درس عملي في الديمقراطية من بريطانيا
د.عبدالخالق حسين
nooriali33@hotmail.com
ليس غريباً أن تتجلى الديمقراطية بأسمى معانيها وتطبيقاتها في بريطانيا، فهذه البلاد العظيمة هي مهد الديمقراطية الحديثة ومن رحمها ولدت وبها ترعرعت ومنها انتشرت إلى المعمورة. كان يوم الأربعاء، 27 حزيران/يونيو 2007، يوماً تاريخياً مشهوداً وفريداً من نوعه حسب اعتراف معظم المعلقين الصحفيين والسياسيين، لم تشهده بريطانيا في تاريخها من قبل، حيث قدمت للعالم درساً بليغاً في الديمقراطية والنضج السياسي بعملية تداول السلطة وانتقالها من رئيس الوزراء السابق توني بلير(الإنكليزي) إلى خلفه وزير الخزانة السابق غورن براون (الأستكلندي)، في منتهى السلاسة وبروح مرحة، مع تبادل عبارات التمنيات بالموفقية بين مختلف الأطراف المعارضة والصديقة. إضافة إلى كل ذلك، كانت العملية من الدقة والضبط والتنسيق والتزام بالوقت في التنفيذ إلى حد وكأننا أمام برنامج كومبيوتر، صمم بمنتهى الخبرة ونفذ بالدقة المتناهية، لا يقبل أي تغيير أو تأخير أو تعديل. هذه هي الحضارة الإنسانية بأروع تجلياتها وفي أوج بلوغها وتألقها.
فما أجدر بالسياسيين العرب أخذ هذا الدرس البريطاني البليغ في ممارسة الحكم ديمقراطياً، وتداوله حضارياً، ليوفروا على شعوبهم كل هذه المعاناة، وبدلاً من الإصرار على التمسك بالسلطة إلى اللحد، حيث لن يتخلى الزعيم العربي عن كرسي الحكم إلا بأحد الطريقين، إما الانقلاب العسكري وقتله، أو يأتيه عزرائيل وهو في أرذل العمر ليأخذه إلى القبر ويخلص البلاد والعباد من ظلمه.
لقد اتخذت عملية انتقال السلطة من بلير إلى براون نهجاً هادئاً وتدريجياً، خطط له منذ مدة، حيث أعلن بلير في مؤتمر الحزب في العام الماضي أنه سيتخلى عن منصبه كزعيم للحزب ورئيس للحكومة ليعطي وقتاً كافياً لمن سيخلفه وإعطائه فرصة عامين على الأقل لكي يثبت نفسه ويهيئ للإنتخابات البرلمانية القادمة. وقبل شهرين أعلن بلير يوم 27 حزيران/يونيو 2007 كموعد لتخليه عن رئاسة الحكومة وتسليمها إلى من خلفه دون ذكر من هو الخليفة هذا، ولو أنه كان معروفاً مسبقاً لدى الجميع، لأن الأصول الديمقراطية تتطلب أن تكون هناك منافسة متكافئة للطموحين الآخرين في الحزب بهذا المنصب. والدستور البريطاني يقضي أن يكون رئيس الحكومة هو نفسه زعيم الحزب الذي يتمتع بأغلبية المقاعد في البرلمان. وقد فسح المجال بوقت كاف أمام من يرغب ترشيح نفسه لزعامة الحزب. وفعلاً رشح عدد من البرلمانيين العماليين أنفسهم لهذا المنصب، إلا إنهم، عدا غوردن براون، لم يحض أي منهم بالعدد الكافي من تأييد رفاقهم في دعم ترشيحهم كما يقضي دستور الحزب، لأن السيد براون كان الأوفر حظاً بالفوز. وعقد الحزب مؤتمراً فوق العادة في مدينة مانتشستر قبل أسبوع من انتقال السلطة، وكما كان متوقعاً، فاز براون بزعامة الحزب بالتزكية.
وجاء اليوم الذي كان ينتظره براون طويلاً لتحقيق حلمه في رئاسة الحكومة البريطانية، أي يوم الأربعاء، 27 حزيران، وقامت محطة تلفزيون البي بي سي1، بنقل الوقائع لأربع ساعات، من الحادية عشرة صباحاً إلى الثالثة مساءً دون انقطاع. بدأت المراسيم بخروج توني بلير من مقر الحكومة في No.10 Downing Street متوجهاً إلى قصر مجلس العموم (البرلمان)، حيث اكتظت القاعة بجميع النواب والوزراء، ليقدم بلير آخر مشاركة له في جلسات تسمى بوقت مساءلة رئيس الوزراء Question time PM والتي تستغرق 30 دقيقة، حيث يبدأ رئيس الوزراء عادة بمقدمة قصيرة حول قضايا الساعة الساخنة، تليها أسئلة ومداخلات وزعماء أحزاب المعارضة والنواب، ويقوم هو بالرد عليها، وفي معظم الأحيان تكون النقاشات حادة، يبدي الخطباء فيها قدراتهم الخطابية لإحراج الخصم وإفحامه وكأنها مباريات خطابية. ولكن في هذه الجلسة الأخيرة المخصصة لتوديع بلير، كانت الأسئلة من قبل الخصوم والأصدقاء هادئة، القصد منها وداعية وتكريمية دون التعرض إلى القضايا المثيرة للخلافات أو أي نقد لاذع.
افتتح رئيس البرلمان الجلسة بدعوته لرئيس الوزراء توني بلير بالكلام والذي بدأ بتقديم العزاء لعائلات الجنود البريطانيين الذين استشهدوا في العراق وأفغانستان وأثنى على شجاعة وتفاني قواتهم المسلحة في الحرب على الإرهاب من أجل خدمة وطنهم وشعبهم ولجعل بلادهم والعالم أكثر أمناً وأجمل مكاناً للعيش بسلام. ثم تلاه زعماء أحزاب المعارضة والنواب من جميع الجهات بالأسئلة وهو يرد عليها، وكل واحد منهم ينهي مداخلته بالتمنى له ولعائلته بالسعادة والهناء والنجاح في حياته القادمة، حيث أثنى عليه حتى الخصوم ولأول مرة لما قدمه للشعب البريطاني من خدمات جليلة وإنجازات رائعة طيلة فترة قيادته للحزب والشعب. وكان بلير بدوره يشكرهم على مشاعرهم مؤكداً أنه رغم خلافاتهم السياسية إلا إن علاقاتهم الإنسانية تبقى فوق كل اعتبار. بل وحتى الراعي إيان بيزلي، الوزير الأول لحكومة أيرلندا الشمالية، المعروف بقسوته وخشونته في مخاطبته للآخرين، راح يمتدح بلير على صبره وقدرته في التفاوض وحكمته ونجاحه في تحقيق السلام في أيرلندة الشمالية، متمنياً له أن يحالفه النجاح ذاته في مهمته الجديدة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، بحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وفي نهاية الجلسة، شكر بلير الجميع وأثنى عليهم في إخلاصهم لبلادهم رغم اختلافاتهم في المواقف السياسية، وكان آخر جملة قالها مودعاً (وهكذا نصل إلى النهاية!). وعندها ولأول مرة في تاريخ البرلمان البريطاني، يقف النواب من جميع الأحزاب احتراماً (standing ovation) للرئيس المستقيل مع تصفيق حاد من قبل الجميع استمر إلى أن غادر القاعة. وهذا له دلالته الحضارية والإنسانية لم يحصل لأي زعيم سياسي سابق في تاريخ بريطانيا.
ثم توجه السيد بلير إلى مقر الحكومة ليودع مساعديه وموظفي المقر، وليذهب بعدها هو وزوجته (شري) لمقابلة الملكة في قصر بكنغهام ليقدم لها استقالته ودام اللقاء نحو 30 دقيقة. والطريف هنا أنه ذهب توني بلير إلى الملكة بالسيارة المخصصة لرئيس الوزراء، ولكن لا يحق له العودة من القصر بنفس السيارة، لأنه بعد ذلك اللقاء لم يعد رئيساً للوزراء، إذ اختفت تلك السيارة لتحل محلها سيارة أخرى لنقله مع زوجته!!
وفي نفس الوقت كان غوردن براون يودع مئات الموظفين في وزارة المالية بعد أن عايشهم عشر سنوات وزيراً للخزانة، ليستلم نداءً هاتفياً من أحد مساعدي الملكة في القصر يدعوه لمقابلة صاحبة الجلالة تخوله بتشكيل الحكومة الجديدة. وتوجه براون إلى القصر في سيارة خاصة لوزير المالية، ودام لقاءه مع الملكة نحو ساعة، ليعود رئيساً للحكومة ويتم نقله بالسيارة المخصصة لرئيس الوزراء!!
أما بلير، فبعد أن ودع الملكة، ولم يعد رئيساً للوزراء، غادر لندن بالقطار مع زوجته إلى دائرته الانتخابية (سجفيلد) في شمال شرق إنكلترا ليقدم استقالته كنائب في البرلمان والتي مثلها مدة 24 عاماً. أما لماذا استقال بلير من منصبه كنائب، فهناك سببان، الأول، ليتفرغ إلى مهمته الجديدة الصعبة كمبعوث دولي للسلام في الشرق الأوسط، للرباعية (الأمم المتحدة، الوحدة الأوربية، الولايات المتحدة وروسيا). السبب الثاني، يبدو أنه من الصعب عليه بعد عشر سنوات رئيساً للحكومة و13 عاماً رئيساً للحزب، أن يجلس في المقاعد الخلفية في البرلمان كنائب عادي.
وماذا عن غوردن براون؟
أعتقد أن براون سيحتل مكاناً مرموقاً في التاريخ، فالثنائي بلير وبراون لم يكونا خصمين كما حاولت الصحافة البريطانية إظهارهما، بل كانا صديقين متنافسين على القمة وبروح رياضية، وكانا في البداية أشبه بالتوأمين، عملاً معاً منذ لقائهما في الحزب أوائل الثمانينات، وخططا لتغييره وتحويله من حزب مرفوض من قبل أغلبية الناخبين البريطانيين بعد إضرابات نقابات العمال شتاء 1979 والتي أدت إلى هزيمة منكرة وإبعاده عن السلطة لمدة 18 عاماً، إلى حزب مقبول من الأغلبية، قابل للفوز بالحكم. والسيد براون هذا يتصف بالذكاء الخارق والفكر السليم، حيث دخل الجامعة وهو في سن السادسة عشر ليدرس التاريخ، ونال الماجستير والدكتوراه في هذا المجال، وبدأ حياته العملية كمدرس في الجامعة، ثم فاز بمقعد في البرلمان عام 1983، وعندها ترك مهنة التدريس وتفرغ للسياسة. كما ويعتقد البعض أن غوردن براون هو العقل المدبر والمخطط مع توني بلير وراء تغيير حزب العمال وإنه مفكر ويتصرف بمنتهى الحذر في كل خطوة يتخذها. ويقال أيضاً أن بلير وبراون اتفقا منذ البداية أن يتناوبا على زعامة الحزب. لذلك وبما يتمتع به من إمكانيات فذة، أتوقع لبراون أن يحقق نجاحات كبيرة في عمله كرئيس للوزراء وزعيم لحزب العمال، وأن يواصل نجاح الحزب في الفوز بالسلطة في الانتخابات القادمة التي ستجرى بعد عامين من الآن. وقد جاء هذا التغيير في قمة الحزب في الوقت المناسب، إذ هناك تذمر شعبي من مشاركة بريطانيا في الحرب التي أسقطت النظام الفاشي في العراق وما أفرزته من تنامي الإرهاب هناك وقتل نحو 130 من الجنود البريطانيين. إذ يحاول خصوم بلير من داخل الحزب وخارجه إلقاء اللوم عليه وأنه تابع لبوش، لذلك فتغيير القيادة في هذا الوقت يمكن أن يغير موقف الناخبين البريطانيين في صالح الحزب في الانتخابات القادمة. وهناك مؤشرات تؤيد هذا الاتجاه، ومنها أن تمرد أحد نواب حزب المحافظين على حزبه وأعلن انتماءه لحزب العمال، وهذه بادرة تفاؤل بمستقبل الحزب بقيادة براون.
مستقبل بلير
كما عبر الناطق الرسمي للبيت الأبيض، أن توني بلير ليس سوبرمان، ولكن هناك شبه إجماع أن الرجل يمتلك مواهب متعددة ومازال في أوج نشاطه. فهو يمتاز بالذكاء الفائق والكفاءة العالية والموهبة الفطرية في السياسة، والصبر والحكمة في معالجة المشاكل والقضايا العامة، وهو أيضاً، محام بارع، وخطيب مفوه ومفاوض صبور له قدرة فائقة على الإقناع. لقد شهد له بهذه الخصال الخصوم والأصدقاء معاً، وخاصة بأدائه البرلماني منذ أول مداخلة له في البرلمان عام 1983، حيث أثار انتباه الجميع بكفاءته الخطابية وثقته العالية بالنفس حسب ما جاء في برنامج خاص لراديو بي بي سي4 عن سيرته السياسية صباح يوم 1/7/2007. وكما قال عنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، أن التاريخ سيقيِّم بلير بالإيجاب.
إن تعيين بلير لمنصب مبعوث السلام للرباعية في الشرق الأوسط، سيفسح له مجالاً آخر وربما أرحب، لاستثمار مواهبه السياسية وكفاءته الدبلوماسية، خاصة بعد أن تراكمت عنده خبرة عشر سنوات في رئاسة دولة عظمى، ونجاحه الفائق في تحقيق السلام في أيرلندا الشمالية. لذا فهناك تفاؤل حذر في استثمار هذه الإمكانيات الفذة لدى بلير في حل أكبر مشكلة مزمنة وخطيرة واجهت العالم واستعصت على الحل، ألا وهي الصراع العربي- الإسرائيلي.
وهذا لا يعني أن هذا الحلم سيتحقق غداً وبعصا سحرية، فالمشكلة معقدة والأطراف المتصارعة أكثر تعقيداً، تحتاج إلى وقت وصبر وحكمة وروية. أعتقد أن تعيين بلير بهذا المنصب جاء في الوقت المناسب، إذ نحن في مرحلة العولمة وتحولات تاريخية وحضارية كبيرة ومتسارعة، مقدمون على مرحلة جديدة في التاريخ لإطفاء بؤر التوتر في العالم، وبالأخص بؤرة الشرق الأوسط (الصراع العربي – الإسرائيلي) التي صارت مفرخة للإرهاب، والمصدر الذي يتغذى منه الإرهاب الإسلامي في شحن العرب والمسلمين بالعداء للغرب ويبرر إرهابه. فقد آن الأوان لتجريد فقهاء الموت وأعداء الحياة من أهم مصدر من مصادرهم في الدعوة للإرهاب، وتجريد الأنظمة العربية المستبدة من أهم عذر لها في عرقلة التنمية البشرية والاقتصادية، ومناهضة الديمقراطية، ومواصلة اضطهاد شعوبها.
ملاحظة أخيرة
سألني صديق، وهو كأي عراقي مثقل بالهم العراقي، وكان قد تابع مثلي مراسيم انتقال منصب الرئاسة من بلير إلى براون من شاشة التلفزة، سألني متألماً، لماذا لا يحدث هذا في العراق أو البلاد العربية الأخرى؟ فكان جوابي له، ولحد معرفتي المتواضعة بالأمر، أن المسألة تتعلق بالمرحلة التاريخية والحضارية التي بلغها أي شعب من الشعوب. إذ تقول الحكمة (كما تكونوا يولى عليكم) ويقول الانكليز: (people deserve their rulers) أي الناس يستحقون حكامهم. فالحكام هم إفرازات شعوبهم، إنها مسألة الثقافة الموروثة (culture)، ولا يمكن أن تغير الشعوب حكامها بالطرق السلمية حتى تتخلى عن ثقافتها البدوية العدوانية الموروثة، وتتبنى ثقافة إنسانية مسالمة تحترم الإنسان وحريته تقبل التعايش مع البشرية بسلام، وكما جاء في القرآن الكريم: (لا يغر الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). صدق الله العظيم.
العودة الى الصفحة الرئيسية