العراق ليس للعراقيين!!
د.عبدالخالق حسين
nooriali33@hotmail.com
ليس هناك شعب على الأرض حرم من خيرات بلاده كالشعب العراقي. ونتيجة لهذا الحرمان راح العراقيون يرددون شعار (العراق للعراقيين، والعراق أولاً) في محاولة منهم عسى أن يغيروا المعادلة المجحفة. وهو بالطبع رد فعل لما حصل على أرض الواقع منذ ما يسمى بالفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي حيث تمت مصادرة مزارع وممتلكات العراقيين الأوائل في ذلك العهد والذين أطلق عليهم بالنبط أو النبت من (نبات) وتوزيعها على العرب الفاتحين. وقد نشر القادة الفاتحون مقولة (العراق بستان قريش). ولكن الخليفة عمر أرفق بعض الشيء بحال أهل العراق فمنع مصادرة جميع الأراضي ليترك حصة للأجيال القادمة! ومع ذلك لم يسلم العراقيون من مصادرة خيراتهم، فمنذ ذلك التاريخ حرِّموا من ثروات بلادهم إلى يومنا هذا. ليس هذا فحسب، بل اعتبر حتى الانتماء لتاريخ العراق هو عمل غير إسلامي وغير عروبي أصلاً ومخلاً بالأصالة العربية والإسلامية. وهذا هو سبب أزمة الهوية العراقية وضعف الشعور بالانتماء للعراق والولاء للوطن.
فأي عراقي مرشح لمنصب سياسي مهم، عليه أن يثبت أصالته لا للعراق بل للعروبة، لذا فأول عمل يقوم به هو أن يعلن براءة نسبه إلى العراق القديم ويدعي أن أحد أجداده قد هاجر إلى العراق من الجزيرة العربية أو من الشام، لكي لا يتهم بالعجمة وليثبت أنه ليس من أهل العراق الأوائل، بابليين أو سومريين، مندائيين أو آشوريين وغيرهم. ولهذا السبب عاني العراقيون الذين أصروا على جذورهم العراقية مثل المسيحيين والمندائيين واليهود، كثيراً وصاروا عرضة للاضطهاد والقتل والتشرد، مما أدى إلى تناقصهم المطرد مع الزمن وفي مختلف العهود والذي بلغ الذروة في عهد ديمقراطيتنا الإسلامية ومليشيات الأحزاب الإسلامية الفاشستية.
وفي الحقيقة، فإن موجات الهجرة ليست غريبة على البشر منذ العصور الحجرية وما قبلها وإلى الآن، بل تمارسها حتى الحيوانات والطيور المهاجرة. فالناس يتنقلون من بلد إلى بلد طلباً للرزق وحياة أفضل. وفي التقاليد الحضارية يصبح المهاجر ابن بلد إذا ما أقام فيه عدداً من السنوات واكتسب جنسيته وأظهر الولاء له ولشعبه. ففي البلدان المتحضرة مثل فرنسا صار ابن المهاجر المجري نيكولاي سركوزي رئيساً للجمهورية دون أن يتنكر إلى أصله وفصله، ولكن في العراق عليك أن تثبت أنك من الجزيرة العربية فقط وتتنكر لأصولك العراقية وإلا فأنت لا تصلح لهذا المنصب، بل ويعملون على إبادة أهل العراق الأوائل مثلما يجري الآن للمسيحيين والصابئة المندائيين على أيدي مليشيات الفاشية الإسلامية، حيث يكاد يفرغ البلد منهم كما فرغ من يهود العراق.
فقبل أيام، قرأنا في الأخبار أن صوَّتَ مجلس محافظة بابل لصالح تغيير اسم المحافظة من (محافظة بابل) إلى (محافظة الحلة)، والحجة أن (بابل) اسم غير إسلامي، والمدينة سميت (حلة) لأن حلَّ بها الإمام علي. وهكذا نرى العراقيين محكوم عليهم بالتبرؤ من تاريخهم، والحرمان من ثرواتهم في جميع العهود إذا ما استثنينا فترة وجيزة وهي عهد حكومة ثورة 14 تموز 1958 بزعامة شهيد الوطنية العراقية عبدالكريم قاسم الذي أراد أن يستفيد العراقيون كلهم دون تمييز قبل غيرهم من خيرات بلادهم، ففتح على نفسه أبواب الجحيم، حيث وقفت الحكومات العربية ومعها شعوبها ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والسياسية، في تحالف غير مقدس واتهموه بالشيوعية والشعوبية والعداء للعروبة والإسلام إلى أن اغتالوا الثورة وقيادتها الوطنية في انقلابهم الدموي يوم 8 شباط 1963 الأسود.
إن التنكر لتاريخ العراق هو مفارقة وازدواجية أخرى تضاف إلى ما يعاني العراقيون من تناقضات الازدواجية والصراع في شخصيتهم بين البداوة والحضارة حسب نظرية العلامة علي الوردي. فمن جهة يعتز العراقيون بأن بلادهم هي مهد الحضارات الإنسانية، وأجدادهم هم الذين اخترعوا العجلة والحروف الأبجدية وعلموا البشرية الكتابة، وأصدروا أول قانون (مسلة حمورابي) في التاريخ. ولكنهم من جهة أخرى يرفضون أسماء عراقية أصيلة في حضارة الرافدين مثل بابل وسومر وآشور ونينوى...الخ، بحجة أنها غير إسلامية وغير عربية.
وقد بلغ حرمان العراقيين من التمتع بخيراتهم الذروة في عهد حكم البعث الصدامي الفاشي، حيث لم يكتفوا بحرمان العراقيين من هذه الخيرات فحسب، بل وأجبروا خمسة ملايين منهم على مغادرة وطنهم والتشرد في شتات المعمورة، وإبادة عدة ملايين منهم في حروبه الخارجية والداخلية الجائرة، وبالمقابل استورد النظام الساقط مكانهم خمسة ملايين من العرب ليحلوا محلهم وينعموا بهذه الخيرات. إضافة إلى ما قدمه النظام للعرب من أموال طائلة في شراء الذمم من صحفيين ومطبلين ومروجين له من مثقفي كوبونات النفط وغيرهم.
ونتيجة لسياسة البعث الطائشة وحروبه العبثية بدد صدام ثروات البلاد الهائلة في عسكرة المجتمع واستدان عليها مئات المليارات من الدولارات، إضافة إلى توريط الشعب بدفع مئات المليارات الأخرى كتعويضات لحروبه العبثية فرضتها الأمم المتحدة، ادعى بها العرب، حكومات وتنظيمات وأفراد، وقدموا إلى لجنة التعويضات الخاصة في الأمم المتحدة طلبات معظمها كاذبة ومزيفة ادعوا فيها بما لحقهم من خسائر مادية بسبب غزوه للكويت وذكروا فيها أرقاماً خيالية بالغوا في تقديرها وأثروا بسببها، ومازالوا ينهبون أموال العراق ويبعثون له الإرهابيين، في حين أن شعب العراق محروم يعاني من الفقر والإرهاب بشكل غير مسبوق في التاريخ.
ليت هذا النزيف توقف عند سقوط النظام وتم تغيير المعادلة المجحفة بحق العراقيين لصالحهم، ولكم مع الأسف استمر الإجحاف والظلم إلى اليوم، رغم وجود حكومة عراقية المفترض بها أنها تمثل الجميع والوحدة الوطنية، وديمقراطية لأنها منتخبة من قبل الشعب، إلا إنه من سخرية الأقدار أن حتى هذه الحكومة تبنت الموروث البعثي في حرمان العراقيين من ثرواتهم حيث تفضل الأجانب في منح المقاولات والأعمال على العراقيين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل يصدق أي عاقل أن تمنح الحكومة العراقية الراهنة مقاولة لإعادة بناء ضريح الإمامين العسكري والهادي في سامراء إلى مقاولين أجانب؟ فهل بلغ العراقيون من العجز والتخلف إلى حد أنهم غير قادرين حتى على بناء مسجد؟ عزيزي القارئ، أدعوك أن تقرأ معي هذه الرسالة التي وردتني تواً بالبريد الإلكتروني، وهو مثل بسيط ضمن عشرات الأمثلة الأخرى التي نقرأ عنها في الصحف. يقول المرسل:
(السلام عليكم، لم يفت وقت طويل. فقد أعلن على قناة العراقيه قبل يومين أن مشروع إعادة بناء ضريح الأمامين العسكريين (ع) في سامراء قد أحيل الى شركه تركية!!!! السؤال: ما الداعي لإسناد العمل لغير العراقيين؟؟ فعلى علمي المتواضع إن العراقيين بنوا بأنفسهم معظم مساجد العراق ومنذ مئات السنين. أليس التاجر و المقاول والمهندس و العامل العراقي الجائع أولى بهذه اللقم’ من نضيره التركي؟ كيف نريد للعراقي أن يحرس بلده وخير بلده للأجنبي و بغير مبرر و حتى في بناء المساجد . . الله أكبر. لآبد من فعل مؤثر. أن كنت على اتصال بعضو لمجلس النواب (ولا أدري كيف)، فأفعل خيرا و أرسل هذه الرسالة له أو لها. نحمد الله أنهم لم يعطوا العمل لشركة أمريكيه أو صينيه! ) انتهت الرسالة وهي غنية عن الشرح والتوضيح.
وبناءً على ما تقدم، أرجو مِن كل مَنْ يستطيع إيصال هذه المقالة والرسالة إلى السيد رئيس الوزراء وكل من يهمه الأمر من أصحاب الحل والعقد، أدعوهم فيها أن يفكروا بمصلحة العراقيين أيضاً وليس بمناصبهم ومصالحهم الشخصية فقط. فقد عانى العراقيون بما فيه الكفاية من الظلم والجور والحرمان، إلى حد أن فقدوا شعورهم بالانتماء إلى هذا العراق وصار هم معظمهم هو إيجاد طريقة ما لمغادرة العراق وإلى غير رجعة. ومعظم هؤلاء صار ضحية لمهربي البشر، حيث راحوا يتوسلون بأقاربهم في الخارج لدعمهم مادياً لا لمعيشة عائلاتهم، بل لدفعها ثمناً إلى المهربين المجرمين الذين أثروا من مآسي العراقيين من أجل تهريبهم إلى أقرب دولة أوربية، وفي بعض الأحيان أحالوهم إلى أطعمة لأسماك البحار.
فمتى يتحقق شعار (العراق للعراقيين) قولاً وفعلاً وليس مجرد شعار كمعظم الشعارات الأخرى الفارغة؟
العودة الى الصفحة الرئيسية