محبّوك كثر .. وذكراك غالية
في الخامس والعشرين من حزيران الحالي غيّب الموت عنا الكاتب الصحفي والمناضل الشيوعي سعود الناصري، الذي توفي في مستشفى بدمشق إثر مضاعفات عملية لزرع الكلى، وضمّه ثرى مقبرة الغرباء بالشام في اليوم التالي، فترك رحيله الفاجع ألماً عميقاً في قلوبنا نحن رفاقه، وفي قلوب كلّ من عملوا معه أو عايشوه.
ولد سعود الناصري في الحادي عشر من حزيران عام 1939، وظل، طيلة حياته، يمزج، على نحو أصيل، تراث البصرة التي ينتمي إليها، وبغداد التي شهدت سنوات تكوينه ونضجه ونشاطه الفني والصحفي والسياسي، وهو يرث إبداع الصحافة عن والده الصحفي الرائد عبد الرزاق الناصري.
ومنذ أيام دراسته الموسيقى في معهد الفنون الجميلة أواسط الخمسينات تبلورت خياراته السياسية، فراح ينشط في العمل الطلابي، وأضحى واحداً من قادة الحركة الطلابية العراقية وعضواً في سكرتارية اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية ومسؤولاً للاعلام في الإتحاد ومشرفاً على تحرير مجلته (صوت الطلبة) عام 1960. وتواصل هذا النشاط الطلابي في سنوات لاحقة حيث كان الناصري رئيساً لرابطة الطلبة العراقيين ورئيساً لاتحاد منظمات طلبة البلدان العربية في الاتحاد السوفييتي عام 1967.
وفي عمر الثامنة عشرة، وفي العام 1957، بدأ نشاطه الصحفي في بغداد، الذي تواصل، في مرحلته الأولى، حتى عام 1961، وانتمى الى نقابة الصحفيين العراقيين منذ تأسيسها عام 1959. وعمل أثناء ذلك في صحف عدة بينها (البلاد) و(الرأي العام)، فضلاً عن عمله معداً ومقدماً لبرنامج أسبوعي في إذاعة بغداد خلال الفترة بين عام 1959 وعام 1961.
وتوجه بعدئذ الى موسكو للدراسة فيها فحصل على دبلوم في العلوم الفلسفية من معهد موسكو للعلوم الاجتماعية عام 1965، ودرجة الماجستير في الصحافة من جامعة موسكو عام 1968. وخلال تلك السنوات عمل معداً ومقدماً للبرامج في القسم العربي بإذاعة موسكو.
وعندما عاد الى بغداد عام 1968 مارس نشاطات إعلامية عدة بينها عمله في قسم البرامج بإذاعة بغداد. وتميزت في هذا النشاط فترة السبعينات، التي كان فيها كادراً حزبياً مسؤولاً في مجال الأدباء والفنانين، كما كان فيها مسؤولاً عن تحرير الصفحة الأخيرة من صحيفة (الجمهورية) حتى عام 1978، حيث نقل، لأسباب سياسية وضمن خطة تبعيث المؤسسات الإعلامية، الى وزارة الصحة. واضطر الى مغادرة الوطن في العام نفسه بعد اشتداد الهجمة ضد الشيوعيين والقوى الديمقراطية وسائر الوطنيين المعارضين للاستبداد. فتوجه الى منفاه القسري الأول في موسكو، حيث عمل محرراً ومترجماً ومشرفاً على النصوص المترجمة من الروسية الى العربية في صحيفة (أنباء موسكو) خلال الأعوام من 1978 حتى 1982. كما عمل مراسلاً لصحيفة (طريق الشعب) ومجلة (الثقافة الجديدة) في موسكو خلال الفترة من عام 1978 حتى عام 1984.
وكان سعود الناصري عضواً مؤسساً لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين إذ شارك في مؤتمرها التأسيسي الذي انعقد ببيروت عام 1980.
وانتقل أبو عمار من منفاه الروسي الى منفاه البريطاني لاجئاً سياسياً منذ عام 1992 حيث أقام في لندن حتى رحيله.
وشهدت السنوات الخمس عشرة من المنفى اللندني مرحلة أخرى من نشاط هذا المناضل الشيوعي والاعلامي البارز. ففضلاً عن مساهماته في نشاط منظمة حزبنا في بريطانيا، وخصوصاً في المجالات السياسية والفكرية، وكذلك الفنية الموسيقية، ومشاركته في الكونفرنس الخامس لحزبنا الذي انعقد بكردستان في عام 1999، تميزت فعاليته في المناسبات، وبين آخرها الاحتفال بيوم الشهيد الشيوعي، الرابع عشر من شباط، في العام الحالي.
وفي لندن عمل طيلة سنوات تسع عضواً في هيئة تحرير (رسالة العراق) التي كان يصدرها إعلام الخارج لحزبنا الشيوعي العراقي، وعرف، من بين كتاباته فيها، عموده الموسوم (بلا رتوش).
ومن بين نشاطاته خلال سنوات حياته في لندن كتاباته في صحف ومجلات عراقية وعربية بينها طريق الشعب والمدى والحياة والشرق الأوسط والمجلة والمشاهد. وكانت له فيها مقالات تحليلية هامة حول أوضاع العراق والأوضاع في روسيا، فضلاً عن مشاركاته في العديد من المؤتمرات الصحفية العالمية، وفي اللقاءات والندوات والبرامج الإخبارية والسياسية التي تقدمها محطات فضائية عربية باعتباره خبيراً في الشؤون الروسية.
وكانت آخر مبادرة في نشاطه الاعلامي إصداره صحيفة (الأبيض) نصف الشهرية في آذار عام 2006، بمشاركة الصحفية العراقية المعروفة سلام خياط، وزوجته الصحفية والمصممة ليلى البياتي، وقد صدر منها أربعة وعشرون عدداً قبل أن تتوقف في آذار 2007.
وفي كتاباته وآرائه كان الصحفي سعود الناصري يطرح القضايا المثيرة للجدل بروح الانفتاح والتجديد والحوار المسؤول، ويضيء التحديات التي تواجه بلادنا، والمعاناة المريرة لأبناء شعبنا، بمنهجية انتقادية مجسَّدة في أسلوب صحفي جذاب.
تلك صفحات مشرقة من سفر غني بأمثلة ملهمة .. سفر الناصري المفعم بالروح الإنسانية والقيم الجميلة والمواقف المشرّفة، وبالسخط العارم على المستبدين والتعاطف العميق مع المحرومين، والدفاع الجريء عن الحقيقة، والتطلع الى غد أفضل.
لزوجته المكافحة وولديه الموسيقيين وسائر أفراد عائلته مشاعر المواساة العميقة.
سعود الناصري .. محبّوك كثر .. وذكراك غالية !
وداعاً .. سعود الناصري
ينعي الحزب الشيوعي العراقي ببالغ الحزن والأسى فقيده الغالي، الشخصية الشيوعية والوطنية، والكاتب الصحفي والإعلامي البارز سعود الناصري، الذي وافته المنية في دمشق يوم الاثنين 25 حزيران الجاري إثر مضاعفات عملية زرع الكلى التي أجراها هناك.
لقد ترك رحيل عزيزنا أبو عمار أثراً عميقاً وغصة مؤلمة في قلوب رفاقه وأصدقائه، ومحبيه الكثر في الأوساط الإعلامية والثقافية العراقية، الذين عرفوا فيه انساناً نادراً في طيبته ونقاء سريرته، محباً ومحبوباً من الجميع. وكان الفقيد، أيضاً، مثالاً ملهماً في العطاء الإنساني والمهني والإبداعي، كاتباً صحفياً مرموقاً، وإذاعياً، وفناناً، عاش منغمراً في هموم شعبه ووطنه، وملتصقاً بحزبه، رغم ما قاسى من مرارات الغربة، ولعقود طويلة، في موسكو ولندن. ورغم ماعاناه السنوات الست الأخيرة من حياته، من عجز كلوي شامل، فقد ظل يقاوم المرض وآلامه بجلد، مواظباً على إداء شرف المهنة الذي ورثه عن والده عبد الرزاق الناصري، أحد أهم رواد الحركة الصحفية في العراق.
درس سعود الناصري الصحافة في موسكو، وعمل في الإذاعة العربية هناك. كما عمل في العديد من الصحف العراقية مثل "البلاد" و"الجمهورية"، في إذاعة بغداد، ولحّن العديد من الأغنيات الوطنية. وطيلة تسع سنوات أسهم بفاعلية في هيئة تحرير "رسالة العراق" التي كان يصدرها إعلام الخارج لحزبنا الشيوعي العراقي، وبادر، أخيراً، الى إصدار صحيفة "الأبيض" في لندن بجهود فردية. ولم ينقطع، رغم مرضه وأوضاعه الصحية الصعبة، عن المساهمة في المناسبات الوطنية، وكان آخرها مشاركته في أمسية خاصة في لندن بمناسبة يوم الشهيد الشيوعي في 14 شباط الماضي.
برحيل سعود الناصري تفقد الحركة الوطنية العراقية عامة والحزب الشيوعي العراقي خاصة، شعلة وهاجة لسيرة كفاحية غنية بالأمثلة الساطعة، ورفيقاً نذر حياته للمبادىء والقيم السامية، من أجل شعبه ووطنه.
لزوجته السيدة ليلى البياتي وولديه عمار وزيد وسائر أفراد عائلته الكريمة أعمق مشاعر المواساة والتمنيات بالصبر الجميل على هذا الرحيل الفاجع.
وداعاً سعود الناصري.. فتحتَ درباً للعلا، وعيناك ظلتا دائماً تتطلعان الى غد أفضل، وخلّفت رفاقاً بنهجك يقتدون، ولذكرك الطيب يحفظون.