ماذا جنت بريطانيا من احتلال العراق؟

محمد عارف / مستشار في العلوم والتكنولوجيا

Iraq4Iraqis@googlegroups.com

يقول مثل سومري يردده سكان بلاد ما بين النهرين منذ أربعة آلاف عام: "بال الثعلب بالبحر، وقال: كُلّ البحر بولي". هذا ما جنته بريطانيا من احتلال العراق. أطول رؤساء وزاراتها في الحكم استقال أخيراً، بسبب تورطه بحرب العراق، والبصرة، التي تحتلها قواته منذ عام 2003 تسيطر عليها عصابات مافيا النفط. عشيرة "عاشور" الصغيرة، التي تتكون من 50 أسرة تحصل على خمسة ملايين دولار أسبوعياً من تهريب النفط، حيث تسيطر على ميناء "أبو فلس" في ثغر الخليج. قبل الاحتلال كانت عشيرة "عاشور" تجهز السلطات العراقية بحرس الميناء، وهي تدفع الآن ربع مليون دولار أسبوعياً لحراسة خزانات وقود النفط، التي أقامتها تحت الأرض في مزارعها، وتأمين نقلها في صنادل صغيرة.

والمبلغ في الحقيقة رشوة تتقاسمها سلطات الميناء، والمليشيات، وزعماء الأحزاب الطائفية المسيطرة على البصرة. يذكر ذلك مراسل صحيفة "الغارديان" البريطانية في البصرة غيث عبد الأحد. وتكشف المعلومات والأرقام، التي يوردها المراسل عن توزيع المهام بين أحزاب طائفية ومليشيات، بعضها يقوم بتزوير تصريحات رسمية بشحنات النفط، وتتولى أخرى تأمين عمليات التهريب من الحقول والمصافي. وترافق شاحنات تهريب النفط البرية مواكب سيارات الشرطة، وتؤمن الحماية الرسمية نقل النفط المهرب في زوارق بحرية. ويذكر ربّان إحدى ناقلات تهريب النفط أن الموارد، التي تحققها عملية تهريب واحدة تكفي لشراء الناقلة المستأجرة.

تقدم عصابات مافيا تهريب النفط، حسب مراسل الصحيفة البريطانية "مثالاً لاختفاء اقتصاد العراق وثرواته النفطية في الفراغ الحقوقي، الذي خلفته الدولة، وانعدام قوات الأمن، وسيادة الفساد العام للأحزاب والمليشيات وعصابات التهريب". هذا هو الدرس الرئيسي من غزو العراق واحتلاله. ليس بإمكان أي قوة خارجية، حتى هذه، التي تتكون من تحالف دولي تتزعمه القوة العظمى ملأ الفراغ، الذي تخلفه الدولة. وهذا هو سر القداسة، التي تمتلكها الدولة، بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم فيها، وهو أمرٌ لم يدركه المتورطون بجريمة التعاون مع المحتلين، ويحاولون التغطية عليه بإنكار وجود العراق، والادعاء بأنه كيان مصطنع من صنع بريطانيا العظمى. فالعراق واقعة تاريخية وجغرافية، كظواهر التاريخ الطبيعي. وهل هناك أسطع من جحيم الاحتلال، الذي يتلظى به برهاناً على أنه دولة "طبيعية"، وليس مجرد أجهزة إدارية، وتنظيمات بيروقراطية، ووحدات عسكرية وبوليسية يمكن إعادة بنائها بقرارات عشوائية؟ وهل تنزف حمامات الدم، التي يسبح فيها منذ أكثر من أربع سنوات من غير جسده الحي، الذي يحاولون تقطيعه؟

وتاريخ بريطانيا في العراق يعيد نفسه مرتين، مرة في مطلع القرن الماضي كمأساة. وثانية في مطلع القرن الحالي كمأساة هزلية، ملؤها السخف والدم. تفاصيل من داخل هذه المأساة الهزلية، التي قضت على حياة مئات البريطانيين، ودّمرت حياة ملايين العراقيين يرويها كتاب "مخاطر الاحتلال" الصادر بالإنجليزية. مؤلف الكتاب روري ستيوارت دبلوماسي بريطاني سابق عيّنته سلطات الاحتلال بمنصب مساعد الحاكم في محافظتي العمارة والناصرية. ولعل أفضل عنوان للكتاب هو الاسم، الذي كان يناديه به شيوخ العمارة والناصرية "مذكرات السيد روري"! فهو كتاب مذكرات يكشف بأسلوب قصصي حقائق مثيرة تخفيها عادة أساليب الكتابة الأكاديمية أو السياسية.

ولا تخلو القصة من حكايات جنسية. ففي الحديث عن الدورة الإعدادية، التي نُظمت له ولمرشحين آخرين لمناصب حكام المحافظات، يروي مؤلف الكتاب كيف حذرهم العسكري المكلف بتدريبهم من احتمال أن "يغتصبهم العرب إذا أسروهم". وطلب منهم أن لا يقلقوا إذا استثار ذلك لديهم أحاسيس معينة.. "فهذا يحدث في 75 في المائة من الحالات.. وهو أمر طبيعي لا يعني أنكم شاذين جنسياً"! لكن أكثر المشاهد إثارة ترسمها معارضة الاحتلال من جانب سكان العمارة والناصرية، وفيهم متعاونون يقبضون أموال منه، وموظفون في إدارته. وبعضها مشاهد بالغة الظرافة، كمشهد لقائه الأول مع مترجمه الشخصي، الذي يرفض أن يجلس احتراماً له، لكنه يقول له بالصراحة الفطرية لسكان جنوب العراق: "نحن لسنا أغبياء، ونعرف ما ألاعيب حكومتكم مع النفط هنا ومع إسرائيل"! ثم يحاضره حول الوطنية العراقية، متحدثاً عن مزايا الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي قاد الثورة ضد الاستعمار البريطاني. هذا مترجمه الشخصي، أما أعضاء مجلس حكم المحافظة، الذين عيّنهم بنفسه فكانوا أول من حاول قتله في أول فرصة سانحة.

ويشكل وصف مراسيم حفل ما يُسمى تسليم السلطة للعراقيين مشهداً مسرحياً كاملاً مع الموسيقى والديكورات والإضاءة. يجري الحفل في موقع الزقورات الأثرية المشهورة، التي يعود تاريخها إلى ميلاد إبراهيم الخليل عليه السلام قبل نحو اربعة آلاف عام. يتطلع المؤلف إلى المحتفلين ويفكر أن "قليلاً منهم سيظل على قيد الحياة بعد عام من الآن.. مع ذلك وقفنا سوية فوق سطح الزقورة كأصدقاء قدماء في نزهة، ثم عانقوني وقبلوني وضحكوا، كما لو كان الأمر نكتة شاركنا فيها جميعاً". وامتدحه "أسد"، وهو أحد أعضاء مجلس إدارة المحافظة، الذين لا يذكر أسمائهم الحقيقية، وقال له أن الجميع سيفتقدونه. دُهش "السيد روري" لذلك وسأله: "ماذا تقول يا أسد؟! لماذا أطلقت عليّ إذن مدافع الهاون قبل خمسة أسابيع، وحاولت قتلي؟!". أجاب "أسد" ضاحكاً: "لا تعتبر هذه مسألة شخصية يا سيد روري"!

ويبدو كمشهد من أفلام عصابات المافيا قدوم موكب "مدير العمليات البريطانية" آندي بيبرباك. تقل بيبرباك سيارة مرسيدس سوداء مسلحة وتحرسه سيارتان مسلحتان معبئتين بحرس من جنوب أفريقيا. ويغادر السيارة ببدلته السوداء وقميصه الأبيض مفتوح العنق، ترافقه مستشارته للشؤون السياسية البالغة 31 سنة من العمر، ويتدلى من أذنيها قرطان ذهبيان كبيران. يتبعها الحارس الشخصي، وهو من كوسوفو، يقول عنه ستيوارت أنه كان ماهراً خلال عمله معه في بلغراد بتدبير موائد للسهرة في النوادي الليلية، التي تملكها المافيا. وعندما يسأل  ستيوارت عن التوجيهات بشأن إنفاق الأموال يؤكد عليه "مدير العمليات البريطانية" بأن مهمته ليس القيام بعمليات تنمية، بل بناء بضعة مدارس وعيادات لدعم العمل السياسي "والتركيز على صنع أصدقاء. نحن نحتاجهم".

والأموال التي يجري الحديث عنها تبلغ 10 ملايين دولار شهرياً، مسموح له أن ينفقها دون حسيب أو رقيب. تأتي النقود مرزومة بأكياس مفرغة من الهواء، داخل كل كيس مليون دولار. ويذكر أنه استلم كميات من النقود يستحيل إنفاقها بشكل مسؤول. وقد شحت المشاريع، التي يمكن تنفيذها في الوقت المحدد بحيث كان عليّه أن يعيد مليون ونصف المليون دولار. وما قيمة أصدقاء بريطانيا، الذين صنعهم الاحتلال في بلد يقول عنه المؤلف:

"بغضّ النظر عمّا ستفعله الانتخابات، وعما سينفق من أموال للتطوير فهذه ستبقى أرضاَ من دون دولة فاعلة. ولن تكون هناك سلطة للبوليس، والموظفون فاسدين كليّة، ويشيع الضرب وحوادث الاغتصاب والاغتيالات، والخدمات منهارة، والأمن مفقود، ويزداد تأثير أجهزة المخابرات الأجنبية".

 العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com