|
من الكتب التي لم يتسنى لي قراءتها أو الاطلاع عليها،كتاب(مشيخة النعال البغدادي) وقد علق عنوانه في ذاكرتي لغرابته، رأيته ذات يوم في مكتبة أحد أساتذتي،ولم يتسنى لي معرفة موضوعه أو قراءة مادته،أو استذكار مؤلفه أومحققه،أو الجهة القائمة بطبعه،ولا أدري هل هو نفس النعال الذي ينتعله الناس أم نعال آخر،أو كلمة أريد بها معنى لا أعرفه، لني لم أعرف في حياتي غير النعال الذي ينتعله بعض الناس ولا أقول كلهم،لأن هناك الكثير من الحفاة العراة الذين لم يلبسوا نعالا في حياتهم كما يقول مؤرخ العراق صدام حسين، معيرا العراقيين بفقرهم وعدم امتلاكهم له، حتى قيض لنا حظنا العاثر أن يتولى الرئاسة، فنرتدي الأحذية، وهو منجز من منجزاته عندما يكرم شعبه ب(النعل)، بعد أن كانوا حفاة. ولعل القارئ الكريم يعجب لإيرادي عنوان كتاب لا أعرف عنه شيئا، وأنا أشاركه العجب لولا أن الوضع السياسي الحالي بما رافقه من تعاملات ب(الأحذية والنعال) جعل عنوان هذا الكتاب يطفو بذاكرتي ويكون عنوان مقالي هذا. ولو استعرضنا تاريخ النعال عبر التاريخ لاحتجنا إلى مجلدات ومجلدات،ولكن ما يعنينا الإشارة إليه هو موقعه في الصراع السياسي الدائر في العراق،فقد كان السيف والرمح والمبارزة والمصارعة أدوات الحسم في الصراع على السلطة،ولكن الحضارة الحديثة هدتنا لأسلحة جديدة أكثر قوة وفاعلية من الأسلحة القديمة،والعراقيون بالذات اهتدوا لسلاح لا توازيه الأسلحة الجرثومية والإحيائية في القوة والمضاء،ذلكم هو النعال،ففي معرض الموازنة بين السياسيين قال شاعر العرب الأكبر(ونعلك من خدهم أشرف)في أشارة لنعال المناضل العراقي وخد خادم الاستعمار،وأكرم به من نعال يرفعه أبو فرات ليصفع به خد العملاء،وقل الآخر في هجاء صدام: ونعل لمأبون نقبل ظهرها ونخضع أرغاما لهاماتنا تعلوا فضعها كتاج للرؤوس فأنها أكاليل غار بوركت هذه النعل وكان للنعال مكانه المناسب في المناقشات بين المناطقة والمتكلمين ورجال الفكر والأدب، فهؤلاء يجارون مجتمعاتهم باستخدام ذات الأساليب التي يستعملها المتنازعون في الشوارع، فقد كان رجال الجدل وأرباب العلوم عندما يناقشون المواضيع العلمية، تأخذهم فورة الحماس ولا غرو في ذلك، فالناس على دين ملوكهم، فالقوة هي المنطق والفيصل في المناقشات، ولكن أن نبقى نحن الأعاريب على جاهليتنا في العصر الحديث،فهذا من أعجب العجب، وما يدعوا إلى الوقوف عنده قليلا أن أسلافنا من رجال الجدل وأرباب العلوم الرائجة تلك الأيام حتى أواخر القرن العشرين،عندما يناقشون المواضيع العلمية ،تأخذهم فورة الحماس والهوس العلمي،فيتراشقون بالأحذية والعمائم،ويشتبكون بالأيدي والأرجل،تعبيرا عن انفعالاتهم بسبب الخلافات في مواضيع لا تتعدى الاختلاف بالرأي، في مسألة فقهية أو كلامية أو منطقية، وقد عاصرت أذيال تلك الفترة، ولا زالت أثارها عالقة في مخيلتي وتصرفاتي التي تدفعني للتحامق والتراشق بكلمات غير حضارية مع المخالفين تصل أحيانا حد استعمال الأيدي،وهو ما لم أستطع التخلص منه، ويظهر أحيانا رغم سعيي للتحلي بالروح العلمية المحضة البعيدة عن المهاترات،والانجرار إلى هجر القول وفاحش الكلام، ولا أعدوا الحقيقة إذا قلت أن بعض المعاصرين من رجالات العلم، لا تزال على رؤوسهم ووجوههم أثار جرتها نقاشاتهم البعيدة عن روح العصر وطبيعة الجدل العقلي للأمم المتحضرة، ويبدو أن الأخوة المعممين قد نقلوا طرقهم النقاشية إلى عالم السياسة وليس بعيدا عن الذاكرة ما نشرته جريدة الوسط عندما أقيم مجلس فاتحة لتأبين أحد رجال الدين،وازدحم المجلس برجال الدين السياسيين،وعندما جاء أحد كبار رجال الدين لقراءة الفاتحة في أحدى حسينيات قم،أنهال عليه جمع من الشباب المؤمن ممن ارتدوا العمائم ودرسوا علوم الدين،بالأحذية،مما دفع حكومة إيران لإلقاء القبض على قسم منهم،ولم يخرجوا من السجن إلا بتوسط سيادته وتنازله عن حقه الشخصي بمقاضاتهم،فكان هذا التعامل الأخلاقي في مثل هذا المكان المقدس،ولرجل يحظى بمكانة خاصة في أوساط المتدينين،خير دليل على الخلق السياسي المفرط بالشفافية التي يتعامل بها السياسيون الجدد ممن طفوا على سطح الأحداث وأصبحوا أصحاب القرار،وبالأمس القريب أنهال جمع من الشباب المؤمن على رئيس القائمة الوطنية العراقية عند زيارته لمقام الأمام علي في النجف،بسيل مما ينتعلون،وكادت تحدث فتنة كبرى لولا ما تحلى به المعتدى عليه من حنكة ودهاء جعله يغض النظر عن الأساليب الحضارية في التعامل بين الخصوم السياسيين. ولعل هؤلاء سيمارسون ذات الأساليب مع قادتهم عندما يختلفون معهم ، مما سيجعلنا في المستقبل أكثر الشعوب عقلانية في الاختلاف الفكري والسياسي،ومن أكثرهم رقة في التعامل مع الآخرين،وقد قيل أن أحد كبار الساسة العراقيين قوبل بسيل من الطماطم والخضر في أحدى أحياء بغداد،من ذات الشباب الذي عامل علاوي بأسلوب حضاري،فعاد هؤلاء لإعادة الكرة مع أكثر حلفائهم قربا منهم،ولعل ذات الأحذية ستصافح الكثير من الرؤوس الكبيرة إذا لقيت التشجيع ممن يمارس العمل السياسي هذه الأيام، ولا أستبعد أن تنهال على رؤوس من أوعزوا باستعمالها ضد الآخرين،لأن الدهر دوار،وسيجزي الإنسان بما عمل وأن طال الزمن،لذلك كان للنعال حضوره في كل زمان ومكان،فقد نقل من على شاشات الفضائيات في أحدى جلسات مجلس النواب العراقي،وفي معرض النقاش حول أحد القوانين،ارتأى أحد النواب الإسلاميين أن تعرض القوانين التي يقرها البرلمان على المرجعية الدينية لبيان تطابقها مع التعاليم الإسلامية،فإذا كانت ضمن المواصفات التي يراها هؤلاء الفقهاء أجيزت وأصبحت سارية المفعول،وأن لم توافق مزاجهم يكون مصيرها الرفض والإهمال،فطرح أحد النواب أنه يجب في هذه الحالة أن تكون هناك لجنة أخرى تدرس مراعاة القوانين لحقوق الإنسان والديمقراطية،فثارة ثائرة المؤمن بالله واليوم الآخر ،السياسي المخضرم محمود المشهداني رئيس مجلس النواب،وقال إن الديمقراطية وحقوق الإنسان تحت حذائي(قندرتي)إذا تعارضت مع الإسلام،والإسلام هو الفيصل في كل القوانين،ولا مكان للديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق الإسلامي،فصفق له أصحاب اللحى والعمائم، والمدس المصنوعة من جلود التماسيح،وأكثروا من الصلاة على محمد وآل محمد لهذا التصريح الرائع،ولعلها المرة الأولى التي يتفق فيها المتخاصمون على رأي واحد،ولكنهم جازوا رئيسهم بعد ذلك جزاء سنمار عندما أصروا على طرده من المجلس لأصابته بأمراض عقلية،وتجاوز حمايته على أحد النواب المحترمين،ففي الأولى كان في منتهى العقل،وفي الثاني أصبح مصابا بانفصام الشخصية،وهكذا تكون المقاييس هذه الأيام،ولا أدري كيف نوفق بين المفاهيم العصرية الجديدة وما أقره الماضي السحيق بتصرفاته الفجة،يوم كان الإنسان يركب الجمل ولآن يركب الطائرة،وليس لنا أبناء القرن الحالي أن نعيش بعقلية من سبقنا ونتناسى إن العالم،زرع البطيخ على سطح القمر،ونحن لا نزال نتغزل به،حتى بعد أن ظهر أنه كتلة من صخور لا أثر فيه لحياة. لا أدري وربما سيكون للنعال البغدادي أثاره الظاهرة والمخفية في بناء العراق الحديث،ورسم سياسته على أسس واضحة من التعامل الحضاري بدلا من استعمال الأسلحة الجارحة،وقد ينتقل هذا الأسلوب الراقي إلى أروقة السياسة العالمية،فنكون السباقين في وضع الأسس الجديدة لبناء المنظومة العالمية للشفافية،،وحضارية التعامل مع الآخرين.وقد يقول قائل إن الرئيس الروسي الأسبق نيكيتا خروشيف قد أستعمل حذائه ذات يوم في أحدى جلسات الأمم المتحدة،عندما طرق به على المنضدة منبها الآخرين لإفساح المجال له بالكلام،وأقول لعل قادتنا الميامين استلطفوا العمل الروسي فاتخذوه سبيلا للتعامل مع الآخرين،ولكن ذلك لا يجعلنا نفرق بين النعال البغدادي والحذاء الروسي،فمثل هذه التصرفات مهما كان مصدرها لا تنبئ عن وعي حضاري لطبيعة التعامل بين المتخاصمين،وعسى أن تكون التعاملات المستقبلية أكثر حضارية مما فعله الشرقيون الروس والعراقيين،ولا نرى الأحذية تتطاير هنا وهناك لتصافح الرؤوس الكبيرة التي تقودنا إلى الغد الجميل البسام.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |