قرأت قبل قليل مقالة لأحد الاصدقاء يحدد سقف التناقضات التي تعترينا في منطقتنا بهذا الزمن الذي لم يزل العالم فيه ينتج المفاهيم والتشيؤات .. وقد انزوى كتابنا ومفكرونا لا ليشرحوا المفاهيم ويقدّموا الافكار ، بل لينشروا مجرد التعابير ويكتبوا الانشاءات .. اما التشيؤات ، فليس لنا الا ان نستخدمها دون ان نفكر باعادة انتاجها .. كنا قبل اربعين سنة ، نتناقل الافكار الجديدة وآخر تقليعات الفلاسفة والكتّاب والروائيين العالميين المعروفين ، وبتنا اليوم تحتكرنا الحياة الصعبة وتتسلط علينا النصوص الهشّة التي كتبت في الماضي ، والتي لم يعد لها اي فائدة لضرورات العصر !
لم تزل احجيات مثقفينا الذين تربوا على مؤدلجات جاهزة يلوكون نصوصهم وتعابيرهم ويتشدقون بشعاراتهم وقد شاخوا وبلغوا من الكبر عتيا ! العالم كله يسير في اتجاه ونحن نسير في اتجاهات متناقضة ومخالفة . لم تكن منتجات اوروبا الفكرية في القرن العشرين لها توظيفاتها السياسية ضدنا عن قصد ، ولكن ثمة منتجات امريكية في القرن الواحد والعشرين باتت معلنة ولها وظائفها في صناعة الفوضى الخلاقة . سألت قبل ايام المؤرخ الامريكي مايكل براون الذي جمعتني واياه طاولة واحدة في منتدى الدوحة للديمقراطية والتنمية عن سبب هذه " الصناعة " الامريكية وبالاخص في منطقة الشرق الاوسط ؟ اجاب بشكل مقتضب محددا رأيه الشخصي قائلا : ان التغيير في مثل هذه المنطقة من العالم لا يمكنه ان يتم باساليب اصلاحية عادية ، اذ لابد من قلب الطاولة وبعثرة الاشياء القديمة من اجل ان يعيد الناس فرز الاشياء وترتيب شؤونهم بانفسهم ، وهذا ما شهدته مجتمعات عدة في التاريخ ..
قلت له : ولكن لا يمكن ابدا ان تستفيقوا فجأة على الاشياء القديمة التي تريدون تغييرها وانتم لكم روابطكم التاريخية بالمنطقة التي تعرفونها حق المعرفة ؟ اجاب : كل الاشياء كانت مخفية ومغطاة ولكنها بدأت اليوم تنذر بالخطر ، وبات العالم يخشى فظائعها !! وقال انني لست مع الفوضى الخلاقة ، ولكنها تعّري كل مثالب حياة المجتمع البشري ! ولقد تأكدت ان ثمة استراتيجية بعيدة المدى قد وجدت نفسها في منطقتنا ربما لاعادة رسمها من جديد ! وربما لضرورات أخرى .
ان صناعة الفوضى مشروع حقيقي لتفجير تناقضات كل منطقتنا وعالمنا ، بحيث يتعّرى الجميع امام العالم وتتشظى الصراعات الى الحد الذي لا يمكن ضبطه او السيطرة عليه .. فكيف لنا بمعالجته وتجميع اجزائه ؟ هنا تقوم القوى الاقوى بابتلاع الشطائر الضعيفة والمهترئة . ولعّل توظيف نقاط الضعف في مجتمعاتنا اعلاميا وتجريد كل المنطقة من عوامل الانشداد ، قد ساهمت فيها الاعلاميات المضادة في صياغة صورة منقسمة ليس سياسيا ، بل اوصلت الانقسامات اجتماعيا ، مكرّسة كل التعارضات الاجتماعية والتشظيات السياسية والمفارقات الطائفية والالوان المذهبية والقومية .. بل واذاعت اكاذيب ومعلومات غير صحيحة ابدا . ان نموذج كل من العراق ولبنان دليل فاضح على تطبيق الفوضى الرائعة .
كم كانت هناك دعوات من بعض الكّتاب العرب والاجانب ومنذ عشرين سنة نادت بمخاطر قادمة من دون ان تلتفت السلطات الى حجم المأساة ! وكم كانت هناك من نداءات لجامعة الدول العربية لتأسيس مشروع منفتح في التنمية العربية .. وكم جرت مطالبات حقيقية للعديد من الدول العربية والاسلامية لمعالجة جملة هائلة من الحالات التي لا تخص فقط اساليب الحكم والمضامين السياسية ، بل تدعو الى اصلاحات جذرية في التربية والتعليم وفي القضاء وتجديد في التشريعات وتطوير للقوى البشرية والادارة والخدمات .. ناهيكم عن رأب الفجوات التي خلقتها الاتجاهات المتعصّبة ليس في حياتنا السياسية حسب ، بل حتى في حياتنا الاجتماعية ومضامينها الثقافية .. ولم ازل اتذكر ما طرح في وثيقة الاسكندرية للاصلاح قبل سنوات ولكن لم نجد اي استجابة حقيقية من قبل المسؤولين والذين يتحملون المسؤولية التاريخية !
لم يقتصر الامر على المؤسسات والسلطات ، بل تطال المسؤولية كل ابناء النخب المثقفة التي لم تجد اي ضرورات للتغيير ، بل وقف اغلبها ضد التغيير والتجديد ولم تزل على حالها ، وكأن التغيير قد احتكرته قوى خارجية معادية وليس من ضرورات التقدم . ان كتابات عربية كانت ولم تزل تنشر على الملأ معترفة بحجم المخاطر ، ولكن من دون ان تتقدم خطوة واحدة لتقديم بدائل او مشروعات او برامج تعمل على تغيير ليس الاشياء التي الفناها في حياتنا ، بل على تأسيس ثورة معرفية شاملة تصل الى التنمية الذهنية والانفتاح على عالم اليوم .. وخصوصا تغيير مناهج التربية والتعليم بشكل جذري بحيث تستقيم وضرورات العصر .. ناهيكم عن منح المرأة كل الثقة في ان تكون نصف حقيقي مثقف وحيوي ومنتج في المجتمع . ان تمزقاتنا الفكرية والاجتماعية اخطر بكثير من بعثرتنا السياسية وفرقتنا القومية .. اننا ان لم نحسم ونعالج الامراض تلك ، فلا يمكن ابدا مجابهة اية فوضى خلاقة تمتد هنا او تصل الى هناك .. وتلك لعمري كارثة لا حدود لها !
انني واثق تمام الثقة ان نخبا عربية من بقايا القرن العشرين لا تستطيع ان تفعل شيئا ازاء متطلبات الزمن الجديد اولا ومواجهة ما تختزنه مجتمعاتنا من معوقات . وعليه ، ينبغي ان يفسح الجيل الماضي الطريق امام الجيل الجديد ليأخذ مواقعه ويصنع قراراته ويلحق بالعصر من خلال بناء مجتمع المعرفة والمعلومات لا من خلال مجتمع التناقضات السياسية .. كما ان حياتنا العربية بحاجة الى زعماء جدد وقيادات كفوءة لبرامج ومشروعات مبتكرة وثورات معرفية من اجل المشاركة في التنمية الانسانية وسد الفجوات ومعالجة الضعف والتسارع التاريخي بكفاءة عالية وسد الطريق امام استفحال التناقضات وانتشار الفوضى .. علينا ان نتجاوز الشاطر والمشطور في حياتنا وتفكيرنا معا .
العودة الى الصفحة الرئيسية