|
حينما كنا صغاراّ ، إعتدنا الإحتشاد في أول المساء مرة أو مرتين في الشهر، في إحدى الساحات الخالية من المدينة ؛ مفترشين تراب الأرض، يغمرنا الفرح والإبتهاج والتلهف، لمشاهدة الأفلام المتحركة التي كان يعرضها المركز الثقافي البريطاني، الموجود في المدينة آنذاك، حيث تفتقر مدينتنا الى دور السينما، ولم يظهر بعد الى الوجود ما سمي بالتلفزيون، وكانت غالبية منازل السكان تفتقر الى الكهرباء، إلا من رحم ربي من أعالي القوم ؛ فكنا نقضي ساعة من الإستمتاع والذهول ونحن نرقب حركة الدمى السريعة والأفلام الصامته، على الشاشة البيضاء المنتصبة وسط الساحة، وهي تحتضن العشرات من أطفال المدينة الفقراء والعديد من رجالها العائدين الى بيوتهم من العمل، المحتشدين بدافع الفضول والإنبهار بالحدث العجيب..! لقد دهمتني ذاكرة الصبا هذه فجأة، وأنا أتابع جلسة مجلس النواب العراقي ليوم الثلاثاء 3/7/2007 وكلي آذان صاغية، الى مناقشة السادة النواب لمشروع قانون التقاعد الجديد، وكيف كان الميكرفون يتنقل بين المتحدثين وهم يتناوبون الكلام، حيث أخذتني الدهشة عندما بدأ الصوت يختفي فجأة واللاقطات تغلق، مع إستمرار المتكلم بالحديث، تماماّ كما كان يحصل ونحن نرقب جلسات المحكمة الجنائية العليا..! نعم لقد تذكرت أيام الصبا والدمى المتحركة على الشاشة البيضاء، فخيل أليّ وأنا أرقب حركات السادة النواب وإشارات أياديهم وتعابير وجوههم دون سماع أحاديثهم، وكأنني أمام عرض من أفلام شارلي شابلن الصامتة وحركات الدمى التي كانت تعرضها شاشة سينما المكتب الثقافي البريطاني الجوالة في \"العهود الغابرة\" لعراقنا المعاصر، يوم كنا نعيش عصر ما \"قبل الحضارة\"..!!؟ وبقدر ما آلمني منظر السيدات والسادة النواب وهم يتصببون عرقاّ من شدة الحر، محاولين إستخدام مناديلهم أو ما وقع في أيديهم من أوراق لتنشيف عرقهم وتحريك الهواء من حولهم، ونحن نعيش في العصر الأخضر و\"ما بعد الحضارة\"، بقدر ما أحزنتني صورة النائب المتفاعل مع كلامه \"الصامت\"، وهو قد لا يعلم حقيقة الأمر، بأن حديثه لا يسمعه إلا هو..!!؟ لا أدري كيف ستعلل رئاسة البرلمان ظاهرة قطع الصوت ، والتي أجهدت نفسي بتفسيرها على إنها بسبب خلل فني، لكن واقع الحال وتكرارها لم يدعم تفسيري، فالإنقطاع كما يبدو كان يحصل عندما يبدأ المتكلم في بحث أمور لم ترق للرئاسة أن تخرج بعيداّ عن قاعة المجلس، وكأنها من أسرار المجلس الخاصة، أو أنها تدخل تحت أحكام قاعدة سد الذرائع..!! فهل تعلم رئاسة المجلس بأن عملية إنقطاع الصوت، ومع كل النوايا الحسنة، إنما تفقد الجلسة أهميتها بالنسبة للمشاهد، وتعمل على إلغاء الهدف الذي من أجله جعلت الجلسات علنية، و بذلك تكون قد حالت بين الشعب وممثليه لسماع حقيقة ما يدور من مناقشات لا تهم النواب وحدهم وحسب، بل وسائر أبناء الشعب، خاصة عندما تكون الجلسة إعتيادية، ولا تتعلق بأمور تمس الأمن أو السيادة أو ذات طبيعة إستثنائية، وإلا كان بالأحرى على الرئاسة أن تعلن عن سرية الجلسة، لما في ذلك من قطع لدابر القيل والقال ..!!؟ ولا يدري المرء الى متى ستظل ظاهرة قطع الصوت ماثلة في جلسات مجلس النواب، ونحن على أعتاب فصل \"الصيف الساخن\" للمجلس، على حد تعبير النائب عباس البياتي، حيث سينظر المجلس في مشاريع قوانين غاية في الأهمية، ومنها مسودة قانون النفط والغاز المثير للجدل، بعد أن أقرتها الحكومة في صيغتها النهائية اليوم 3/7/2007 والتي سينظر في أمر تشريعها قريباّ جدا..! أم سنفاجيء أيضاّ بمسلسل الأفلام الصامته لنستذكر الماضي الذي تعلمنا منه الكثير..!!؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |