاتور إيريش هونيكر في ألمانيا الشرقية الديكتاتورية المنهارة.
9- وعندما اختلفت المعادلات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ولم تعد سوريا تلك العصا التي تحتاجها أمريكا في لبنان، كما كان عليه الحال في 1976، صدر الأمر الرباني الأمريكي بانسحاب سوريا من لبنان. وصدعت سوريا لأمر أرباب الأرض، ولكن على مضض، وأضمرت في نفسها الانتقام، والموت الزؤام لمن كان وراء هذا الأمر الرباني الأمريكي. فمارست دورها من جديد في لبنان كقوة إقليمية عظمى، وأقسمت على حرق لبنان بالرحمن والشيطان. وكان لها ما أرادت. وها هي منذ أن انفصلت عن لبنان جسدياً في 2005 ، وبقيت فيه روحياً وبوليسياً وسياسياً، تحرقه كل يوم، وتأكل من لحم أبنائه المشوي على السيخ السوري، وتتلمظ، والعالم العربي لا يحرك ساكناً، غير الرجاء، والكلمة الطيبة، والقول الحسن، والتودد في أن ترأف سوريا الجزّارة بالصوص اللبناني. والعالم يتفرج، ويفكر، ويتدبر، ويرى أن إقرار المحكمة الدولية الأخيرة، هو المخرج الوحيد للإطاحة بالحكم السوري، حيث لا جيش وطني يقوى على ذلك، ولا معارضة داخلية أو خارجية تستطيع ذلك، ولا أحزاب سياسية تقدر على ذلك، ولا قوة عسكرية خارجية (كما تم في العراق) بمقدورها أن تكرر التجربة المريرة في سوريا، بعد أن نجحت سوريا العظمى في تلقين الأمريكيين درساً مريراً في العراق، علمتهم فيه مقدار الثمن الغالي للإطاحة بالديكتاتوريات العربية عن طريق القوة العسكرية الخارجية الضاربة.
10- وأخيراً، وجدت سوريا نفسها بعد ذلك، في أحضان إيران من جديد، بعد أن تركت هذا الحضن الدافيء في 1991 ، وانضمت إلى التحالف في حرب الخليج الثانية، وبعد أن كانت حليفة لإيران الخمينية طيلة سنوات الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988). فعادت من جديد إلى الحضن الإيراني الدافيء في تحالف استراتيجي متين. وتعاظمت قوة سوريا الإقليمية بتعاظم قوة إيران الإقليمية، نتيجة لما تملك من مال، وملف نووي، وتحدٍ للغرب، وإخافة لدول الخليج، وسيف حزب الله المسلول، ومواسير حماس النارية – كما وصفها محمود عباس - وألعابها النارية اليومية، هي وباقي المنظمات الدينية الفلسطينية المسلحة، وثقل ودور الإخوان المسلمين في كافة أنحاء العالم العربي، وتأييدهم لإيران، وانتظارهم لإعلان الخلافة الإسلامية الجديدة المنتظرة من طهران. ومظاهر القوة الإيرانية هذه كلها، مُجيّرة لحساب سوريا، ولقوتها الإقليمية العظمى، التي زادت بالقوة الإيرانية الجديدة، عظمة على عظمة!
السلام عليكم.