عادة ما تكون النعمة مقرونة بالعافية، ولكن قد يصاحبها نوع من الشقاء طالت مدته أو قصرت فهو المعكر لصفو الأيام والمكدر لحنو الأرحام والمبدد لحلو الأحلام.والأنعم وان تعددت فهي في عراق الرافدين تكاد تكون واحدة ، ففعل الدمار لا يعرف قيمة النعمة سيما وأن صاحب النعمة هو المسبب في ذلك الدمار سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.وقديما قد قيل :( لا يعرف قيمة النعمة إلا فاقدها ).
من نعم الله سبحانه على البشر الأمان ، غير أن العراق لم يعرف الأمان طيلة عقود من الزمن.فأما الحروب هي السائدة داخلية أو خارجية وما أكثرها والجميع يعلم ما تأتي به الحرب من ويلات وآهات ليس فقط على البشر، وأنما على الطبيعة وما أظلت والمناخ والأرض وما أقلّت والبنى التحتيّة وما احتوت. وأما الويلات التي تجلب الفاقة والعوز والأمراض الفسلجية والنفسية والاجتماعية فحدث ولا حرج. ولم يعرف أبناء الرافدين طعم الأمان ولا مثيله الذي يتمتع به جيرانهم في مكة والجزيرة أو أيران .
ونتيجة لكثرة الاختلالات الداخلية في بلاد الرافدين قديما وحديثا ، والتي سببها كثرة الصراعات ، فأنها أفرزت انفصال الحكم عن الشعب واندماج الدولة في السلطة وغياب التمثيل الحقيقي للشعب في مؤسسات الدولة ،لأن الأحزاب اقتصر دورها على السعي وراء المشاركة في السلطة أو التبعية لها.فطيلة السنوات التي أعقبت نشوء الدولة العراقية كانت الأحزاب ممولة من قبل بعض الطبقات الغنية والتي لم تعرف غير الجري وراء تحقيق مصالحها وحتى تلك التي جاءت مدعومة من الخارج ، فجميعها لم يسعى إلا إلى بسط الإرادة الداعمة والساندة لتلك الأحزاب ولم يكن في مجمل حساباتها أنها تتأصل من واقع الأرض التي تعيش عليها ومن هذا المنطلق يتعين عليها العمل من أجل تحقيق المصالح العامة والمشتركة لأهل تلك الأرض بالعيش في سلام ووئام وبسط إرادة أهله بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم .
وإذا ما استثنينا الفترة التي حكم بها الأمام علي (ع) العراق والتي شهدت استقرارا نسبيا ولكن تجذرت فيه قيم إنسانية عليا مثيل حب الحق وانتهاج العدل والمساواة والدفاع عن كل ذلك كمصلحة عامة لا الدفاع عن حب الوصول للسلطة والهيمنة السياسية ، فأن العراق قد حكم في زمن الأمويين والعباسيين والعثمانيين بالجيوش الخارجية وبالإرهاب وامتدادا إلى فترة الاحتلال العسكري المباشر من قبل الإنجليز عام 1914 .وبسبب تلك الأوضاع لم يهدأ العراق أو يتعافى وصولا إلى حالة الرقي التي وصلتها المجتمعات الأخرى في كافة ميادين وحقول العلم والمعرفة المختلفة من سياسة واقتصاد وتربية وأعلام وثقافة وتعليم الخ.
ومن خلال الظروف القاسية التي عاشها العراق أبان جميع الفترات المظلمة التي مرت به عموما وفي فترة ما قبل وأثناء قيام الدولة العراقية الحديثة خصوصا من ظلم وقسوة وبطش لجميع القوى المعارضة للوجود الأجنبي على أرض العراق من شماله وحتى جنوبه ، برزت داخل الأوساط العراقية حركة تمرد أظهرت مدى تعلق و حب أبناء هذا الوطن لوطنهم متمثلة بعشائر العراق في قراه الكردية في الشمال والعشائر العربية من قرى جنوبه ومدنها التي هبت في ثورات وانتفاضات عديدة ضد المحتل الغازي ، مما أجبر القوى الاستعمارية على أعادة لعب أوراقها في المنطقة من جديد وذلك بوضع خطط بديلة لا تقوم أساسا على مبدأ التدخل العسكري المباشر ، وأنما قامت بزرع بعض عملائها ليكونوا على رأس السلطة في البلدان العربية التي انسحبت منها قواتها ولتبدأ بذلك أخطر مرحلة احتلال شهدتها المنطقة منذ الاحتلال العثماني لها والى اللحظة التي جاءت فيها القوات المتحالفة لتغيير حاكم بغداد الطاغية صدام فعاد التأريخ نفسه مبينا فشل المشروع الاستعماري القديم في أرض الرافدين حيث تكون الموازنة في حساب جميع المعادلات أصعب من غيرها على هذه الأرض .
والآن وبعد فشل المشروع الأمريكي القائم أساسا على مغالطات كبيرة في تصور حالة العراق السياسية وعدم نضج الوعي السياسي لدى العديد من الأحزاب التي تسللت للسلطة بحجة الديمقراطية العرجاء وتصوراتها القاصرة عن فهم الواقع السياسي العراقي تبقى عملية أعادة ترتيب الأوراق غير مكتملة إلى الحد الذي نتج عنه الكثير من المشاكل والأزمات وصعوبة الخروج بحلول جذرية لتلك المشاكل مما أدى وسيؤدي في المستقبل إلى المزيد من الكوارث في حالة تكرار نفس التجربة السابقة وهذا لن يخدم بطبيعة الحال لا العراق ولا شعبه وسيكون المستفاد من خلق الكثير من الصراعات وتشابك ألارادات المحتل وحده حتى وان وصل الحزب الإسلامي العراقي إلى رأس السلطة أو تحالف الأكراد .
وبهذا يمكن للمرء أن يقول أن مسألة أعادة الحياة للعراق ككل تبقى مستحيلة في حالة أشبه ما تكون لمعالجة ظواهر المرض وأعراضه وترك الخوض في كشف المزيد عن الأسباب التي جاءت بالمرض نفسه . وإذا ما تم الأعداد جيدا لوضع برامج إيجابية نابعة من حاجة المجتمع العراقي وتصوراته هو لواقع يفرض هو نفسه فيه أرادته وليس أرادة غيره من أحزاب أو أي لاعب آخر كالمحتل نفسه والسعي الحثيث بنزاهة تامة وحرص شديد من قبل الأحزاب التي تهيأ ذلك الأعداد للبرامج التي يريدها الشعب وحتما ستنهض بواقعه نحو الأفضل ، عند ذاك يمكننا القول بعد سعي تلك الأحزاب إلى عملية تغيير جذري حتى في وجوه العديد من رجالها الذين قد فشلوا أو هم لم يتمكنوا من الوصول بأدائهم إلى كسب رضا الشارع واستحقاق نيل ثقته بهم من جديد وترك الآليات المعتمدة سابقا في عملية الوصول لأكبر عدد ممكن من المقاعد الممثلة في البرلمان للتحكم واستغلال المبدأ الذي يفرض المحاصصة وامتلاك أكبر عدد ممكن من الوزارات في الحكومة ، أن الانتخابات تفرض ما لا تستطيع أي قوة عدا قوة الشعب أن تفرضه وبالتأكيد سيكون هذا التجاوب بعيدا كل البعد عن منهجية وفكرة أداء الأحزاب الدينية مع فشلها في تحديد البرامج الصحيحة وفرض الأفكار التي يطمح بها ومن خلالها العراقي لأن تكون مطبقة على أرض الواقع وسيكون فشلها من جديد في عدم سرعة تحركها لتغيير نوعية ذلك الأداء وفق خطط مبرمجة ومدروسة.
ويشير الواقع إلى جملة متغيرات لربما تأتي أكلها وفق التصور القائم على عدم السماح من جديد باللعب بورقة المحاصصة الطائفية والعنصرية وذلك لأن تغيرات الخريطة السياسية ستلعب دورا مؤثرا في حالة صعود بعض من الأحزاب العلمانية المعتدلة والتي تتواصل دائما مع الشارع وتفكر بما سيحتاجه الشارع من إتاحة المجال له في المساهمة الجدية في عملية صنع القرار وتلبية جزء كبير من طموحاته التي همشت من قبل الأحزاب الدينية وعملت على طمس أي فكرة للتقرب منه من جديد معتمدة في ذلك فرض رؤاها هي وغير آبهة برؤى ذلك الناخب الذي أوصلها لمقاعد البرلمان وكراسي الحكومة . أما عن التحالفات التي باتت تنادي بها التكتلات المختبئ تحتها بعض الأحزاب العلمانية التي اكتسبت ثقة الشارع غير القادر على تمييز الغث من السمين بحجة أنها ستكون وفق تصوره المنقذ والمشكل لحكومة عراقية قوية تفرض نوعا من الاستقرار والأمن وتتحدى كل المليشيات المساهمة في فرض الفوضى والدمار وعدم الوصول بالبلد إلى بر الأمان ،فهذه الأحزاب سوف لن يصار لأعادة انتخابها بنفس المحصلة التي خرجت بها وذلك لعدة أسباب منها أن تحالفاتها أيظا سوف لن تجدي نفعا خصوصا أنها قد ركنت لذات الأحزاب الدينية التي فشلت هي الأخرى في تقديم ما وعدت به للشارع الذي حصلت من خلاله على مقاعدها .وتبقى فرصة أن يتعافى العراق تماما من كل ما مر به من ويلات ومصائب خلافا للمتوقع في حالة حسم الأحزاب العلمانية للانتخابات القادمة وتشكيل حكومة إنقاذ وطني الهدف منها أعادة الحياة لكل أطراف العراق التي شلت خلال تواجد المحتل شريطة أن تعمل تلك الحكومة على إخراج أي تواجد عسكري أمريكي أو أجنبي وعدم ربط العراق بمعاهدات سرية تسلب من خلالها خيرات أبنائه لسنين طويلة.
وفق هكذا تصور سيلفظ الشارع جميع أشكال التمثيل القائم على الدجل والوعود الكاذبة والجهل بواقع العراق وسيكون مهيأ للعب دور بناء وخلاق للوصول بالعراق نحو بر الأمان من جديد.طبعا من مسؤولية تلك الأحزاب أن تنهض بواقع العراق نحو الأفضل معتمدة على خبرات ابن البلد أولا وغير مستغنية عن التجارب العالمية في ميادين البناء الديمقراطي والعمراني واعتماد التكنولوجيا الحديثة كعامل مساعد في حركة البناء تلك ومستفادة من جميع الثروات الطبيعية والبشرية في البلد استفادة علمية وفق برامج غاية بالتقدم والرقي ، عندها يمكن للعراق أن يتعافى وأن يكون مثالا حيا يحتذى به ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب وأنما في العالم أجمع.
العودة الى الصفحة الرئيسية