العراق: أنموذج الدولة الفاشلة (1)

قرطبة عدنان الظاهر

abu.zahid@yahoo.com

لا يستغرب المرء حين يقرأ او يسمع عما يدور في العراق من وضع متأزم وفشل جميع مؤسسات الدولة في تقديم الخدمات اللازمة لمواطنيها حيث اصبح العراق يتصدر قائمة أكثر الدول فشلا ً حكومة وشعبا في العالم. إذ منذ سقوط النظام الصدامي تحولت كوادر اجهزة الدولة من وظيفية شبه مؤهلة إلى كوادر وظيفية ادنى تاهيلا من سابقتها بفضل نظام المحاصصات المقيت وتهميش ابناء الشعب الكفوئين منهم والمؤهلين على حد سواء ، في وسط دمار وخراب للمؤسسات العامة والخاصة وحرق الابنية والمستندات الرسمية للعديد من الدوائر الحكومية. وفي وسط سخط المواطنيين الذين انشغلوا بحماية ممتلكاتهم الخاصة من الذين كانوا يجوبون شوارع بغداد لسرقة او تدمير او حرق كل ما هو سليم (الحواسم). ذات الشعب اصبح يدمر ويسرق ممتلكاته العامة ويتلفها بسبب حقده على الدولة الدكتاتورية

(1979ـ2003) التي حرمت مواطنيها من كافة حقوقهم الشرعية والقانونية وبالاخص حقهم في الاشتراك في العملية السياسية وتوزيع الصلاحيات الادارية في كل المحافظات بالتساوي بدلا من حصرها في بغداد.

لكن السؤال المطروح هنا هو لماذا يمتاز شعب العراق بالوطنية العالية وحبه العميق لارضه والافتخار بحضاراته الاولى تارة ً وتارة اخرى يقوم بتسليح نفسه ويزج نفسه في مليشيات او ينتخب مسؤولين أو احزابا تتبنى مناهجَ تدعو لتدمير او حل الدولة العراقية؟

للاجابة عن هذا السؤال علينا ان نعود إلى التاريخ وبالاخص تأريخ اوربا لنقارن كيف تاسست الدول في هذه القارة وكيف استطاعت شعوبها ان تحقق مصيرها بنفسها. ومن ثم نراجع مفهوم الدولة في المنطقة العربية ومرادفها في اوربا.

 

أوربا القديمة وتقرير المصير

منذ القرن السادس عشر و شعوب اوربا تعاني من مغبة الحكم الملكي للفرد الواحد. وفي القرن السابع عشر كانت تفكر ـ في ظل حروب طائفية بين البروتستانت والكاثوليك والتي دامت ثلاثين عاما ـ في كيفية تأسيس دولها وتحقيق الامن والاستقرار. وذلك من خلال وضع حدود جغرافية في الدولة الجديدة (Territorial State)والدفاع عنها او توسيع اقاليمها لتكوين دولة عالمية (Universal State) تحت حكم سلالة الهابس بورك السويسرية الاصل التي حكمت اوربا (1438ـ1918) باسرها وكان أخر حكامها قيصر النسما كارل الرابع او الملقب بكارل الاول.

سميت باوربا القديمة بسبب نيل 13 ولاية امريكية استقلالها من الاستعمار البريطاني في الرابع من يوليو عام 1776 (The Unanimous Declaration of the Thirteen United States of America) أي قبل الحملة الفرنسية باثنتين وعشرين سنة . لقد استوعب الامريكيون فكر العقد الاجتماعي وبالاخص فكر جون لوك (قانون الطبيعة) قبل الاوربيين. هذا الفكر جسده السيد توماس جيفرسون في مذكرة الاستقلال والتي تعد من اهم الكتب في فلسفة الدولة.

في القرن الثامن عشر برز في فرنسا مفرد الدولة السيادية (Etat souverain) واستمر هذا النظام السياسي حتى القرن التاسع عشر (عصر الثورات وتقرير المصير). في القرن الثامن عشر إنتقل الفكر الليبرالي من بريطانيا إلى القارة الاوربية حيث إنتشرت كتب المفكرين السياسيين واصحاب العقود الاجتماعية مثل توماس هوبس وجون لوك وجون ستيوارت مل وجيرومي بينثام في ربوع اوربا. وقد واكبتهم كتب مونتسكيو وجون جاك روسو. كان حكم الملك الفرنسي لويس السادس عشر مطلقا. حيث فرض نفوذه من خلال دوائره الحكومية التي كانت تسلب قوت الشعب في نظام اقطاعي ضرائبي دون إعطائه حقوقه القانونية فضلاً عن سيطرة المحسوبين على كل مؤسسات الدولة حيث الفساد الاداري والمالي وإهمال بقية افراد المجتمع الفرنسي الطبقي (يجسد حال المجتمع الفرنسي الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوكو في قصته "البؤساء"). هذا الامر ادى إلى الثورة الفرنسية في الرابع عشر من شهر يوليو عام 1789 حيث الهجوم على سجن الباستيل وإعدام الملك لويس السادس عشر و زوجته النمساوية الاصل ماري انطوانيت بقطع رأسيهما بالمقصلة (المقصلة تحمل إسم الطبيب الفرنسي جيلوتين الذي اخترعها لتسريع عملية الاعدام) على يد الانقلابيين روبس بيير ومارا ودانتون وغيرهم. كان هؤلاء الانقلابيون ومعهم نابوليون بونابارت جميعاً يحملون فكر جان جاك روسو. إنطلق عنان هذه الثورة بعد ذلك في كل ارجاء اوربا التي اشتعلت فيها بعد ذلك الحروب والصراعات من أجل تحرير نفسها من قيود الملكية المطلقة. استطاعت بعد ذلك جيوش نابليون بالسيطرة على اوربا وإصلاح الانظمة الملكية وتحويلها إلى انظمة نابوليونية بيروقراطية موالية للدولة الفرنسية الجديدة التي اصبحت امبراطورية نابوليونية في عام 1804. مكن هذا التحول والاصلاح النابوليوني اوربا لأن ْ تبني الفكر الليبرالي وإنهاء الاقطاع وإصلاح النظام الاداري الذي سُمي (كود سيفيل او كود نابوليون). بالاضافة إلى ذلك تم تاسيس نظام تعليمي جديد (الابتدائية والاعدادية والثانوية) وهو نظام معتمد في أكثر الدول العربية لحد يومنا هذا. لكن العامل الاهم من كل سياسات نابوليون تجاه اوربا هو تجميع الاراضي المتجزئة وتوحيدها والتي كانت تحت سيطرة امراء ودوقات اوروبيين. هذا التوحيد هو الأعداد الاول لنشاة الامم. ثمة طبقة ارستقراطية لم تساند سياسة نابوليون حيث اتحدت مع حلفائها في اوربا وحشدت جيوشها للقضاء على هيمنة نابوليون. نجحت الطبقات الارستقراطية في اعادة (Restauration) شرعية(Legitimacy) النظام الملكي لاوربا وإتباع سياسة التضامن ((Solidarity في المصالح المشتركة لكبح جماح القوى والتيارات الليبرالية المناوئة للملكية. تم ذلك في إتفاقية فيينا لعام 1815 التي سُميت بإتفاقية القمة الخماسية ((Pentarchie بين بروسيا وبريطانيا وروسيا وفرنسا والنمسا. إمتاز هذا الاجتماع بعدم وجود اجندة معينة للتفاهم بين زعامات اوربا المنتصرين ، بل كان دعوة دبلوماسية مفتوحة للنظر في مستقبل اوربا. لذا سميت هذه القمة ايضا ب" كونسرت اوربا" (The Concert of Europe). بينما كان زعماء اوربا يتحاورون مع الخاسرة فرنسا على كيفية إعادة تركيبة اوربا كما كانت سابقا كانت جيوشهم في الوقت نفسه تشارك في اكبر حرب اوربية على نابوليون بونابارت في معركة واترلو. أنتصرت جيوش اوربا وإنتهت الحرب باستسلام نابوليون للبريطانيين ونفيه في شهر اكتوبر عام 1815 إلى جزيرة سانتا هيلينا جنوبا من المحيط الاطلسي. بعد هذه القمة قامت شعوب اوربا بالتظاهرات ضد هذه الاتفاقيات حيث قام زعماء مؤتمر فيينا في عام 1819 بمنع التظاهرات والتجمعات والصحف المناوئة لسياساتهم وملاحقة كل من يدعي قيادة الشعب (Demagogy) ومراقبة الجامعات والاعلام. تم ذلك في قرار مدينة كارلس باد (Karlovy Vary).

منذ تلك القمة قررت شعوب اوربا عدم الاستسلام للانظمة الملكية المتعسفة بل ابتدأت بتنظيم نفسها بنفسها في تنظيمات طلابية وتجمعات سرية وتوزيع منشورات تروّج للوطنية وحب الارض وتكوين الوطن او الدولة. وإتخذت مجتمعات اوربا من بيوتها بؤرا للتطلع والثقافة والتجمع للتحدث عن مجريات الوضع الملكي وإمكانية تغييرهذا الوضع بدولة القانون وبنظام عادل يؤمن للفرد حياة كريمة. إستمر الركود في مجمتع اوربا المحافظ حتى اوائل القرن التاسع عشر.

في شهر يوليو عام 1830 أشتعل فتيل الثورة الفرنسية الشعبية على الملك كارل العاشر الذي قام بملاحقة المعارضيين لسياساته القمعية وأمر بحل الحرس الوطني ومراقبة الاعلام والصحف. سببت هذه الثورة تشجيعا جديدا لشعوب اوربا بالنهوض ضد حكامهم ووضع اسس تكوين الأمم وذلك من خلال مسيرات طلابية حاشدة وثورات لم تستطيع سلالة ملوك اوربا ان تتصدى لها فأرغمت على اصلاح جذري لانظمتها السياسية. أدى هذا الاصلاح ، على سبيل المثال ، إلى أْن يرسم شعب المانيا حدود امته الصغيرة دون توحيدها او دمجها في امة كبيرة موحدة مع النمسا ووضع اول دستور ديمقراطي في تلك الحقبة. في الثامن عشر من شهر مايو عام 1848 إجتمع 586 نائبا المانيا في الجمعية الوطنية في كنيسة باول في مدينة فرانكفورت الالمانية. تضمن هذا التعداد 223 حقوقيا و 106 أستاذا جامعيا و46 صناعيا وأربعة حرفيين. لم يكن بين النواب احد يمثل الطبقة الفلاحية. مكن هذا التواجد الهائل للكفاءات من الحقوقيين وأساتذة الجامعات ان يضعوا دستورا مثاليا لدولة أسسها شعبها بنفسه وبإصراره وعزيمته وشجاعته.

 

مفهوم الدولة:

في عام 1837 قام حقوقيون المان بتوصيف الدولة شخصية قانونية. وفي عام 1882 قام السيد جورج جللينك[1] بوضع اسس جديدة لمفهوم الدولة. إذ ان الدولة تتكون من ثلاث ركائز مهمة: اقليم او ارض الدولة، سلطة الدولة وشعب الدولة. عند فقدان اي عنصر من هذه العناصر تفقد الدولة سيادتها ثم وجودها وتدعى عندئذ ٍ إما بالدولة الفاشلة او بالدولة المريضة كما سماها الفيلسوف الاغريقي افلاطون

(427ـ347 ق.م.).

الدولة في المفهوم اللاتيني تعني مركبا ثابتا (Status)[2] ذا عناصر حيوية وهي مؤسسات ودوائر حكومية وسلطات. أما كلمة الدولة لغوياً فمشتقة من التداول أي التنقل او التحول من مكان إلى آخر [ دال يدول أي زال يزول ... مداولة ً ] . بمعنى أن دول الشرق الاوسط باسرها تملك مفهوما مناقضا جدا لمفهوم الدولة باللغة اللاتينية. يعود ذلك لجذورشعوب هذه المنطقة وتركيبتها الاجتماعية. إذ انها قبائل معتمدة على الترحال وغير مستقرة مثل شعوب اوربا. حيث لا زالت هذه الدول وإلى يومنا هذا تعاني من الوضع غير المستقر وتواجه صعوبات جمة في تاسيس قواعد صحية لمفهوم الدولة.

فشعوب هذه الدول لم تتخط َ مراحل تقرير المصير لاممها وتحقيق الاستقرار الذاتي والاستقلالية التي تخطتها واجتازتها اوربا من قبلها مستندة بذلك على فكر العقد الاجتماعي والسلطوي. فتحول مفهوم الدولة الثابتة دون إستيعاب او تفهم وبدون مرحلة انتقالية إلى مفهوم الجمهورية ( Republic او باللاتينية res publica =الشؤون العامة) غير المستقرة (المتحولة = غير الثابتة) والمصطنعة أوربيا. كان هذا نتاج إتفاقية سايكس ـ بيكو لعام 1916 الذي فرض على شعوب ومجتمعات الشرق الاوسط غير المتكافئة وغير المتجانسة ومنها العراق. حيث تم تخطيط الجمهوريات والممالك دون تعريف مسبق ووضعت دساتير وانظمة إدارية بريطانية وفرنسية فرضت قسرا على تلك المنطقة التي كانت تعيش تحت وطأة الاستعمار العثماني قبل تقسيمها. وفي اتفاقية مدينة سيفر (sèvres) الفرنسية مع تركيا في عام 1920 كان العراق وفلسطين من نصيب بريطانيا والتي كانت مملكة الحجاز تحت حمايتها. وفي هذه الاتفاقية ايضا منحت كردستان الإستقلال الذاتي. قامت بريطانيا بتنصيب رؤساء قبائل عربية كبيرة حكاما للدول الجديدة المصطنعة وكانت هذه خطة الطريق الاولى لاشعال فتيل الحروب المستقبلية القبائلية والدينية والطائفية و القومية والحزبية من اجل الاستيلاء على السلطة وقمع المجتمعات المختلفة والمتنوعة والتمتع بالنفوذ المطلق. بعد اكتشاف النفط تم الاستحواذ على الموارد الطبيعية وقمع شعوب المنطقة باسرها. لم يتحلَ هؤلاء الحكام الجدد ومنهم الملك الحجازي الهاشمي فيصل الاول بالثقافة العالية او بالوطنية لانه كبدوي كان معتمدا على التنقل والترحال في صحاري شبه الجزيرة العربية فلم يكن له وطن او ارض يستقر عليها او يكون مواليا او حتى محبا لها.

في الثالث من ينايرعام 1919 وقع فيصل الاول اتفاقية مع الدكتور حاييم وايزمان (Chaim Weizmann) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية تنص على أعتراف الطرف العربي بتصريح السيد أرثر جيمس بلفور الذي كان وزيرا للخارجية البريطانية انذاك. وكان هذا التصريح

(Balfour-Declaration) يضمن للشعب اليهودي تكوين مستوطنة له مع الحفاظ على حق تعايش واحترام المجتمع غير اليهودي في فلسطين.

مفهوم الدولة لدى العرب لم يكن معروفا لهم ولم يكن لديهم آليات معينة لتأسيس نظام حكم يضمن للشعوب حق المشاركة في ادارة الدولة وتنظيمها. لذا استعان المستعمرون البريطانيون بحاكم عربي بدوي ربما يملك قسطا بسيطا من المعرفة الجيوـ سياسية لكنه جاهل تماما بالسياسة العامة ومفهومها والانظمة الادارية للدولة. انتفع البريطانيون والفرنسيون من خطتهم هذه من خلال مصادرة الموارد الطبيعية للمنطقة واحتكارها. بنفس الوقت قاموا ببناء احدث البنى التحتية لهم فقط. بينما كانت مجتمعات العراق محرومة من نفطها وتعيش البؤس والحرمان في ظل نظام ملكي إستبدادي طبقي اقطاعي استمر حتى عام 1958 . كانت شعوب المنطقة باسرها مستعبدة من قبل سلطتين وهما سلطة الاحتلال أو الانتداب والسلطة العربية المنصبة من قبل المستعمرين. و بدلا من دمقرطة المنطقة وانشاء مؤسسات مدنية وفرض نظام العدالة والقانون على الجميع قام المستعمرون بتهيئة قواعد وأسس لدكتاتوريات متعاقبة تناسب الطبيعة والاسلوب والحضارة البدوية المعروفة بالصلافة والشدة في تطبيق النظام العشائري الرجولي الذي يعتمد المبايعة في إختيار الحاكم له دون الرجوع إلى الاخذ بقرار الشعب. حيث قامت هذه الانظمة فيما بعد في انتهاك حقوق الفرد ومنع كل ما يطمح له الانسان من حريات وعلم وتطور وابداع.

نتاج صناعة الدولة هذا وليس تأسيسها إنطلاقا من قاعدة شعبية ادى إلى كل ما تعانيه المنطقة اليوم من عقد اجتماعية وإقتصادية ودينية وسياسية.

سوف يؤدي هذا الصراع الاممي الذي ربما يدوم لسنين طوال إلى إعادة تركيب الدول في المنطقة بدءاً بالعراق ولكن سوف تكون هذه التركيبة الجديدة نابعة من إصرار وعزيمة شعوب المنطقة لا من دول عظمى مصدرة للسياسات جاهزة من ورشها الاستراتيجية.

 

المصادر:

  1. Kinder, H./Hilgemann, W.: dtv-Atlas Weltgeschichte, Band 1, 37. Auflage, München 2004

  2. Ali, Tariq: Bush in Babylon. Die Re-Kolonisierung des Irak, München 2003

  3. Reinhard, Wolfgang: Geschichte der Staatsgewalt. Eine vergleichende Verfassungsgeschichte Europas von den Anfängen bis zur Gegenwart, C.H.Beck, München 2002

  4. Buergenthal/Doehring/Kokott/Maier: Grundzüge des Völkerrechts, 2.Auflage, Heidelberg 2000

  5. Kissinger, Henry: Diplomacy, Simon & Schuster paperbacks, New York 1994

 العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com