|
في كل يوم أشاهد مناظر دماء شهداءنا مسفوحة على قارعة الطريق، متخثرة داخل حافلات الأجرة الصغيرة، منثورة على تراب الطرق المؤدية إلى مراقد الأئمة، حتى انطبع منظر الدم على عقلي، الظاهري والباطني، وأصبح ماثلاً في مخيلتي طيلة ساعات نهاري وأرقي. ليس هناك أقدس من دم الشهداء، لذلك يدفنون بدون غسل أو كافور ولا حتى كفن، لكننا نعامل دماء شهداءنا كالطين أو قاذورات الشارع، ما أن تتصاعد أعمدة الدخان منبأة بتفجير انتحاري أو تفخيخي، في سوق شعبي للشيعة أو مسطرة عمال شيعة أو حسينية، حتى يهرع عمال البلدية رافعين المكانس، ويلحق بهم موظفو المطافيء شاكين خراطيم المياه، ويبدأون عملهم المعتاد على الأشلاء الطاهرة والدماء الزكية، وسرعان ما يكنسوا ويجمعوا مخلفات الانفجار التي اختطلت بها أشلاء الضحايا تمهيداً لارسالها إلى مكبات النفايات، أما الدماء فتوجه لها خراطيم المياه القوية لتسيل نحو فتحات المجاري مختلطة بأوساخ أبداننا وشوارعنا. في فلسطين المحتلة إذا سقط صهيوني قتيلاً وتناثرت أشلائه ودمائه تضرب الشرطة نطاقاً حول المكان، ويستدعون حاخاماتهم لجمع الأشلاء، وتراهم منهمكين في لملمتها من على الأرض والحيطان والشجر والسيارات، أما الدماء فيرفعونها مسحاً بالقطن قطرة قطرة، وسواء كانت طقوساً دينية خاصة بهم أم تعظيماً لقتلاهم فلا يرفع الطوق عن مكان الحادث أو العملية حتى لا تبقى قطرة دم ولا قطعة لحم بشرية سائبة. ما الذي يدفعنا للتعامل باستهانة بل حتى باحتقار للأشلاء الزكية والدماء الطاهرة لشهداءنا الأبرياء؟ أرجح بأنها رغبة دفينة للتخلص منها بطمرها أو غسلها حتى لا تعلق بذاكرتنا، يقال أن اللون الأحمر بحد ذاته مهيج للأعصاب فما بالك لو كان الأحمر القاني دماً مسفوكاً لإمرأة أو شيخ أو طفل رضيع. نسارع لإخفاء بقايا الجرائم الارهابية لأنها تذكرنا بعجزنا المتواصل عن إيقافها ومنعها، ولأننا نشعر بتأنيب الضمير لتركنا أخواننا وأخواتنا يسقطون ضحايا للعمليات الإرهابية كل يوم من دون أن نفعل شيئاً لردعها ومنع تكرارها، أترانا ناقصي الإيمان على مقياس مبادءنا الدينية التي تأمرنا برد العدوان وحماية المستضعفين من النساء والأطفال والشيوخ؟ أم نحن ناقصو الرجولة لأن أخوة لنا يقتلون كل يوم تحت أبصارنا ولا نحرك ساكناً؟ ولا بد أن يكون المادون رقابهم لسكاكين الإرهابيين الذباحين جنسأً آخر من المخلوقات بانتظار عالم طبيعة ليكتشفهم ويسميهم. حسناً نفعل بذر التراب والماء على دماء شهدائنا لأن دماء الأبرياء في بلادنا المنكوبة أصبحت عيوناً فوارة، وهي عيون مبصرة، ترى عجزنا وتخاذلنا، ونقرأ في حدقاتها إتهاماً وعتباً وحيرة، لذا من الطبيعي أن نفقأها كنساً وغسلاً ودفناً بأقصى سرعة ممكنة. بالأمس لم نحترم رفات أحباءنا الذين قضوا بأيدي جلاوزة النظام الصدامي المقبور، وبعد أن نبشنا عظامهم الطاهرة وذرفنا اليسير من الدمع عليها، أهلنا عليها التراب وانصرفنا للضحايا الجدد من أهلنا، في الصين يقدس الناس عظام أجدادهم، ينشؤن لها مقامات في صدور بيوتهم، يتبركون بها، وإذا انتقلوا إلى دار جديدة وضعوها في صرر وحملوها معهم. في الشهر الماضي دفنت أكثر من 300 جثة في كربلاء، لم يسر وراء جنائزهم مشيع واحد ولم يبك عليهم أحد، لأنها لأناس مجهولين، هكذا يقول البيان الرسمي، هل كان هؤلاء من مشردي الشوارع أم من اللقطاء الذين لا يعرف لهم أهل ولا أقارب؟ منذ القدم كان للناس طقوس خاصة بقتلى الحروب، فبعد انتهاء القتال تحضر نساء المحاربين من الطرفين إلى ساحة المعركة للبحث بين القتلى عن ابنائهن وأزواجهن وأخوتهن، وكان التقليد المتبع حتى بين الأقوام والقبائل الهمجية أن يتركن لنقل ودفن موتاهن من دون تعرض. واجب علينا تقديس رفات ودماء شهدائنا لنرسل بذلك رسالة بليغة إلى الإرهابيين القتلة بأن أرواح أعزتنا هي الأثمن في الوجود، ومن يتجرأ على سفك دمائنا فموعده مع قصاصنا العادل آت لا محالة، اقيموا النصب التذكارية لشهداء الإرهاب في كل أصقاع العراق واحفروا عليها أسماءهم، لا تأخذكم رحمة ولا شفقة بالسفاحين وأعوانهم، لا تجعلوا شهدائنا سلعة رخيصة في سوق السياسة تقايضون بها، ولا تشتروا بدماءنا المسفوحة هدنة من الإرهابيين، وكفوا عن التعامل مع دماء ورفات شهداءنا الطاهرة مثل قمامة أو ماء مسكوب على قارعة الطريق لأنها أقوى من فولاذ مصهور، اجعلوا منها أسلحة لمحاربة الإرهابيين، آنذاك سترون كيف ينتصر سلاح الدم الشيعي الفولاذي على سيوف البغي الطائفية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |