|
لو كانت المنطقة الخضراء سفينة نوح للعراقيين فعليهم جميعاً الابتهاج والاستبشار خيراً لأنها عاجلاً لا آجلاً ستوصلهم إلى بر الأمان، ولكني أتخوف من أن تكون جاليون إسباني، وهذا الجاليون ليس وعاءً لتدخين التبغ، بل هو سفينة حربية استعملها الإسبان في زمن امبراطوريتهم الاستعمارية التي شيدوها بعد طرد العرب من بلادهم واستكشاف أمريكا، والجاليون الإسباني أشبه بحاملة طائرات أو مدمرة ضخمة في مقاييس ذلك الزمان الغابر، فقد كانت الأكبر حجماً والأثقل وزناً والأكثر تسليحاً من حيث عدد المدافع والمحاربين على ظهرها وكان منظرها كافياً لبث الرعب في أعداء الإسبان الأقل تسليحاً، ولكن ضخامتها المرعبة كانت في الوقت نفسها مكمن ضعفها، ومن المعروف بأن الأثقل من كل الأصناف سواء البشر أم الحيوان أم وسائط النقل أو القتال هو الأبطأ والأقل كفاءة بصورة عامة، وأجزم بأن لو نظم سباق للركض لكل العراقيين لكان رئيس الجمهورية الطالباني من الأواخر، ومن قبل فقد انقرض الديناصور بسبب عدم امتلاكه الصفات اللازمة للتكيف ومنها سرعة الحركة، وعندما قاوم المسلمون المعتدين الصليبيين في القرون الوسطى كانت الغلبة في النهاية للمسلمين لأنهم أصحاب حق أولاً، وكذلك لأن دروعهم كانت أقل وزناً من دروع الصليبيين، ولأن جيادهم العربية أكثر رشاقة من أحصنة الصليبيين. أتمنى أن تكون المنطقة الخضراء سفينة نوح لا جاليون إسباني، لأننا أحوج من قوم نوح لسفينة إنقاذ تخلصنا مما نحن فيه من تباغض وتقاتل وتدمير للذات، المنطقة الخضراء سفينة نوح بشرط أن يكون ربانها وملاحوها عراقيين مخلصين، وأن تتسع مساحتها لتغطي العراق كله، وأن يسكن اسطحها ومقصوراتها كافة سكان العراق بلا استثناء، ولا بد من أشرعة ضخمة تمخر بها مسرعة في الأنواء المضطربة لتصل على عجل إلى مياه الهدوء والطمأنينة قبل أن يسيطر اليأس والهلع على النفوس فيبادر البعض إلى خرقها لا لمنع متسلط، أو الأمريكان، من استلابها بل لاغراقها تطبيقاً لمنهج شمشون: علي وعلى أعدائي. لا عذر للأمريكان وإن كان ينقصهم التاريخ الطويل ليتعلموا من دروسه، وما عذرنا نحن أصحاب التاريخ الطويل والعريض، الذي يبدأ من أول البشرية ومن قبل تدوين التاريخ؟ ولم لا نتعض من تاريخنا؟ لو تصفحنا كتب التاريخ لأدركنا بأن كل المناطق الآمنة، وبالذات الخضراء مآلها الهدم والخراب، ويقص علينا القرآن الكريم أخبار الأمم البائدة التي ظنت بأن حصونها، سواء تلك المنحوتة في الجبال أو التي جاؤوا بصخورها إلى وديانهم، مانعتها من الزوال، وامبراطور الصين العظيم لم تنجيه المنطقة المحرمة من غضب الناس المسحوقين، وأعدمت عائلة قيصر روسيا في سرداب بمنزل صغير بعيداً عن الكرملين وقصورها الأخرى الشتوية والصيفية، وحبس بعض ملوك وملكات بريطانيا ومن ثم قطعت رؤوسهم في بروج قلاعهم التي شيدوها ملاذاً لهم، وكان من اللازم أن ينبه الساسة العراقيون الأمريكان إلى أن لكل "أخضر" فصل ربيع زاهر وشتاء رمادي، فلم يبق من حصن الأخيضر سوى الأطلال، وبالأمس احتطبت ثلة من رجال الأمن أبوابه لتصطلي بنارها، واندثرت جنات عدن الخضراء في سبأ اليمن، كما لم يهنأ معاوية بن أبي سفيان ونسله الشيطاني بقصره الأخضر- " القيصري" على حد تعبير الخليفة عمر بن الخطاب - غير سنين معدودات، ومن ثم أحرقه الفاطميون بعد استيلائهم على الشام. لكي تصبح المنطقة الخضراء سفينة نوح لا جاليون إسباني على العاملين والقاطنين فيها أن يبادلوا مواقعهم مع بقية العراقيين خارج المنطقة، عليهم أن يسعوا إلى توفير الأمن للعراقيين أجمعين من خلال استئصال الإرهابيين والتكفيريين وبقايا النظام الطاغوتي المندثر وإغلاق حواضنهم قبل تأمين الحماية للقادة السياسيين وكبار الإداريين، الذي ثبت أن البعض منهم قادة وحماة للإرهابيين، كما ينبغي لهم تزويد المواطنين بالخدمات الأساسية وغيرها من مقومات الحياة الكريمة قبل أن يتنعموا هم بأسباب الترف والرفاهية، بالأمس غير البعيد كنت مستشاراً إدارياً لدى مؤسسة الملك عبد الله السعودي الوهابي، وهي جمعية خيرية لاسكان الفقراء السعوديين المتنامية أعدادهم، وقد تجرأت على توجيه الانتقاد اللاذع لقرارها بتشييد مبنى فخم لإدارتها قبيل انتهاءها من إنجاز أول مشروع إسكاني، وكان ذلك بحضور نائب رئيسها، وهو وزير الثقافة والإعلام حالياً ووزير الحج سابقاً، والمقرب من الملك السعودي، وذكرتهم بالوعد الذي قطعه على نفسه الرئيس الليبي معمر القذافي بالسكنى في خيمة حتى يصبح لكل مواطنيه مساكن خاصة بهم، وأنا أعرف جيداً مدى كراهية المسئولين السعوديين للقذافي خاصة بعد اتهام نظامه بتدبير محاولة اغتيال للملك الوهابي، ولم يجد المسئولون السعوديون رداً على انتقادي لهم سوى حرماني من جزء غير يسير من رسوم الاستشارة المتفق عليها مسبقاً. أقول للمبحرين على سفينة المنطقة الخضراء بإنكم أنتم والعراق في خطر لأنكم على متن جاليون إسباني وأنصحكم بترك الأسلوب السعودي الفاشل والاقتداء بالرئيس القذافي على الرغم من اختلافنا معه حول أمور عدة، وذلك بأن يكون هدفكم الأول تغيير لون مناطق العراق كله من الأحمر إلى الأخضر، ومن دون تأخير، وهذا يتطلب إخراج القوات الأمريكية لكي تصبح الحكومة العراقية الربان الأوحد لسفينة العراق، ولا بد للربان العراقي من الاقتناع بأن القوة والعزة لله جميعاً وللمواطنين المخلصين الذين قدموا التضحيات الجسام لكي ينجو العراق من الغرق، وتاريخ رجال البحار حافل بقصص الربابنة الذين خسروا سفنهم وأنفسهم لأنهم استهانوا ببحارتهم، واستخفوا بمهاراتهم ومطالبهم المشروعة، آنذاك فقط سترسو سفينة نوح العراقي في المرفأ الآمن.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |