العمل الاستشاري الهندسي ودعم الاعمار في العراق
سلام ابراهيم عطوف كبة / المهندس الاستشاري
abu.zahid@yahoo.com
ليس المقصود بالعمل الاستشاري الهندسي ما تقوم به مجموعة كبيرة من المكاتب الهندسية المنتشرة في أرجاء بلادنا والتي تتشكل عادة من فرد واحد هو صاحب المكتب .العمل الذي تقوم به هذه المكاتب هو وضع التصاميم المعمارية والمدنية والكهربائية والميكانيكية للمباني والعمارات والدور السكنية ، مشاريع لا يزيد فيها مستوى الخبرة الهندسية عن خبرة طالب هندسة متخرج حديثا . نقصد بالعمل الاستشاري الهندسي هو العمل الاستشاري في مشاريع الاعمار واعادة الاعمار ، المشاريع التنموية والتي هي غالبا مشاريع تنموية في البنى التحتية تقوم بها الدولة وتشكل في الواقع المجموع الاستثماري السنوي للموازنة الحكومية ... قبل التاسع من نيسان انفردت الشركات العامة بإنجاز العمل الاستشاري لهذه الكتلة النقدية الكبيرة ومنها : الشركة العامة للمقاولات الانشائية وبعض المكاتب الصغيرة التابعة للشركات الإنشائية والمركز القومي للاستشارات الهندسية ومركز الادريسي. وهناك أيضا المكاتب الاستشارية الهندسية في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي – وبعض المكاتب الاستشارية الأجنبية والعربية ولكن بشكل محدود جدا... لم يتجاوز عدد الاستشاريين لدى الجهات المذكورة ال 5000 استشاري من جميع الاختصاصات (مدني – معماري - كهربائي – ميكانيكي – جيولوجي –مائي) والسؤال المطروح كيف قام هؤلاء بإنجاز هذه الأعمال ؟
من المعروف عالميا في بأن نسبة العمل الاستشاري الهندسي في المشاريع الكبرى تشكل ما بين 10%- 15% من كلفة المشروع وإذا أخذنا النسبة الأدنى أي 10% تكون الكلفة المتوقعة للعمل الهندسي في العام الواحد قرابة 33.3 مليون دولار... وفي حال فرضنا أن كلفة رجل / سنة للاستشاري هي بمعدل 1000 دولار شهريا ( وهو المعدل الذي تحسب به الشركات العامة كلفة الاستشاري المحلي ) سيكون عدد الاستشاريين اللازم في عام واحد لهذه الخطة الاستثمارية بحدود 33000 استشاري أي أن هناك نقصا في عدد الاستشاريين المتوفر بحدود ثلاثون ألف استشاري !! .هذا من ناحية لغة الأرقام . فهل يمكن أن نطرح الآن سؤالا مشروعا من الذي قام بعمل هؤلاء الاستشاريين الغائبين ؟ وهذا يشكل حوالي 90% من العمل المفترض . أي بلغة الأرقام هناك 90% من العمل الهندسي لم ينجز! . هل يفسر هذا الخلل النوعي الكبير الذي حصل ويحصل في المشاريع الكبرى التي حسبت ضمن مشاريع التنمية الكبرى والتنمية الانفجارية والبناء الجاهز وتسليم المفتاح ؟! . وهل يفسر هذا نسب الإنجاز المنخفضة والملاحق الكبيرة للعقود بالإضافة إلى الغموض الكبير في المواصفات الذي تسبب في الإرباكات الكبيرة في الإنجاز ناهيك عن المشاريع التي دخلت مرحلة الفشل الحقيقي ، أو بعض المشاريع التي لا تؤدي الغرض المطلوب منها وهناك أمثلة كثيرة لا حصر لها على ذلك ؟!.
ماهو مستوى عمل شركات القطاع العام الاستشارية ؟! لم تعترف صناديق التمويل العربية والأجنبية بالشركات العامة على أنها شركات مؤهلة لديها للقيام بالأعمال الاستشارية في العراق ، وعادة ما تم إجبار الحكومة العراقية على التعاقد مع شركات عربية أو أجنبية مؤهلة ..... كل ذلك بسبب ان هذه الشركات العامة تستفيد من احتكارها للمشاريع ولم تتنبه إلى ضرورة رفع نوعية عملها لكي تقف إلى جانب الشركات العربية أو حتى الأجنبية على مستوى منافس واحد . ولعل مستوى الرواتب والأجور شكل عاملا حاسما في هذا الأمر.
من المفيد ان تدرس وتقر الشركات الاستشارية العامة استراتيجية مستقبلية واضحة المعالم ذات سياسات وخطط وأوّليات تنجز من خلال برامج تنفيذية مرحلية ، وان تمد جسور الثقة مع جميع الجهات المعنية لاستعادة الدور الريادي للشركات المعنية والحفاظ عليها صرحا وطنيا ساهم في تشييده نخبة من الكفاءات المهنية عبر سنوات طويلة ، وان تضع الآليات الناجعة لمعالجة جميع الاختلالات التي أصابت نشاط الشركات المعنية خلال السنوات الماضية بل واجتثاث بؤر الفساد دون هوادة ، وان تفعل العلاقة ما بين مكوني العمل الاستشاري (الإداري والمشرف) لتفادي القصور الحاصل في إعداد بعض الأضابير التنفيذية وتحسين أداء أجهزة الإشراف وذلك بهدف تجنيب منظومة العمل الهندسي العديد من الإشكالات الفنية والعقدية ، وان تعمل على التحصين الفني والأخلاقي للعاملين من خلال:
1. ترسيخ ثقافة العمل المؤسساتي والنجاح الجماعي عوضا عن منطق الاستحواذ والخلاص الفردي.
2. مقاربة آليات ممارسة العمل الاستشاري إقليميا وعالميا.
3. تحسين شروط المنافسة من خلال التدريب والتأهيل المستمر للكوادر في ظل تعاظم حاجة السوق المحلي والإقليمي للخدمات الاستشارية.
4. إنجاز دراسة نظام حوافز مجزى وحقيقي.
مرت سنوات طويلة للآن دون أن يتم السماح للقطاع الخاص بالدخول مضمار العمل الاستشاري الهندسي مما حرم البلد من توطين هذه الصناعة ( من المألوف عالميا اعتبار العمل الاستشاري فرعا صناعيا رافدا للدخل القومي ) . في حين أننا نعرف جيدا بان هناك الكثير من المهندسين العراقيين في الخارج يعملون أو حتى أحيانا يملكون شركات استشارية عربية وأجنبية .
يصرف سنويا قرابة المليار دولار على العمل الاستشاري في المنطقة العربية نصيب الشركات الاستشارية العربية منها حوالي الـ 17% ونصيب العراق من ذلك لاشيء . إلى متى ستستمر هذه الحالة من الغياب الكامل لمهنة تعتبر من أهم المهن في العملية التنموية . وألا يحق أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء عدم السماح بنشوء عمل استشاري هندسي في بلادنا ؟!
ان النقص الهندسي في الدراسات للمشاريع واختفاء مراحل كاملة عنه مثل دراسات الجدوى الاقتصادية ودراسات الهندسة القيمية ودراسات الأثر البيئي . واختصار مراحل العمل التصميمي إلى مرحلة واحدة فقط ، كل ذلك هيأ للفساد بكافة أشكاله جوا خصبا للنمو والتوسع. فعندما تكون المواصفات عائمة وغير محددة بشكل جيد ، وعندما يغيب التحديد يكون من السهل التلاعب بالكميات والمواصفات ... وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي : ألا يبدو بأن غياب مهنة الاستشاري تستفيد منها الشرائح الفاسدة بشكل أساسي ؟!. لقد امتلكت هذه الشرائح الفاسدة الدور الاساسي في تغييب مهنة الاستشاري .. وهذا بعينه جوهر الكارثة !! حرصت الحكومات العراقية على إعطاء القطاع الخاص دورا كبيرا في الصناعات المختلفة .. من الأولى ربما كان أن يدخل القطاع الخاص هذا المجال الهام والحيوي والذي يرفع من المستوى الاقتصادي والعلمي للوطن .ما هو العائق اليوم من تشجيع القطاعين الخاص والمختلط لبناء شركات استشارية وطنية تقوم بتطوير المهنة داخل بلادنا ودخول السوق في البلاد العربية وبلدان الجوار؟! .
ان مستوى المهندس العراقي هو ليس بأقل من أخيه اللبناني والمصري والأردني وحتى من المهندسين في تركيا وايران وهي بلدان تملك شركات استشارية ضخمة وكبيرة معروفة عالميا لدرجة أن احدى الشركات الاستشارية اللبنانية كان لها ترتيب عالمي مع العشرة الكبار عالميا.الخطوة الأولى يجب أن تبدأ من التشريعات فهناك حاجة إلى تشريع يوضح آليات ومراحل العمل الهندسي وآخر يوضح الأسس التي يجب أن تقوم عليها هذه الشركات الاستشارية.
اما آن الأوان لمعالجة فوضى عمل المكاتب الاستشارية ومكاتب الخبرة الهندسية وتداخل احكامها مع إحكام قوانين تنظيم الوكالات التجارية .. وفوضى تصنيف الخدمات الاستشارية ؟! . اما آن الأوان لأعادة النظر في قوانين المركز القومي للاستشارات الهندسية رقم 6 لسنة 1990 ومركز الادريسي رقم 7 لسنة 1990 ومركز الاستشارات الهندسية رقم 63 لسنة 1987 وقانون المكاتب الاستشارية الهندسية في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي رقم 64 لسنة 1979 ؟!.
اما آن الأوان لاكمال تصنيف المكاتب الهندسية وتعميم الزامية تدقيق المشاريع الهندسية، ودراسة اسباب الممارسات المهنية غير الصحيحية والظواهر السلبية في مجال الاعمال الهندسية الاستشارية سواء في دراسة الجدوى الاقتصادية او الدراسات الاولية والتفصيلية والاشراف على التنفيذ وفي صيانة واستثمار المشاريع لوضع الحلول اللازمة لها بما يجنب تحمل الاستشاريين لمسؤولية الاخطاء، وبما يؤمن رفع مستوى المهنة وتقديم الخدمات الاستشارية التي تحقق الغايات المنشودة وضمن الكلفة الاقتصادية للمشاريع؟!.
اما آن الأوان لان يكون للمكاتب الهندسية الأستشارية القرار المستقل لتمكينها من العمل وفق قوانين وانظمة عصرية قادرة على مواكبة المتغيرات العالمية واخذ دورها كاملا في تنظيم مزاولة مهنة الهندسة الاستشارية باستقلالية وفق القوانين والانظمة المرعية، وان يكون بامكانها الدفاع عن مصالح وحقوق العاملين بمهنة العمل الهندسي الاستشاري؟!.
اما آن الأوان لوضع حد لتفاقم معضلات مكاتب الاستشارات الهندسية بسبب تفرد مكاتب محددة بالحصص الكبرى من إجمالي حجم العمل الاستشاري الهندسي في بلادنا؟!. عندما يصبح حجم العمل صغيرا وعدد المنافسين كبيرا إضافة إلى عدم وجود إجراءات تحد من هذه الظاهرة فإن ذلك يؤدي إلى قيام بعض المكاتب بسلوك طرق غير شرعية لإيجاد مصادر دخل لها!!.
من الضروري ان ينشأ سجل خاص بنقابة المهندسين وجمعية المهندسين لتسجيل المهندسين الاستشاريين وتخصصاتهم من بين المهندسين الذين ينطبق عليهم شروط ممارسة الهندسة الاستشارية على أن يتضمن السجل البيانات الأساسية عن تخصصاتهم. ويعتبر مهندسا استشاريا كل من المهندسين أعضاء نقابة المهندسين وجمعية المهندسين ممن يكونون قد مارسوا العمل الهندسي بعد حصولهم على بكلوريوس هندسة جامعي أو ما يعادله مدة 15 عاما على الأقل وبشرط أن يكون قد أمضى كل منهم خمس سنوات على الأقل من هذه المدة فى ممارسة نفس الفرع الذي يتخصص فيه على مستوى المسؤولية القيادية، وعلى أن يكون قد تحمل مسئوليات بارزة فى تصميم وتنفيذ مشروعات هندسية ويعتبرها مجلس نقابة المهندسين مشروعات كبيرة.لا يجوز لمكاتب الهندسة الاستشارية وللمهندسين الاستشاريين أن يبرءوا عقود أعمال هندسية تخالف العقود التي تعدها النقابة والجمعية و لا يجوز لهم مخالفة ما ورد بها إلا بموافقة النقابة.
ان تطوير ورفع كفاءة المكاتب الهندسية في بلادنا مطلب ملح ويلقي عليها مسؤوليات فريدة حيال التطورات المتسارعة للتكنولوجيا والاكتظاظ السكاني للمدن ووسائل الاتصال والمواصلات والزحف العمراني على الاراضي الزراعية ومشاكل المياه والبيئة. ان العمل الهندسي الاستشاري يخطو خطوات واسعة على طريق التميز والابداع حتى يغدو مثالا يحتذى ... وان المشاريع الهندسية العراقية غدت متميزة ولابد من التأكيد على اهمية منح الاولوية للمهندس العراقي والمكاتب الهندسية العراقية المؤهلة وحقها في العطاءات الحكومية الكبرى .ان الاستشارات الهندسية تشكل احد المحاور الرئيسة في قطاع الانشاءات الوطني وكامل القطاعات الاقتصادية الاخرى.
العودة الى الصفحة الرئيسية