|
تراكمت تصورات بان إلتصاق الإنسان بالقوة الغيبية وانكفائه على عبادة الخالق تجعله في معزل عن المحيط الاجتماعي، كما ان هذا الانعزال هو محبوب في ذاته في تقويم سلوكياته بعيدا عن المؤثرات الخارجية الصادرة من المجتمع في اتجاهاته الصائبة والخاطئة، ومثل هذا التصور نلحظه عند البعض ممن جعل المسجد دار معاشه، أو قفل على داره لا يرى الناس ولا الناس تراه، ونظر الى المحيط الاجتماعي نظرة تشاؤمية، ولجأ الى العبادة المجردة، وحمّل غيره مؤونة معاشه، تحت دعوى التجرد من الماديات. أو ان يمد البعض بالأدعية والأذكار حبلا، فيتخذها مركبته للعروج الى عالم الماورائيات، والسباحة في فضاء الغيب، والامتناع عن الهبوط الى عالم الشهود والاحتكاك بالمجتمع، أو ان يتمسك بالدعاء والتضرع وإسبال الخدين دموعا دون أن يكلف الداعي نفسه خطوة البحث عن مظاهر الحياة للأخذ بأسبابها ومسبباتها. وإذا كان البعض قد فهم من الدين الصلاة والصوم فحسب، فان البعض فهم من الدعاء الاعتكاف في محراب الآخرة واعتزال دار الدنيا، في حين ان الدين أوسع في حلقاته من العبادة المجردة، والدعاء أوسع في مدياته من العروج النفسي المجرد، فالمعصوم الذي يقوم الليل هو نفسه العامل في النهار، والمعصوم القابض على لحيته في هجعة الليل يناجي المحبوب، هو نفس القابض على سيفه تقبل شفرتاه رقاب الظالمين، والمعصوم الذي يقطع في وهدأة الليل حبال الوصل مع الدنيا، هو نفسه الذي يمسك بهذه الحبال يمارس الحياة كواحد من الناس، ضرباً للفهم الخاطئ لصورة المعصوم كما رسمها الناس في مخيلتهم ونقلتها لنا الآيتان 7-8 من سورة الفرقان: (وقالوا مالِ هذا الرسولِ يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق لولا اُنزل إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نذيرا. أو يُلقى إليه كنزٌ أو تكونُ له جَنةٌ يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). هذه الثنائية المتشابكة الأطراف بين العالم العلوي والعالم السفلي، يحاول الفقيه الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي في الجزء الثاني من كتاب "الصحيفة الحسينية الكاملة" الصادر في لندن في العام 2007 عن المركز الحسيني للدراسات في 494 صفحة من القطع الوزيري، استنهاض رؤاها من خلال وضع الأدعية والأذكار الواردة عن الإمام الحسين (ع) انشاءاً أو رواية، على طاولة التشريح متسلحا بمبضع اللغة والفقه والأصول والرجال والحديث والتاريخ والتفسير، فضلا عن العرفان، في محاولة قل نظيرها في عالم شرح نصوص السنن، لاستكناه حقيقة الدعاء، واستجلاء خباياه.
حقائق علمية في الواقع ان الدكتور الكرباسي يحاول في باب الدعاء كما في الأبواب الستين الأخرى من أبواب دائرة المعارف الحسينية التي تفوق مجلداتها الستمائة وصدر منها 36 مجلدا، أن يقدم النهضة الحسينية على حقيقتها ما أمكنه الى ذلك سبيلا، وإخراجها من رتابتها التاريخية والمعرفية، ولذلك فان الشروح التي قدمها لأكثر من مائة دعاء ومناجاة وذكر وورد، سجلت في هذا الكتاب، ضمت بين سطورها معارف وعلوم جمة، لأن باقات الأدعية احتوت مقاطعها حقائق ومعارف، أمكن لعلم الحديث بيان معالمها بعد أربعة عشر قرنا، لكون المعصوم لا يحدث إلا عن القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك فان بعض الأدعية التي كانت قبل الثورة العلمية عصية على الفهم يدعو بها المسلم تسليما بصدورها عن المعصوم حتى من دون ان يفهم مغزاها، صارت سهلة المنال معرفيا، وبالتالي التعبد بها كسنّة هو تعبد عن معرفة، وإن عبادة الله عن معرفة وشكره لما أنعم، هي منتهى غاية العبد، وهي عبادة الأحرار، كما يقول الأمام علي في وصف صنوف العبّاد: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار)، ولهذا فان الإمام علي (ع) يختلي مع ربه ويناجيه: (إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك). من هنا فان المصنف استبان عنده من خلال قراءة عميقة للأدعية الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) وبخاصة الإمام الحسين (ع)، ان الأدعية على ما فيها من علوم في جوانب شتى كانت تستهدف: "بث الوعي بين أكرم المخلوقات، ومن ثم ترسيخ العقيدة بينهم بالطرق العلمية، وأخيرا الراحة والطمأنينة، تلك الطرق العلمية التي هي من أكثر الوسائل تأثيرا في النفوس"، فدغدغة المشاعر والوجدان لوحدها لا تكفي في الاستدلال على الحق وترسيخ العقيدة في النفوس، وان كانت هي واحدة من الطرق الى الله: "من هنا يفهم مدى حرص أهل البيت (ع) على ان لا تكون العاطفة من وراء العقيدة، بل كانوا يحثون أتباعهم على الاستدلال بالحقائق العلمية لإثبات العقيدة"، فعلى سبيل المثال، فان الإمام الحسين (ع) في دعاء العشرات يحمد الله ويقول: (ولك الحمد عدد كل قطرة في السماء)، ويتبادر الى الذهن ان القطرات هنا، تعني قطرات السحاب، لكن المصنف يرى ان هذا المقطع من الدعاء ربما كان إشارة الى وجود ماء في السماوات غير النازلة إلينا ووجودها في كرات غير الكرة الأرضية، وهذا ما يحاول علماء الفلك البحث عنه خارج نطاق الأرض في أجرام أخرى. وعلى مستوى الكرة الأرضية فان المياه تغطي (71,111%) من سطحها، ومن اللطف الإلهي والإعجاز العددي في القرآن كما يستظهر المصنف ان كلمة البحر وردت في القرآن الكريم 32 مرة، وكلمة البر 12 مرة وكلمة اليبس مرة واحدة، فالمجموع 13 مرة، ونسبة 13 الى 32 هي نسبة 28,888 من 71,111، والذي بهما يكون مجموع سطح الكرة الأرضية من ماء ويابسة.
علاقات متكاملة تختلف المدارس العقيدية في تعداد العلاقات التي يتمسك بها الإنسان كفرد، كما تختلف في بيان تأثير الواحدة على الأخرى، وفي مجال السياسة اشتهرت عبارة العلمانيين المنسوبة للسيد المسيح (ع): "دعوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، أو قول البعض من العلمانيين العرب "الدين لله والوطن للجميع"، حيث يفهم من هاتين العبارتين وأمثالهما، ان علاقة الإنسان بخالقه أو بمن يؤمن به ربا، هي علاقة خاصة تنحصر تأثيراتها بخط واصل بين العبد والمعبود ولا يتعداه، ولا ينبغي سحب هذه العلاقة خارج الإنسان نفسه، وهنا يلتقي أصحاب هذا الرأي من العلمانيين مع مدارس دينية منغلقة على نفسها لا ترى علاقة للإنسان غير علاقته مع ربه، ولم تلتفت الى مصلحة الإنسان خارج المسجد أو الكنيسة أو المعبد. وتبدو هذه النظرة قاصرة، لان الإنسان إنما خلقه الله لكي يعمر الأرض ويبنيها له ولجيله وللأجيال القادمة، فليس من المعقول ان يتقوقع في علاقاته، ولذلك وسّع البعض من العلاقات الى علاقات أربع: علاقة الفرد بخالقه، علاقة الفرد بنفسه، علاقة الفرد بالآخر، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وزاد البعض ببيان علاقة الفرد بالدولة، ويعتقد المحقق الكرباسي بأهمية علاقة سادسة وهي علاقة الفرد بالبيئة بما فيها من حيوان ونبات وجماد وماء وهواء وغير ذلك: "بمعنى ان للبيئة التي يعايشها الفرد دورا كبيرا في إيجاد المناخ الملائم له للعيش في أكنافها، والبيئة أوسع علاقة من العلاقات الأخرى إذا ما استثنينا العلاقة الأولى منه، لأنها واسعة بوسع الكون وضيقة بضيق نظر الفرد، فكلما توسع أفق الفرد توسعت آفاق دركه للعلاقة المميزة بينه وبينها، وإذا تمكن فهمها بات سعيدا وأصبح سعيدا". وهذه حقيقة تنبه إليها البعض، فتم على أساسها تأسيس منظمات إنسانية أخذت على عاتقها حماية البيئة، لشعور قوي بأهمية علاقة الإنسان بالبيئة وتأثيرها على مستقبل وجوده في الأرض، وتأثيرها الآني على صحته ومزاجه. ويلاحظ آية الله الشيخ الكرباسي ان الأدعية الصادرة عن المعصومين، تتضمن هذه العلاقات الست، وهي تحاول ان تضع الإنسان على الجادة السليمة وترشده الى تعميق هذه العلاقات، فهي الى جانب تنظيم علاقة الإنسان بخالقه من اجل بعث الطمأنينة في نفسه وتشذيب عواطفه وأحاسيسه لسلامة مزاجه النفسي، فان الدعاء يؤمّن العلاقة بين الإنسان والبيئة، باعتبار ان البيئة عنوان عام يصح إطلاقه على كل ما يعايشه الإنسان ويحيط به أرضا وسماءا. وأما على مستوى العلاقة بالذات، فقد دلت الوقائع والحقائق ان فهم الإنسان لنفسه وتفهم مرادها ومعرفة رغباته وشهواته مقدمة ضرورية للتعامل مع النفس وترشيدها بما فيه صالحه والمحيط به، ولا يخفى ان أطباء النفس إنما في علاجهم لمرضاهم يغورون معهم الى أعماق نفوسهم من اجل إجتثاث ما ران على نفوسهم من سواد وترميم تصدعاتها، وكلما فاتح المريض طبيبه وكشف عن سريرته، أمكن علاجه بسرعة، وقد أثبتت الأرقام ان المجتمع المؤمن بغض النظر عن المعبود هو مجتمع تقل فيه الأمراض النفسية، لان الدعاء والمناجاة والأذكار والأوراد، من السبل الناجحة لمصارحة الإنسان نفسه أمام من يحب، من غير رقيب ولا حسيب. ويخلص الكتاب الى ان العلاقات الست لا يمكن فصلها الواحدة عن الأخرى، وبخاصة وان الثابت ان الدين هو المعاملة، وان الدين هو النصيحة، وان الدين هو الأخلاق، وان من مصاديق الدين النص الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، فيؤكد: "ان عدم الاكتراث بهذه العلاقات هو من وراء الخلل الحقيقي في سعادة البشرية جمعاء .. اذاً فالسعادة هي التوفيق بين هذه العلاقات، وهذا ما يدعو إليه الإسلام بشكل عام وخط أهل البيت (ع) بشكل خاص".
أغراض شتى كثيرا ما يلجأ الإنسان الى الدعاء عند الشدة، وان كان الدعاء في الرخاء دلالة على قوة الإيمان، ولكن الكثير ممن يقرأ الدعاء تغيب عن ذهنه الأغراض التي تستبطنها مقاطع الدعاء نفسه، لانشغال الإنسان بحاجته وغرضه، ولكن بقراءة متأنية لأدعية الإمام الحسين (ع)، كما يسّرها لقارئه المحقق الكرباسي، يكتشف الإنسان أغراضاً شتى، بل هي: "مسرح للعديد من العلوم المرتبطة بالفضاء، والأحياء، وطبقات الأرض، والفيزياء، والكيمياء، والطب، وأمثالها، الى جانب علم النفس، والأبحاث العقائدية، والاجتماعية، وعلم الأديان، ونظائرها". فمن باب المثال، فان "دعاء الاستجابة" المنسوب الى الإمام الحسين (ع) فيه من العلوم والحقائق والأغراض يكاد يذهلك إذا ما تم الرجوع الى مكتشفات العلم الحديث، بخاصة حينما يتعرض الدعاء الى خلق الأرض والسماء وتهيئة الأرض للسكن البشري، فعندما يتحدث القرآن عن إرساء الجبال في الأرض ويشاطره الدعاء المفهوم نفسه، فان النص القرآني ونص المعصوم يتناول حقيقة معرفية جاء العلم الحديث ليكتشف باستخدام الرنين المغناطيسي ان ما يقرره علماء اللغة من كون "الإرساء" هو التثبيت مع غرز القواعد كما الحال في وتد الخيمة، واستخدمه النص الشريف بالمعنى نفسه، أثبته العلم أيضا: “وقد عبر العلم الحديث عن الجبال بالأوتاد عندما اكتشف بأن للجبل جذورا تمتد تحت سطح الأرض بما يعادل (4,5) أضعاف ارتفاعه فوق سطح الأرض، ويذكر علماء طبقات الأرض لدى حديثهم عن تكوين الجبال أنه كانت بطريقة الإلقاء"، كما في الآية 10 من سورة لقمان: (خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسيَ أن تميد بكم وبث فيها من كلّ دابة وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوجٍ كريم). وتظهر عدد من الأدعية، وعلى مستوى السياسة، نوع العلاقة القائمة بين القيادة والقاعدة، فالقائد كما في وصية الإمام علي (ع) لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر النخعي (ت 38 هـ)، لا ينبغي ان يكون متجهما عبوسا حتى يشار له بالبنان، بل: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبُعا ضاريا تغتنم أكلهم..)، وهذا الخلق والأدب الرفيع نتلمسه في أدعية الإمام الحسين (ع) ودعائه لصالح المؤمنين، وما أعظم ان يأتي الدعاء بالخير للناس ممن كان الوسيلة الى الله وسيد شباب أهل الجنة، حيث يدعو: (اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريما، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك، إنك على كل شيء قدير)، أو توجهه الى الله بالدعاء لجون بن حوي النوبي المستشهد في كربلاء عام 61 هـ، وهو مولى لأبي ذر جندب الغفاري (ت 32 هـ): (اللهم بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد). كما لا يغيب عند الدعاء الأدب، وبخاصة الشعر، فضلا عن ان الدعاء بحد ذاته هو أدب راق، اعتمد العبارة البليغة والسجع، وتوحد القافية بين مقطوعات وأخرى، من قبيل دعاء الإمام الحسين (ع) عندما رماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه الحسين (ع) ورمى به فسال الدم على وجهه ولحيته: (اللهم إنك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة العتاة، اللهم إحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا، ولا تغفر لهم أبدا). ومن ملازمة الشعر للدعاء، دعاء الإمام الحسين (ع): (اللهم إني وفيت بعهدي أوفِ بعهدك يا أرحم الراحمين)، وقد دعا به في معركة الطف حينما ضعف عن القتال وقف ليستريح ساعة، فبينما هو واقف إذ رماه رجل بحجر وقع في جبهته الشريفة، فسالت الدماء على وجهه ووضع جبهته على الأرض، وجعل يناجي ربه، وقيل: ثم أنشأ، من الوافر: تركت الخلقَ طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا فلو قطعتني في الحب إربا لما حنّ الفؤاد الى سواكا
استنتاجات تعتبر الأدعية والأذكار من باب السنن، ولذلك قد يتلقى المتلقي الدعاء دون تثبت من السند أو المتن عملا بقاعدة "التسامح في أدلة السنن"، في حين يتشدد الفقهاء والأصوليون في النصوص المتعلقة بالتشريع الفقهي، لكن آية الله الكرباسي في هذا الكتاب وفي غيره، فضل ان يتغافل عن هذه القاعدة، ويتعامل مع الدعاء كتعامله مع أي نص يرد عن المعصوم، فيعرضه على علوم الحديث والرجال، فلا يبالي ان يضعّف سند دعاء، ويقوي من سند آخر. وعنون كل دعاء بعنوان مأخوذ من متن الدعاء، ان لم يكن للدعاء عنوان أصلا من وضع المعصوم نفسه أو الرواة، واعتمد في تخريج الدعاء على أمات المصادر والمراجع القديمة ومقابلتها بالكتب الحديثة، وتتبع المورد الذي حدا بالإمام الحسين (ع) الى ذكر الدعاء، لأهمية ذلك في تفهم المتن، مع ملاحظة دقيقة للسند ورواته. وينهي المحقق الكرباسي شرح الدعاء بجملة استنتاجات مستوحاة من مقاطع الدعاء، هي بمثابة مصابيح مضيئة تنير للمرء جادة التعامل مع ربه ونفسه والآخر ومجتمعه والدولة والبيئة. والاستنتاجات كثيرة بعدد الأدعية والأذكار، ولعل أهما: أولا: الدعاء لوحده لا يغني عن العمل وتلمس أسباب الحياة، فثمت تلازم كتلازم الروح للجسد وتلازم السهم بوتره، وتلازم الحضور بالغيب، وتلازم الدنيا بالآخرة، ذلك: "ان حياة الدنيا وحياة الآخرة متعادلتان، وان الله جل وعلا له موازين دقيقة في تعامله مع عبيده، فقد جعل الدنيا دار الزرع والآخرة دار الحصاد، وهناك وعد ووعيد، وطاعة ومعصية، فاعتبروا يا أولى الألباب". ثانيا: على الداعي ان يثق كليا بالقوة العليا، كثقة المريض بطبيبه، وإلا لا يصح ان يذهب المريض الى طبيب لا يثق بقدراته العلمية والطبية، على ان الثقة بالله في الاستجابة لا تعني التواكل والتكاسل في الوصول الى الأهداف: "فانه يدعو بكل ثقة واطمئنان ويسعى ويجد في أن ينال مراده دون كلل أو تعب". ثالثا: الدعاء هو تعليم المعصوم لعباد الله في كيفية الرقي والوصول الى المراتب العليا من الطاعة والعبودية للخالق والتدرج في سلم التكامل، وعلى هذا الطريق لابد من المصارحة لأنها طريق الى تحقق الاطمئنان الروحي، والمصارحة هي نوع من الاعتراف: "بحقيقة ضعفه وحقيقة قدرة ربه حتى يتمكن من الوصول الى قضاء حاجته، بل لابد وأن يكون موقنا بذلك ومعترفا"، لان الدعاء في محصلته: "طلب من العاجز الى القادر على ما يطلبه". رابعا: يصح القول ان الدعاء والتوجه الى الله تعبير عن حقيقة الطاعة، ولكن الصحيح أيضا ان العمل بمقتضى الشورى هو طاعة أيضا، لان الله دعا الى الشورى، كما في الآية 38 من سورة الشورى في وصف صفات المؤمنين: (وأمرهم شورى بينهم)، ولذلك فلابد للداعي عند طلب الحاجات ان يُعمل الاستشارة في كيفية استحصالها، كما عليه ان يخطط في سبيل تحقق الطلب وإنجازه، ولذلك يستوحي المصنف من دعاء للإمام الحسين (ع) وهو عند قبر جده محمد (ص)، أن: "الدعاء + القناعة + المشورة + التخطيط = الطاعة الحقيقية لله جل وعلا، لأنه أمر بذلك"، كما يفهم من المكان تفضيل الدعاء عند مشاهد الأنبياء والأوصياء والأولياء، على إن: "من الآداب الصلاة على محمد وآله" في كل دعاء. خامسا: ولما كان الدعاء في نهايته طلب تنجز سعادة الإنسان الذي يعيش مع أخيه الإنسان، فان هذه السعادة تقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف أمام ظلم الظالمين، صحيح ان هذه مسؤولية الجميع، ولكن القيادات، وبخاصة القيادات الروحية تتحمل العبء الأكبر، من هنا فان المصنف يستظهر من جملة أدعية، انه ليس من مظاهر الزهد والتقوى والانقطاع الى الله: "ان تجلس في بيتك ولا تتدخل في شؤون الناس إذا طلبوا منك ذلك ويكون لك موقف، بحجة ان معالجة أمور الناس تقلل من شأن القيادة"!
بين نصّين اعتمد الكتاب في تقسيمات فصوله الأربعة على مضامين الأدعية، فالفصل الأول ضم أدعية المناسبات حيث استوعب ثلث الجزء الأول من كتاب "الصحيفة الحسينية الكاملة" ونحو نصف الجزء الثاني. فيما ضم الفصل الثاني دعوات الإمام الحسين للموالين، وضم الثالث دعواته على الظالمين، وضم الفصل الأخير الأذكار. ومع ان حياة الإمام الحسين (ع) لا تعتبر قصيرة (58 عاما)، لكن ما أمكن التثبت من الأدعية تعد قليلة، وقد عزى المحقق ذلك الى أمور عدة: أولا: ان الدعاء يختلف عن الحديث، وهو حوار بين العبد وخالقه: "ولذلك لا تظهر في الغالب بمظهر العلن إلا إذا جاء من باب التعليم، أو الاستجابة لطلب السائل، أو اقتضاء الحاجة العامة كالاستسقاء". ثانيا: ان الدعاء بخاصة أدعية المناسبات لا تجدد، لان المناسبات ثابتة ومثلها الأدعية، نظير الأدعية بعد الفرائض أو أدعية الحج أو أدعية شهر رمضان، على ان كثيراً من الأدعية تقرأ في مناسبات عدة لتضمنها المناجاة مع الله. ثالثا: ان الإمام الحسين يمتلك خزينا من الأدعية والأذكار واردة عن جده محمد (ص) وأبيه علي (ع) وأمه فاطمة (ع) وأخيه الحسن (ع)، وعن جبريل (ع)، فلا يجد حاجة الى إنشاء أخرى، ولذلك اختلف الرواة في نسبة عدد من الأدعية ما إذا كانت من إنشاء الإمام الحسين (ع) نفسه أو من روايته عن النبي (ص) وأهل بيته (ع). رابعا: يعتقد المصنف ان نصوص الأدعية ربما تعرضت الى ما تعرض إليه التراث الإسلامي بشكل عام والأمامي بشكل خاص، من ضياع وطمس على مر العصور، ناهيك عن سياسة الاضطهاد التي تعرض لها آل الرسول (ص) من قتل وسجن وإبعاد: "وفي مثل هذه الظروف كان الإنسان بتراثه مقصودا، وفي ظلها لا يمكن المرء الحفاظ على نفسه فكيف على تراثه"؟!
نادرة وكما هو دأبه، تعاهد المؤلف على إفراد 25 فهرسا في أبواب شتى استخرجها من متن الديوان وهوامشه، لتكون نبراسا للقارئ والباحث والدارس. كذلك تعاهد على ختم كل مجلد بقراءة نقدية لعلم من الأعلام من أديان ومذاهب وجنسيات ولغات مختلفة، يقدم فيها رؤيته الخاصة حول مجلدات دائرة المعارف الحسينية. المشرف على موسوعة الجزائر في العام 2002م، والكاتب في موسوعة "أعلام العرب والمسلمين" الصادرة في تونس، الأستاذ في جامعة مولود معمري في مدينة تيزي وزو الجزائرية الدكتور صالح بلعيد تتبع إصدارات دائرة المعارف الحسينية بشكل عام، وكتاب "الصحيفة الحسينية الكاملة ج2" بشكل خاص، وخرج بانطباع سجله في مقالة كتبها باللغة الأمازيغية، وهو أن: "إنجازات دائرة المعارف ليس بالأمر السهل، وهي من الصعوبة بمكان بحيث انه يتطلب الصبر الطويل وذلك الانسان الذي يمتلك العقلية والعلم والفكر الواسع والحكمة"، ووجد الدكتور بلعيد: "إن الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي، هو العالم صاحب العلم والقلم، الذي بذل نفسه وسخرها ليفهم الناس أن مثل هذا العمل ليس بالهين ولا السهل، واقطع إن مثله قليلون، وهو عالم كبير"، وعن شهادته بالموسوعة الحسينية قال الأكاديمي الجزائري: "إن هذه الموسوعة وحسب ما رأيت ليس لها ما يماثلها، وحينما نتحدث عن الموسوعات العالمية، بإمكاني القطع أن هذه الموسوعة تجاوزت الموسوعات المعرفية التي نعرفها.. فهي عالية في قيمتها، ولم اعرف موسوعة شبيهة بها، لا في الماضي ولا في الحاضر".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |