|
لا أدري لماذا يندفع إلى مخيلتي هذا البيت الرائع لشاعر العربي قديم كلما رحل أحد مبدعينا: لأن أموت فبعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي ولو سئل النقاد العرب الأقدمون عن أصدق بيت قالته العرب لما تجاوزوا هذا البيت بقليل أو كثير،فهو ينطبق على الواقع العراقي منذ بدء التاريخ،فالأديب والشاعر والفنان أو العالم الكبير يعيش مهملا في زوايا النسيان والحرمان،لا يذكره الا المقربون منه أو المعجبين به،ويتناساه الآخرين،وهذا هو حال كل مبدعينا منذ فجر التاريخ،فقد عاشوا حياة أقل ما يقال أنها موحشة مملة،فإذا رحلوا أنتبه الناس لهم،فيكيلون لهم الحمد والتبجيل،ويرفعون لهم أعلام المجد،وتتصدر أسمائهم وسائل الأعلام وتذاع أخبارهم وتدرس أثارهم وبعد أيام يلفهم النسيان ويذهبون كأمس دابر لا يذكره ذاكر،ولا أدري أين كانوا عنهم عندما كانوا أحياء يعيشون في عوز وحرمان وتعاسة،ولو أردنا الاستشهاد بالأمثلة لكلت الأصابع عن الكتابة،وأخيرا وليس آخرا طفا على سطح الأحداث المبدع سعود الناصري،فما أن غيبه الثرى في 25 حزيران الجاري،حتى ازدحمت الصحف والفضائيات والمواقع الإلكترونية بالكتابة عنه،وعن أعماله ونضاله وإبداعه في المجالات الفنية والأدبية،ولو سألنا الآلاف من شبابنا الجديد عن سعود الناصري،لما وجدنا من يعرفه الا القليل،وهذا من النوادر في عالمنا الغريب،أن يعيش الإنسان منسيا فأن مات أو قتل،تذكر النقاد انه كان وكان: وأجمل من هذا ومن ذاك قولنا إذا ما ذكرناه لقد كان أنسانا ولكن من هو سعود الناصري،وما تأثيره على الواقع العراقي،وأنا أقول نعم،سعود الناصري عاش غريبا في وطنه،ورحل بعيدا عن وطنه،فاحتضنته مقبرة الغرباء في دمشق،التي أدعوا لتغيير أسمها الى مقبرة الشهداء،فقد احتضنت هذه البقعة الطاهرة العشرات من أشد المناضلين صلابة في مقارعة الدكتاتوريات الغاشمة التي تعاقبت على حكم العراق،وكبار المفكرين والأدباء العراقيين،فقد طووا ثراها شاعر العرب الأكبر ألجواهري،وشاعر الحب والجمال والوطنية الدكتور مصطفى جمال الدين،وأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء المفكر الكبير هادي العلوي وغيرهم ممن غابت عني أسمائهم من ألإنجاب الذين قدموا لوطنهم وشعبهم الكثير،وأضاعهم العراق بسبب السياسات الرعناء للنظام السابق. لقد عشق الناصري الفن وهام به منذ نعومة أظفاره،فأنتسب لمعهد الفنون الجميلة في الخمسينيات،ومارس العمل الصحفي وهو فتى غض ونشر كتاباته في صحيفة الرأي العام التي أصدرها ألجواهري الكبير،وصحيفة البلاد التي أصدرها فقيد الصحافة العراقية وشيخها الأستاذ المرحوم روفائيل بطي،وهاتين الصحيفتين تخرج من مدرستهما كبار الصحفيين،والمجيدين منهم،وعمل في إذاعة بغداد،وأنتقل الى موسكو أوائل الستينيات ليحصل على الدبلوم في العلوم الفلسفية من معهد موسكو للعلوم الاجتماعية سنة 1965،ثم حصل على ماجستير الصحافة من جامعة موسكو،ليعود الى العراق عام 1968 ويعمل في صحيفة الجمهورية،فيرفعه جده واجتهاده للأشراف على الصفحة الأخيرة فيها،حتى عام النكسة 1978 عندما ضويق الأحرار والوطنيين الشرفاء،وحوربوا في أرزاقهم، فأستشهد من أستشهد ،وأسقط سياسيا من أسقط،وهرب الآلاف من الجحيم ألصدامي،فأضطر للهجرة خارج العراق بعد أن فاضل بين الموت والسقوط والهجرة،فكانت موسكو محط رحاله،وهي التي احتضنت الى جانب الدول الاشتراكية الأخرى آلاف المناضلين الشرفاء،من القوى الوطنية المختلفة،شيوعيين ويساريين،ممن اضطروا للهجرة ومواصلة النضال لإسقاط الدكتاتورية،وبعد الطوفان الكبير وانهيار المنظومة الاشتراكية،كان عليه أن يهاجر مرة أخرى،فكانت عاصمة الضباب لندن مستقره الأخير،فأنتقل إليها عام1992 لاجئا سياسيا ليمارس دوره الوطني بكل فاعلية في صفوف المعارضة العراقية،ويحارب من موقعه الجديد بسلاحه المخيف الذي يرعب الطغاة والمستبدين،فكان قلمه السلاح الذي دق مسامير الانهيار في نعش الحكم الجائر،ولكن : وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع فقد شاء القدر أن تتردى حالته الصحية بسبب الكلية اللعينة، ويضطر لأجراء عملية جراحية في سوريا،ويلفظ أنفاسه الأخيرة بين مباضع الجراحين،ليقول كلماته الأخيرة وهو ينازع سكرات الموت،مودعا من أحب :بعين الله يا عراق،لابد للصبح أن ينبلج ويعود لك ألقك وصفائك وأيامك الجميلة التي غيبها الإرهاب. لقد كان الناصري مناضلا صلبا شهدت له سوح النضال،فقد خاض غمار العمل السياسي في سن مبكرة،فانتمى الى الحزب الشيوعي العراقي،وكان ذروة نشاطه في اتحاد الطلبة العام،وأصبح عضو سكرتارية الاتحاد،ومسئول لجنة الأعلام والنشر،ثم أشرف على إصدار صوت الطلبة الناطقة باسم الاتحاد عام 960،وأنتخب رئيسا لرابطة الطلبة العراقيين في موسكو،ورئيس اتحاد منظمات طلبة البلدان العربية في الاتحاد السوفيتي،وكان من الهيئة المؤسسة لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين،وشارك في مؤتمرها التأسيسي عام1980،وأصدر صحيفة (الأبيض) الالكترونية. هذا بعض مما كانه سعود الناصري،واليوم بعد أن حزم حقائبه وسافر السفر الأخير،تنداح أمام ناظري صور وذكريات عن الكثير من الأحبة الذين طواهم الردى،وغادروا هذا العالم،بعد أن كانت تحدوهم الأماني لرؤية عراق رافل بالمحبة والأمن،خاليا من التعسف والتسلط،والإقصاء والتهميش وإلغاء الآخر،فإلى كل من عاشوا عذابات العراق،وأيامه حلوها ومرها ،وناضلوا من أجل إسعاد شعبه وتحرره،ها هو العراق يشق طريقه بين الأشواك والعوسج ،ليصنع غده الزاهر،بسواعد أبنائه الوطنيين الشرفاء،بعيدا عن المسميات الوافدة من وراء الحدود،وعهدا أنكم ستبقون في ذاكرة الأجيال،وفاء لما قدمتم في نضالكم العنيد من أجل بناء وطن حر وشعب سعيد،فلا زالت راياتكم العتيدة ترفرف في سماء العراق،وستبقى شامخة تناطح عاتيات الرياح.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |