الأموات بين الهمجية والنزوات
المهندس رياض الكفائي
- قابيل وهابيل
كانت الأرض قبل هبوط الأنسان عليها تنعم بسلام وأمان وهدوء وأستقرار، فلم تدنسها جريمة ولم يمخر عذريتها سفينة . فعاش آدم وحواء القادمان من الجنة في تلك الأرض الجدباء وكونا أول أسرة في تاريخ البشرية . وبدأت معالم الشرّ تفصح عن نفسها في سلوك قابيل مع شقيقه هابيل أبناء آدم وحواء ، وذلك بسبب عوامل الحسد والغيرة لينتهي الأمر بمقتل هابيل .
وقف قابيل حائرا من هول الموقف بعد فيضان روح أخيه ، يحدق في يديه الملطختين بالدم ، لايدرك ما إقترف من ذنب ٍ ، فحمله على ظهره وهو لا يعلم ماذا يفعل بذلك الجسد الذي سكن فجأة ً ، فكان يخشى أن يتركه في العراء فتلتهمه الوحوش ... ثم قدم غراب يحمل بمنقاره غراب ميت ، فهبط أمام قابيل وراح يضرب الأرض بمنقاره ومخالبه ، فحفر قبراً ثم رفع الجثة الهامدة بمنقاره ووضعها في اللحد ثم واراه الثرى ... فصرخ قابيل وهو يعظ ُّ بأنامله من الندم وقال :
( قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ )[المائدة : 31]
فقام قابيل وحفر قبراً لأخيه ودفنه كما فعل الغراب . وهكذا تعلمت البشرية كيفية دفن الموتى وأحترام قدسية الميت من هذا الغراب الذي أصبح أول معلم للبشرية في الكرة الأرضية . أما قابيل الذي أضلّه الشيطان بفعلته هذه كان أول من سنّ شريعة القتل وبذلك فعليه وزرها ، وسيتحمل جرائر كل جرائم القتل حتى قيام الساعة .
- رمسيس الثاني في ضيافة ميتران
ومع تعاقب الحضارة الانسانية ظهرت أساليب مختلفة بدفن الموتى ، وغالبا ما تكتنفها بعض الطقوس التي تأخذ طابع التقديس وتعكس المعتقدات الدينية السائدة , وأجمعت جميع الاديان السماوية والوضعية على حرمة الميت وعدم المَسْ بقدسيته.
فالمصريون القدماء درجوا على تحنيط الموتى قبل دفنهم بواسطه مواد كيمياوية ، اذ كان المصريون القدماء يعتقدون أن وجود المومياء أو الجثة المحنطة امراً ضرورياً لبقاء الروح في الجسد . ولاتزال المومياء تحظى باهتمام بالغ نظرا لقيمتها التأريخية ، فعندما تسلم الرئيس الفرنسي الراحل ميتران زمام الحكم بفرنسا عام 1981 . طلبت فرنسا إستضافة مومياء فرعون مصر رمسيس الثاني والذي يعتقد أنه الفرعون الذي عاصر سيدنا موسى عليه السلام ، وهو اشهر طاغوتٍ عرفه التاريخ. فتم نقل الجثمان الى فرنسا ، وعند سلم الطائرة اصطف الرئيس ميتران منحنيا هو و وزراؤه وكبار المسؤوليين الفرنسيين ليستقبلوا الفرعون استقبالا رسميا كأحد رؤساء الدول . ثم حملت مومياء الطاغوت بموكبٍ رئاسي بكل ما يقتضية الامر من حفاوة وتكريم الى جناح خاص في مركز الاثار الفرنسي , عندها بدأ كبار علماء الاثار وأطباء الجراحة والتشريح دراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها .
وكانت نتيجة هذه الدراسات أن أكتشف رئيس الجراحين والمسؤول الاول عن دراسة هذه المومياء البروفسور موريس بوكاي أن صاحب هذه الجثة قد مات غريقاً , وأن جثمانه قد أستخرج من البحر بعد غرقه فوراً ، ثم أسرعوا بتحنيطه لينجو ببدنه.
وكان بوكاي يعتقد أنه قد حقق إكتشافاً عظيماً رغم حَيرتة في كيفية حفاظ هذه المومياء على سلامتها اكثر من غيرها ، وذلك لكونها أنتشلت من البحر . وعندما أراد تسجيل اكتشافة هذا ، قيل له أن تفاصيل هذا الاكتشاف مدونة في القران الكريم، كتاب المسلمين المقدس , فأخذ يبحث في هذا الموضوع وتصحبهُ الدهشة والخشوع ، كيف ان كتاب محمد ( ص ) قد ذكر تفاصيل اكتشافاته عن هذه المومياء التي عرفت لأول مرة في عام 1898 ، بينما كتاب الله الذي أنزل على خاتم النبيين ظهر الى الوجود قبل 1400 سنة ، فما كان منة الا أن أعتنق الأسلام بفضل هذه المعجزة .
قال تعالى في محكم كتابه الكريم
( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) [يونس : 92]
- السومريون وشبح آدمو
اما السومريون في جنوب العراق فكانوا يدفنون مع الميت سبع جرار مملوة بالجعة ومعها الخبز و الحنطة وعباءة و وسادة , واذا كان الميت ملكا دفنوا معه عددا من حاشيته وذلك من اجل مرافقته الى العالم السفلي ( عالم الاموات ) أو مدينة الأموات أو عالم الظلام والرهبة ، والذي يحكم فيه الإله ( نرجال ) وهو المكان الذي إذا ذهب اليه الإنسان لا يخرج منه أبدا . ويعتقد السومريون وكذلك البابليون بأن الموت يشبه النوم يحتفظ الميت بشيء من الشعور يستمر ملازما له عند اللحظة التي يغمض فيها عينيه , وكانوا يتصورون " أن روح الميت تتمثل في شبح يدعى " أدمو " ينزل مع الميت إلى العالم السفلي ويبقى معه هناك في حال دفن الميت وفق الطرق و المراسيم الدينية المقررة , وإذا لم تتوفر هذه الشروط انقلب هذا الشبح روحا خبيثة يخرج من عالم الأموات في الأرض السفلى ويلحق الضرر و الأذى بالأحياء ولا سيما بأقارب الميت , ولذلك عُني الناس عناية شديدة بدفن الميت بموجب القواعد الدينية منعا لخروج " أدمو " من عالم الأموات .
- اليهود وبيت الأحياء
أما اليهود فلهم طقوسهم الخاصة للجثامين والدفن وهي طقوس مقدسة , وتسمى مقبرتهم بيت الأحياء او بيت الأزلية , وتعتبر اليهود المقبرة أكثر قداسة من المعبد اليهودي , ولعل هذا الاهتمام الزائد بجثمان الميت أو رفاته يفسر إهتمام الدولة الصهيونية بجثث القتلى الأسرائيليين، حيث دأبت الحكومات المتعاقبة لأسرائيل على إستبدال جثامين القتلى بالاسرى العرب كما حدث ذلك في سيناء وجنوب لبنان , ولاتزال الحكومة الاسرائيلية تشترط بنداً في أي مباحثات سياسية مع سوريا وهو استرداد رفاة الجاسوس الأسرائيلي ايلي كوهين الذي أعدمتة سوريا في 18 مايو 1965 .
- حرق الموتى
وقد دأبت عدة شعوب على حرق جثمان الميت ، حيث يرتبط ذلك بمعتقدات شمسية ، فأن إحراق الميت وتحويله الى رماد هو بسبب الأعتقاد بخلود الروح ، وأن للنار ناحية تطهيرية لأعتبارها قبس سماوي مشع يرتبط بالنجوم والشمس المضيئة .
اما الديانة الهندوسيه ( البرهميه) فيعتقد أتباعها أن الاجسام عند حرقها بالنار , تعلو شعلتها الى الأعلى , فتصعد الروح الى الملكوت وتتخلص من غلاف الجسم . ولا يتم ذلك الا بإحراق آخر جزء ٍ من أجزاء الجسم .
فأذا تحررت الروح بالحرق كان أمامها ثلاثة عوالم
1- عالم الملائكة
2- عالم الناس
3- عالم جهنم
فالبعث موضع اتفاق بين اتباع الديانه البرهميه وإنه للارواح وليس للأجساد
- عناق مدى الحياة
في أميركا وكندا واليابان وعدد من الدول الاوربية ، يستطيع الان أصحاب الأموال من تحويل جثث موتاهم الى ماسات وبمقدور افراد العائلة اقتناؤها على شكل قلاده او خاتم , فالمرأة التي فقدت حبيبها تستطيع تحويل جثمانه الى ماسة تعلقها على جيدها لتبقى امينة لذكراه من خلال عناقها للماسة مدى الحياة ، وبمبلغ لا يزيد عن 22 الف دولار أمريكي .
والعملية تتم من خلال حرق الرفاة وتحويله الى رماد و تنقيته بدرجة حرارة 3000 مئوية لاستخلاص مادة الكربون ، ثم يتم وضعة في حراره وضغط شديدين لتتحول الى ماسة في غضون 16 أسبوع , واذا ما تمت هذه العملية ببطء وعناية فائقة فأنها ستنتج ماسات على درجه عاليه من الجودة .
- القمر مقبرة المستقبل
اصحاب الاموال لهم نزواتهم الخاصة حتى عندما يفارقون عالم الأحياء.... فعالمة الجيولوجيا مارينا ويست والتي توفيت في 1998 قد اختارت في عام 1969 أن تدفن في القمر وفي المكان الذي هبطت فيه المركبة الفضائية ابوللو 11 التي حملت اول إنسان الى سطح القمر وهو رائد الفضاء الأمريكي نييل أرمسترونج. في حين نجحت شركة سيليستيس الأمريكية من إرسال رفاة 100 من الموتى الى مدار الأرض . وتعتزم الشركة من تنظيم رحلات منتظمة الى الفضاء عن طريق قمر صناعي من طراز كوزموس الذي سيتم تحميله بمئة وخمسون كبسولة مملوءة برفاة راحلين ، وستكون حمولة الكبسولة من غرام الى 7 غرامات وحسب رغبة العملاء ، وستدور هذه الكبسولات حول الأرض على مدى 156 عام قبل أن تدخل من جديد الى الغلاف الجوي .
ونوهت الشركة عن مشروعها القادم ، وهو أنها ستذر رماد الموتى على سطح القمر قريبا وبسعر زهيد جدا قدره 12 الف دولار ، وبذلك فأن القمر الذي كان على مدى التاريخ مصدرإلهام ا لعشاق وشعراء الرومانسية يتجة لأداء دوراً اخر في عصر الفضاء والتكنولوجيا ... وربما ستقوم الشركات بتنظيم رحلات خاصة لزيارة موتانا على سطح القمر .
- نبش القبور وكلمات اللعنة
أما في المغرب فقد تعرضت قبور المجاهدين المغارية لأعمال نبش وسرقة بهدف إستغلال أعضاء المتوفين في أعمال السحر والشعوذة .
حيث تتضمن أغلب وصفات الدجالين والمشعوذين الخاصة بأدعاء طرد الجن وفك السحر وعلاج العقم إستخدام عظام الموتى إما بسحقها وإستعمال خلاصتها في البخور او الاكل ، او تعليقها كتمائم .
وعمليه نبش القبور وعظام الموتى قديمة جدا ، وغالبا ما تكون لأغراض دينية او بحثية او عمرانية .
ففي زمن الكاتب الانكليزي الشهير شكسبير كان نبش القبور من الامور الشائعة ، وكان شكسبير يخشى ان يحدث هذا لرفاتة لدرجة جعلتة ينقش كلمات اللعنة لنابشي القبور على قبرة الكائن بكنيسة الثالوث المقدس في بلده ستراتفورد كتحذير ٍ لكل من يتجرأ على العبث بقبره بعد وفاته، وقد وافاه الأجل في عام 1616 , وتقول الكلمات
( فليبارك الله من يحقظ هذه الأحجار ... ويلعن ذلك الذي يحرك عظامي )
ويعتقد ان هذه الكلمات هي التي حفظت قبر شكسبير من العبث حتى يومنا هذا .
- جثامين للبيع
أما في العراق الجديد!! فلم يعد هنالك حاجة لدفن الموتى , شهداء السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة وذلك لعدم التمكن من العثور على رفاة القتلى لشده وهمجية الانفجارات ، و ظهر مؤخراً عددٌ من اللصوص في بغداد يقومون بسرقة الجثث السالمة من اماكن حدوث التفجير او عمليات القتل ، مقابل الحصول على فدية من العوائل المنكوبة .
حيث ينتحل افراد العصابات صفة عاملين في الحقل الطبي ويجمعون الجثامين بغية خزنها في المشافي ، ولكنهم يأخذونها الى أماكن سرية ثم يطالبون بمبالغ قد تصل الى 5000 الاف دولار مقابل اعادة الجثة الواحدة الى ذويها .
ولعل هذا المشهد لن ولم يكن اخر مشاهد العنف التي تجتاح أرض الرافدين , فقوى الشر عازمة على تقديم كل ما هو جديد وهمجي لتمزيق البلد وإحالة حياة أبنائه الى جحيم ، كيما ترتع قوى الظلالة والجهل بنعيم الدنيا والجنة الموعودة في عقولهم المتحجرة .
تعستْ هذه الحياة ُ فما ***** يسعدُ فيها الا الجهولُ ويرتعُ
هي دنيا في كل يوم ٍ تُرينا **** من جديد الألام ِ ماهو اوجعُ
( عبد الله ال نوري )