|
تدور في الأروقة السياسية، تسريبات وأخبار عن عزم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، تشكيل حكومة جديدة، يختصر فيها عدد الوزارات، ويختار لها عناصر كفوءة قادرين على العمل في ظل الظروف الحالية للعراق،ونيته طرح حزمة من القرارات التي تصب في المصلحة العراقية،بتوازنات جديدة تختلف عن الموازنات السابقة، ولكن هل يستطيع المالكي تشكيل مثل هذه الحكومة في ظل الاختلافات المستشرية بين الأطراف السياسية،والانقسامات داخل الكتل السياسية ذاتها،وهل بإمكان المالكي الخروج عن التوافقات الحالية والمحاصصة القائمة،هذا ما أشك فيه،لأن السيد المالكي فشل في الامتحان الأول عندما أنسحب وزراء الكتلة الصدرية من الحكومة،وأوكل إليه التيار الصدري اختيار وزراء أكفاء وتكنوقراط قادرين على تسيير أمور وزاراتهم بما يقدم الخدمات للمواطن،وأن يكون الوزراء غير مرتبطين بأي جهة سياسية،ومعروفين باستقلاليتهم،ولكن المالكي قام بتوزيع الوزارات بين أحزاب الدعوة،والعناصر اللصيقة به،والمجلس الإسلامي العراقي،مما جعل التيار الصدري يعترض على ترشيحهم عند التصويت عليهم في مجلس النواب،وعندما أعاد الكرة لم يخرج عن هذا الإطار مما عرقل عملية التصويت،وظلت هذه الوزارات تدار بالوكالة، من هنا يمكننا القول أن السيد المالكي في ظل الأصطفافات الحالية، والضغوط التي تواجه حكومته، من حلفائه ومناوئيه،غير قادر على أخذ زمام المبادرة،وتشكيل وزارة على أسس وطنية بعيدة عن المحاصصة المقيتة التي أوصلت البلاد الى شفير الهاوية أن لم يكن قعرها. أن المالكي الآن بين خيارين،كل منهما سيطيح به خارج اللعبة السياسية كسلفه الدكتور الجعفري الذي كان ضحية التوافقات السياسية،والمماحكات البعيدة عن المصلحة الوطنية التي أدت الى قصوره وتقصيره في أدارة الأمور عند توليه المسئولية،وعلى المالكي الاستفادة من الأخطاء التي أرتكبها سلفه،ولعل أكثر الأمور التي ستطيح به: 1-إصرار الجانب الأمريكي على قيام الحكومة باتخاذ حزمة من الأجراآت السريعة لانجاز مشروع المصالحة الوطنية،وأجراء الاتصالات مع المسلحين،وإلغاء قانون أجتثاث البعث،وإشراك أطراف من خارج العملية السياسية،واتخاذ اجراآت رادعة بحق الجماعات المسلحة والمليشيات،وتحقيق نجاحات على الأرض بتوطيد الأمن،والسيطرة على الأوضاع في العراق،وهو ما يعجز عن تحقيقه بسبب التوجهات المضادة لسياسته،واختلاف وجهات النظر للأطراف السياسية العاملة على الساحة العراقية،في ظل فشل كبير في تحقيق هذه المطالب،بسبب الخلافات العميقة بين الأطراف الرئيسية،وبذلك لا يمكن للمالكي الذي لا يستند لجهة فاعلة أن يقوم بخطوات جذرية للإصلاح السياسي في العراق،لانعدام الأسس السليمة لبناء المرتكزات القوية بسبب المحاصصة والتوافقية التي لا تمكنه من اتخاذ القرار الموحد،وتطبيق برنامجه الحكومي الذي اتفقت عليه الأطراف السياسية،لتضاربه مع الأجندات المتقاطعة لجميع الأطراف. 2- الخلافات العاصفة داخل الائتلاف العراقي الموحد،بتشكيلاته المتنافرة،ذات التصورات والرؤى المتباينة،فلكل طرف منها رؤيته السياسية التي تختلف بل تتقاطع مع تصورات الأطراف الأخرى،وهذه الاختلافات والتقاطعات دفعت بعض قوى الائتلاف للخروج عنه وتكوين كتل مستقلة عن الائتلاف،وخروج تجمع للمستقلين غير ملزم بالموافقة على ما يقرره الائتلاف،في الوقت الذي كان للتيار الصدري مواقفه المعلنة وغير المعلنة،التي لا يمكن لها أن تلتقي مع تصورات أطراف فاعلة في الأئتلاف،مما جعله ينسحب من الحكومة،ويشكل تيارا يتقاطع في الكثير من المواقف مع الأئتلاف،كما حدث في التصويت على قانون الأقاليم وقضية كركوك وانسحاب القوات الأجنبية،وما سيحدث عند التصويت على قانون المسائلة وقانون النفط وغيرها من القوانين التي تختلف فيها التصورات،مما سيدفع التيار الصدري مستقبلا الى الخروج عن الأئتلاف والتحالف مع تيارات أخرى،وهناك تحركات عديدة في هذا الاتجاه لا زالت في طور التهيئة والتحضير،وهذه الاستعدادات قد تقلب الأمور رأسا على عقب،وقد تغير الكثير من التوقعات في المستقبل السياسي للعراق،وقد كان لخروج حزب الفضيلة من الأئتلاف وقعه المؤثر، ويعطي دلالات خطيرة عما سيئول اليه أمر الأئتلاف في الأيام المقبلة،رغم وجود ما يشبه الإجماع من قوى الأئتلاف الأخرى على تصفية حزب الفضيلة وإنهاء مرتكزاته الاجتماعية في الساحة العراقية،وما يحدث في البصرة وبعض مدن الجنوب يوحي بعمق الخلافات،واحتمالية التفكك لهذا التجمع الذي يهيمن على السلطة في العراق طيلة السنوات الماضية،مما قد يحدث حراكا جديدا ينحو بالعملية السياسية الى طرق لم تكن بالحسبان. 3- موقف قائمة التوافق:رغم الخلافات المعلنة وغير المعلنة لكتلة التوافق،والخلافات الناشبة بين مكوناتها،إلا أنها تتحد في الموقف من التشكيلة الحكومية الحالية،فالتوافق تشعر بالغبن والتهميش والإقصاء الذي يمارس ضدها،ورغم مشاركتها في العملية السياسية،الا أنها بعيدة عن اتخاذ القرار،لأن القرارات المتخذة ينفرد بها الأئتلاف،أو بالتوافق مع الجانب الكردستاني مما جعل الكتلة في مواقف متناقضة في المشاركة والخروج من الحكومة أو العملية السياسية برمتها،وهو ما يشكل عامل ضغط على الحكومة ويؤدي الى إسقاطها،ولولا الضغوط الخارجية على أطراف مؤثرة في التوافق،لاتخذت مواقف متطرفة تعصف بمجمل العملية السياسية،وتعيد البلاد الى المربع الأول،في ظل العجز الواضح لإمكانية إدارة الأمور من قبل الأئتلاف لوحده. 4- أما القائمة الكردستانية المتحالفة استراتيجيا مع الأئتلاف العراقي،فهي تشكل مركز الثقل في التجاذبات الحاصلة بين الأطراف،فهي بيضة ألقبان،ولها وحدها القدرة على تغيير المسار العام للسياسة العراقية،فعندما أصرت على إقالة الجعفري من رئاسة الوزارة،تمكنت من أيجاد تحالف طويل،وتأييد سياسي من الكتل الأخرى بما فيها أطراف قوية في التحالف،وكانت تفضل إسناد الوزارة الى الدكتور عادل عبد المهدي الا أن الكتلة الصدرية ذات التأثير القوي في الأئتلاف العراقي،فرضت المالكي على الأطراف الأخرى ،لا لمؤهلاته القيادية أو شعبيته وشعبية حزبه،بل ليكون الضحية التالية،في مؤامرة لإنهاء حزب الدعوة واثبات فشله في الساحة العراقية من أطراف قوية في الأئتلاف،لذلك فالتحالف الكردستاني لايهمه من يكون رئيسا للحكومة المركزية بقدر ما يهمه مدى استجابته لطلباتهم في إحقاق حقوقهم القومية،وبناء دولتهم على أحسن ما يكون البناء،لذلك فالخاصية الكردية هي الأساس في التحالفات واتخاذ القرارات،مما يجعل للتحالف ثقله في أي معادلة سياسية قائمة،رغم أن المكان الطبيعي للقوى الكردية ،هو الطرف العلماني الذي يلتقي معها في الكثير،لولا تشدد بعض الأطراف في قبول المطالب الكردية،وضعف التيار العلماني بسبب المحاصصة الطائفية،والتكتلات القائمة على أسس بعيدة عن التعامل السياسي للأنظمة الديمقراطية،لذلك نلاحظ أن معظم القادة العراقيين يتوجهون الى كردستان كلما طرأ جديد في العملية السياسية،وهذا الثقل الكردستاني جعل الكتل الأخرى،غير قادرة على اتخاذ قرار بمعزل عن التحالف الكردستاني،مما جعل الكورد هم الماسك الحقيقي لكل خيوط اللعبة في العراق،إضافة لما تتمتع به كردستان من علاقات متميزة مع الجانب الأمريكي تصل الى حد الانصهار،بما يجعل مواقفها ترتبط بصورة مباشرة بما يخطط له البيت الأبيض من سيناريوهات في العراق. 5- القائمة الوطنية العراقية:تحوي القائمة لعراقية الوطنية في طياتها كتل وأحزاب وحركات وشخصيات مستقلة،لكل منها ثقله السياسي وقابليته،مما جعلها أكثر الكتل عرضة للاختلافات لاحتوائها على خليط من شخصيات لها القدرة على التفكير،بعكس بعض الكتل التي تظم في طياتها الغث والسمين،وأشخاص ليست لهم أي توجهات سياسية معروفة،ومجرد أعداد لها حق التصويت دون حق اتخاذ القرار،ويعلم أكثرهم أن ما أوصلهم الى البرلمان هو التأييد الديني،لا الثقل الشخصي والموقعي الاجتماعي،ولكن عيب العراقية أنها اختزلت بشخص الدكتور أياد علاوي،الذي يمتلك تصورات وأفكار تتقاطع مع تصورات الكثيرين من المنضوين تحت لوائها،ويتخذ في الكثير من الأحيان مواقف انفرادية تزعج هذا الطرف أو ذاك،مما يدفعهم الى التماهي عنها أو اتخاذ مواقف حيالها،ولعل خروج الدكتور الحافظ مؤشر على ما يدور في القائمة من اختلافات،كذلك المواقف المستقلة للحزب الشيوعي والأطراف المتحالفة معه،التي لها قراءتها الخاصة للأمور،وتختلف كثيرا عن توجهات رئيس القائمة وبعض أعضائها،فالقائمة تضم في صفوفها المتشددين الى حد القطيعة،والمعتدلين الى حد المسايرة،وينعكس اختلاف أعضائها وتعدد توجهاتهم على مواقفهم اتجاه الكتل الأخرى،فالبعض يرى في أطراف من الأئتلاف قوى معتدلة بالإمكان التحالف أن لم يكن الاتفاق معها لانجاز المشروع الوطني العراقي،في حين يتمسك البعض بأطروحات متشنجة لا تختلف عن مواقف أطراف متشددة في كتلة التوافق،ويتخذ آخرين مواقف متقاطعة مع توجهات القائمة الكردستانية،في حين تعمل أطراف معتدلة على لملمة الأمور،وتقريب المواقف مع الأطراف الأخرى خوفا من انفصامها،أما موقف السلطة الحالية منها فهو موقف أقل ما يقال فيه التهميش لها وحسر دورها في دائرة ضيقة،ومحاولة حسر نفوذها،وعدم أشراكها في القرارات المهمة أو غير المهمة،بل حتى تهميشها داخل المجلس السياسي للأمن الوطني،الذي جرى الاتفاق أن يتولى رئاسته رئيس القائمة الا أن إصرار الأئتلاف على أبعاد علاوي من أي مشاركة فاعلة في القرار،دفعهم لتشكيل لجنة داخل المجلس تتخذ القرارات أبعد عنها ممثل العراقية الوطنية،واقتصرت على أطراف المحاصصة الثلاث التي يعول عليها في البناء السياسي للعراق الجديد،وهو على الأكثر ما دفع رئيسها وبعض أعضائها لاتخاذ مواقف متطرفة من الحكومة،ولعل تحركات علاوي من أشد ما يقض مضاجع الحكومة الحالية،لتأثيره الكبير على المواقف الإقليمية والدولية وعلاقاته المتميزة مع الجانب العربي الأوربي الأمريكي،مما يجعله البديل المرتقب لقيادة حكومة جديدة بعيدة عن الأطر السابقة لبناء الدولة العراقية، وهو ما دفع الأطراف السياسية الأخرى لموجهة تحركاته بتصريحات تجاوزت الأطر التقليدية ،ولا توحي بإمكانية التوافق مستقبلا،رغم أن المفاجآت السياسية غير بعيدة في هذا المجال. 6- أما الموقف الأميركي الذي يعتبر سيد المواقف في العراق،فقد منح المالكي التأييد الكافي لانجاز المهمة في العراق،الا أن المالكي على ما يبدو لا يستطيع التقدم بانجاز ما أوكل إليه من مهام للتقاطعات الموجودة داخل العملية السياسية،ورغم أن الأمريكان لم يتركوا الباب مفتوحا للمالكي،وحددت له مهلة زمنية تنتهي في أيلول من هذا العام،الا أنه لا يلوح في الأفق ما يشير الى أمكانية تقدم ملموس،لذلك سيكون الموقف الأمريكي مع الأصوات الداعية لتغيير المالكي وتشكيل حكومة جديدة،وليس لأمام الأمريكان غير خيار واحد هو تشكيل حكومة متوازنة ،من كفاآت ليس على تاريخها غبار وبعيدا عن المحاصصات السابقة،وهو ما يبدو غير ممكنا في ظل الرموز الحالي أمام هذه التقاطعات والاختلافات الحادة بين الإطراف السياسية،وبين الائتلافيين أنفسهم،ترى السيد المالكي كالكرة التي تتقاذفها الأيدي،فهو لا يستطيع أرضاء الأطراف جميعها،أو محاربتها،مما يدفعه في أحايين كثيرة الى أعطاء تنازلات منفردة لهذا الطرف أو ذاك،مما أنعكس سلبا على أدائه كرئيس للوزراء،في ظل تشكيلة متنافرة لا يتمتع أعضائها بالمهنية والكفاءة،والالتزام ببرنامج معين،فلكل وزير كتلته التي يرجع إليها،في تنفيذ برنامج وزارته،أو حزبه الذي يملي عليه أرادته،لذلك ليس من المعقول أرضاء هذه الأطراف والتوفيق بينها،والسير ببرنامج حكومي موحد،يضاف لذلك اعتماد المالكي على مستشارين من طرف واحد ليس لهم من الأهلية الآدارية والعلمية ما يجعلهم قادرين على تقديم المشورة اللازمة للسير بالطريق السليم،لذلك ترى التخبط الواضح في تسيير أمور الدولة واتخاذ القرارات وتعدد التصريحات التي تزيد من الاحتقان،والتقاطعات،مما يؤدي الى ارتباكات كثيرة في سير العملية السياسية،ولو أستطاع المالكي تعيين مستشارين ملمين بالواقع العراقي وسير الأوضاع في العراق،لأخذت الأمور منحى آخر،ربما يغير الكثير،ويدفع بالاتجاه السليم للعملية السياسية الجارية في العراق. أمام كل ذلك أرى أن إصلاح الوضع الحالي يتطلب حزمة من الأجراآت الكفيلة بأحداث التغيير الشامل لمفاصل العملية السياسية،فالمشكلة ليست في تغيير الوجوه وتبديل الأشخاص،أو في أنشاء تكتلات وتحالفات جديدة،فالأمر يتطلب عملية جراحية كبرى،تستأصل الأورام السرطانية الخبيثة المتأصلة في التكوين الحالي لأطراف العملية السياسية،واعتماد منهجية بعيدة عن المحاصصة الطائفية والقومية والحزبية،بإيكال الأمور الى عناصر كفوءة معروفة بالوطنية الصادقة البعيدة عن الارتباطات الأقليمة التي اتخذت من العراق ساحة لتصفية حساباتها،أو تشكيل حكومة طوارئ بأشراف دولي من عناصر كفوءة متميزة بالنزاهة والأمانة والإخلاص،تأخذ على عاتقها بناء دولة المؤسسات بعيدا عن كافة المحاصصات التي إذا استمرت ستكون صورة مضخمة للبنان جديد،يختلف عن لبنان البارد بما عرف عن العراقيين من دماء حارة تثور لأتفه الأسباب،ونزوع للقتل والإبادة كما يشهد تاريخنا القديم والمعاصر،فالقوة الهوجاء هي الكفيلة بإعادة الأمور الى نصابها،بإنشاء نظام علماني متحضر بعيدا عن الصراعات القومية والدينية والمذهبية،وأبعاد المؤسسات الدينية بمختلف توجهاتها عن واجهة الأحداث أو صياغة القرارات،لأن تدخلها كفيل بتدمير العراق،وإبادة شعبه،لما لهذه المؤسسات من رؤيا بعيدة عن المفاهيم العصرية لدولة القانون والمؤسسات،واستنادها لنظريات تبيح قتل الإنسان لأتفه الأسباب،وقدرات على استصدار الأحكام باجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان ولا تتوافق مع مواضعات العصر الحديث.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |