ان ما يشغل تفكيرنا ويؤرق وجداننا نحن ابناء العراق وعلى امتداد تاريخ معاصر لنا لكل القرن العشرين .. هذا المنتج الثقيل الذي غمرنا به ونحن نعيش بدايات القرن الواحد والعشرين .. نعم ، انه المنتج الثقيل الذي كان ولم يزل هو المحذوف من تفكيرنا بأنفسنا ازاء الاخرين .. وما يفعله الاخرون بنا ونحن من ابعد الناس عن فهمه وادراكه ، فكيف لنا ونحن مسؤولون عن معالجته والسيطرة عليه ؟؟ ان المؤرخين العراقيين الذين كتبوا تاريخ العراق المعاصر لم يدركوا ان العراق كان ولم يزل مكانا غير عادي ابدا ، وان احداثه التي انتجها العراقيون لا يمكن ان تعالج كلها بمانشيتات ( وطنية ) منذ بدء التكوين على عهد فيصل الاول وحتى اليوم .. ان ادارة العراق لم تكن في اي يوم من الايام مستقلة الارادة في صنع مصير العراق ، وخصوصا من الناحية الاستراتيجية .. ربما كانت كانت هناك قرارات تكتيكية صنعها هذا ام مارسها ذاك ، الا ان احداث العراق الكبرى ومجيء هذا دون ذاك انما ارتبط بمعادلات غاية في التعقيد سواء من الناحية السياسية ام العسكرية ام الاقتصادية ..
ينقسم تاريخ العراق المعاصر الى قسمين اثنين اولاهما سمي بالعهد الملكي وثانيهما سمي بالعهد الجمهوري .. كان الاول نتاج مؤثرات مؤتمر الصلح بقصر فرساي بباريس عام 1919 اثر الحرب العالمية الاولى .. وكان الثاني نتاج مؤثرات مشروع روزفلت للانقلابات العسكرية اثر الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي اثر الحرب العالمية الثانية .. اي ان العهدين كانا من صناعة كل من بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية .. وعليه ، فان اي ادارة للعراق مهما كانت درجة وطنيتها ، فانها قد خضعت شاءت ام أبت ، بدرايتها ام من غير درايتها لما كانت ترسمه السياسات الدولية والمصالح الكبرى لهذا الطرف او ذاك في هذا العالم .
هذا هو المحذوف من تفكيرنا العراقي الذي كان ولم يزل يعيش على نغمة ثنائية " الوطنية والعمالة " .. وتلوك الالسن هذه الازدواجية التي توزع مجانا على هذا وتسحب من ذاك بلا اي وعي وبلا اي معرفة بما هو مخفي وبما هو مشلول من الارادة .. وبما هو واقعي من الاحداث .. وبما هو مذاع من المانشيتات .. وبما هو مبهرج من الخطاب .. وبما هو مجبول بالعاطفة . ان السياسة مجرد لعبة ذكية او صنع قرارات غبية ، وربما تكون غاية في الجمال وفجأة تغدو قبيحة على اشد ما تكون في غاية القبح .. ربما تكون معادلة قيمية مباركة وفجأة تغدو آلية بشعة لا يمكن البقاء بعيدا عنها من دون ممارستها .. ان السياسة اداة متكيفة لمصلحة معينة او جملة مصالح .. ربما تتقاطع المصالح وربما تتشابك .. ربما تتوافق وربما تتباين .. وفي العراق انتجت باسم السياسات الوطنية مصالح شخصية نفعية بنتهامية ، ثم مصالح عائلية وعشائرية مجسدة القرابة منذ مائة سنة حتى اليوم .. ثم هناك مصالح فئوية ضيقة ومصالح محلية وجهوية وقروية خاصة وكريهة .. ثم مصالح حزبية وطفيلية غاية في السوء .. ثم مصالح طائفية بشعة ترفض المصلحة العامة .. ثم هناك مصالح شوفينية لهذا الطرف او ذاك .. لهذا الجار او ذاك .. لهذه الشركة او تلك .. الخ ابحثوا لي عن صناع تاريخ حقيقيين للعراق على امتداد القرن العشرين باستثناء اسماء نظيفة ونزيهة كان العراق همها الوحيد !!
ان العراق بثقل حجمه في استراتيجية الشرق الاوسط لا يمكنه ان يلعب دوره لوحده من دون ان يتأثر بالكبار .. وان الكبار عندما يفترس بعضهم البعض للحصول على مصالح معينة ، فمن دون شك ان المجالات الحيوية ستصيبها النار او تتركز الصدمات والصراعات في مناطق دون اخرى ضمن ميتا استراتيجيات دولية ، او لما يسمى بما بعد الاستراتيجيات التي نعرفها ! والعراق مجال حيوي نادر الخصوصيات في تأثره بأية استراتيجيات . انني اعتقد بأن تاريخ العراق المعاصر على مدى قرن كامل مضى ما كان ليكون بهذه الصورة المأساوية لو اصاب ابناؤه التفكير ولم يحذفوا جزءا اساسيا منه .. والعراق ينتقل من عهد لآخر ومن ملكية لجمهورية .. ومن رئيس لآخر .. ومن شلة الى أخرى .. ومن فوضوية الى دكتاتورية .. ومن حكومة عشائرية الى انقلابات عسكريتارية .. ومن عائلة بوليسية الى ميليشيات طائفية .. انه لولا هذا الثقل البترولي الهائل الذي يتصارع من اجله المجتمع الدولي كله بوجهه الاخر المخفي عّنا تماما .. ولولا هذا الثقل الحضاري المركزي الذي جعل العراق بؤرة صراع عبر التاريخ لما كانت هذه الاهوال !
اننا كثيرا ما ننتظر الزعيم الوطني المثالي الذي سيكون نبّيا ناصع البياض في مجتمع متعارض ومتعدد ومتنوع الالوان ومتناقض الافكار والاتجاهات .. ولكننا لن نجده ابدا ، وكأننا نبقى نعيش اوهاما ونرسم احلاما في العدم .. وكأننا نبقى نشقى بنزيفنا الدموي ونناشد بعضنا الاخر الصلح والمحبة والمودة والاحسان .. من دون ان نفّكر في لحظة تاريخية معينة عن اسباب البلاء الحقيقية .. ومن دون ان نعي ان كل الذين جاءؤا الى سدة الحكم وحكموا ثم رحلوا .. هم مجموعة شاء القدر لها ان تأتي والعراق في رعاية هذا الطرف او ذاك ، وهذه الافكار ليست وليدة نظرية المؤامرة التي لا اؤمن بها ، ولكنها افكار منتجة عن براهين واضحة وضوح الشمس لمن يتوغل في الرؤية الى الاعماق .. وليكن معلوما ان المصالح الدولية في العراق دوما ما تغلب او تتغلب على المصالح الوطنية .. وعليه ، فان العراقيين بحاجة الى من يفهم اللعبة ويدرك ما وراء التاريخ المعلن .. وان متابعة ذكية وتأملية في الاحداث التاريخية التي عاشها العراق منذ مائة سنة تدلنا على ان السلسلة واحدة وان ما حدث لم يعكس اي مصلحة عليا على العراقيين قاطبة ، في حين كان الاخرون هم في مقدمة من اغترف العراق وعاش على صراعات العراقيين!!
الاحتلال .. الانتداب .. المعاهدات .. الاحلاف .. الانقلابات .. الصراعات .. الدكتاتورية .. الحروب .. الحصارات .. الاحتلال .. ويقابلها : العرش .. المؤسسات .. الاحزاب .. الاصلاحات .. الاعمار .. الثورة .. القرارات .. الاشتراكية .. الوحدة .. الايديولوجيات .. الشعارات .. البطولات .. الانتصارات .. الاسلام .. والمكونات .. الديمقراطية .. هذه الثنائيات التي خّزنها التاريخ لا يمكنها ان تكون بمعزل عن مصالح دولية واقليمية معينة ! ان الشعب العراقي عاش حياته كلها على المفاجئات لا على التقاليد .. وعلى الانقلابات والبيانات لا على البرامج والمشروعات .. هل فكّر احدنا يوما ان يعيد التفكير من جديد بما يفكّر به قبل ان يعيد توازنه من جديد لما يؤمن به ؟ هل حدّث احدنا نفسه يوما بأن السياسات لا يمكن ان يلعبها صاحبها في ثكنة عسكرية او وكر حزبي او حزب عشائري او في صوامع دينية ؟؟ هل فّكر احدنا ان يعيد الرؤية لما صنع من قرارات مصيرية بحق العراق والعراقيين .. كي نحاكمها ليس على اساس هش وساذج من توزيع الاتهامات واذاعة الشتائم .. بل لاستقصاء دور الاخر فيها .. ومن يختل هناك بعيدا ليخيط نسيجها ويخرج سيناريوهاتها من وراء الكواليس ؟ ولماذا صنعت في مرحلة معينة دون اخرى ؟
هل فكّرنا يوما ان نّقيم كل الزعماء العراقيين من دون اي تهم ساذجة أو بذيئة .. لنحكم ونقول : من ذا الذي كان مدنيا يفهم كيف يلعب بالسياسة حقيقة من اجل ما ينفع العراق ؟ ومن ذا الذي لم يدرك كيف يلعب بالنار حقيقة ، فاحرق بيديه العراق والعراقيين ؟ هل استطعنا يوما ان نسأل : هل كانت هناك ثمة خطط معينة لتوزيع النفوذ بين دول الاقليم تنفيذا لارادة دولية ام لا ؟ عندما سنجد الاجوبة على مثل هذه التساؤلات .. دعونا لا نشتم او نّسب من حكمنا من العراقيين ، بل ان نبكي حظنا العاثر في زحمة هذه التضاريس السياسية العراقية التي امتلأت بالنفايات الخارجية .. عند ذاك سندرك هول الاخطاء والخطايا التي جناها العراقيون بحق انفسهم وبحق مستقبل اجيالهم ، ولكي ندرك حقيقة الدرس التاريخي الذي يعلمنا اياه هذا التفكير التاريخي ، فالمطلوب ان نربي اولادنا في القادم من الزمن تربية ذكية من نوع آخر ، كي يدركوا اننا على مدى مائة سنة مضت كنا بحاجة الى وطن اسمه العراق .. اما منذ اليوم وعلى الآتي من الزمن فان وطنا اسمه العراق بحاجة الينا نحن العراقيين !
العودة الى الصفحة الرئيسية