-1-
لم تكن التجارة بالدين الإسلامي تجارة رابحة كما هي هذه الأيام. ولم يُصب رجال الدين مالاً كما أصابوا في هذه الأيام. ولم يكن رأي وفتاوى رجال الدين مطلوبة بإلحاح ومُزاحم عليها كما هي في الأيام، بحيث اضطرت إدارة الجامع الأزهر إلى تخصيص وفتح خط ساخن على مدار الساعة لتلقي الأسئلة الدينية وإصدار الفتاوى بشأنها. ولم نر هذا العدد الهائل من الفتاوى التي تصدر يومياً كما نرى في هذه الأيام. ولم تنتشر المعاهد الدينية والجامعات الدينية في العالم العربي كما انتشرت في هذه الأيام. ولم يبلغ عدد طلاب الدراسات الدينية في العالم العربي كما بلغه هذه الأيام. ولم نجد في العالم العربي هذا العدد الهائل من الدُعاة والهُداة من الشباب ومن الشيوخ، من ذوي العلم الشرعي، وممن تنكبوا العلم الشرعي، كما نجد الآن. ولم يصبح رجال الدين عموماً من الشيوخ والشباب على هذا المقدار من الثروة الطائلة ورفاه العيش كما هم عليه الآن. ولم نجد السلطات العربية العَلمانية منها، والعَلمانية المزيفة، والدينية منها، والنصف الدينية، تخشى من رجال الدين وسطوتهم، كما تخشى في هذه الأيام. ولم نعهد هذه المساحات الكبيرة في الصحافة العربية التي تخصص للصفحات الدينية وهذه الساعات الطويلة من البرامج الدينية في الفضائيات. ولم نرَ رجال الدين عموماً يؤيدون ويساندون الإرهاب وقادة الإرهاب ويطلقون على رأس الإرهابيين "سيف الإسلام"، و "شيخ الإسلام"، و"المجاهد الأكبر"، و"شيخ المجاهدين"، ويدعون له سراً وعلانية بالنصر المبين، وسلامة اليمين، وصدق اليقين. ويمتنعون عن إصدار فتوى بإهدار دمه، لأنه قاتل قام بقتل المئات من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين ومن كل ديانات الأرض والسماء الأبرياء، كما نرى في هذه الأيام.
فهل فقد العرب عقلهم، أم ماذا؟
-2-
لقد أصبح رجل الدين في العالم العربي في هذه الأيام هو الرجل الأول، وهو في المقام الأول، وهو صاحب الكلمة الأولى، والخطبة الأولى، والكرسي الأول، وفنجان القهوة الأول.
وأصبحت كلمة رجل الدين تُغلق شارعاً وتفتح شارعاً. وتغلق جريدة، وتطرد رئيس تحرير جريدة، ومدير محطة تلفزيون أو إذاعة، وتهدد وزراء الثقافة بالطرد والمحاكمة، وتصدر الفتاوى بقتل المثقفين والشعراء وحرق كتبهم، ودواوينهم، ونفيهم من بلادهم إلى بلاد الغرب، وإهدار دمائهم على شاشات الفضائيات.
وأصبح رجل الدين يقوم بهدر دم تيار كامل من الليبراليين العرب بمجرد فتوى شخصية. كما يقوم رجل دين آخر بهدر دم تيار كامل من العلمانيين العرب ورميهم بالكفر والإلحاد، دون أن يؤاخذ على ذلك، أو يحاسب من قبل الدولة، أو من قبل الرأي العام، أو منظمات حقوق الإنسان العربية التي من المفروض أن تدافع عن أصحاب الرأي الآخر. ففتوى هؤلاء وغيرهم من رجال الدين لا تُحاسب ولا تُعاقب.
وأصبح رجل الدين يتدخل في أدق تفاصيل حياة العربي، ويدخل بيته عنوةً، ويفتشه عنوةً، ويصادر ما يريد منه عنوةً، ويقتاد رب البيت أو أبناء رب البيت إلى الحجز البوليسي عنوةً، ويتهم رب البيت بالكفر والفجور عنوةً، ويبصق في وجه النساء عنوةً، ويتهمهن بالعهر والدعارة عنوةً. ولا حاجة له لأمر أو تفويض خاص من أية جهة رسمية.
وأصبح رجل الدين هو السياسي الأول – نتيجة لقصور وصغر عقل العربي - الذي بمجرد أن يرفع المصحف عالياً، تسقط كل الكتب الأخرى على الأرض وتمزق وتداس بالأحذية. وبمجرد أن يُرفع شعار "الإسلام حول الحل" تسقط جميع الشعارات العلمية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
بل إن بعض رجال السياسة أصبحوا يتمثلون برجال الدين، ويقفون بدلاً منهم على المنابر، ويلقون الخطب الدينية/السياسية، وهو يلبسون ثياب رجال الدين وزيهم، كما كان يفعل اسماعيل هنية في مساجد غزة في صلاة الجمعة، مثالاً لا حصراً.
-3-
عندما جاءت الأديان قبل آلاف السنين، كان الإنسان - بجهله وتخلفه العقلي وقلة معارفه - يبحث عن أكثر من مليون إجابة لأكثر من مليون سؤال مطروح في حياته، ولا يلقى لهذه الأسئلة جواباً ويرد الأسباب المُسببة للقوة الخفية.
ومع تقدم العلم، وارتقاء العقل البشري حقبة وراء حقبة، انخفض عدد الأسئلة التي تبحث عن إجابات إلى بضع مئات الآلاف من الأسئلة، ثم انخفض هذا الرقم مع تقدم العلم أكثر ومع ارتقاء العقل البشري عشرات الآلاف من الأسئلة التي تبحث عن إجابات، فلا تجدها وتردَّ الأسباب المُسببة للقوة الخفية.
وفي عصرنا الحاضر، وفي ظل تقدم العلوم هذا التقدم الباهر، وفي ظل ارتقاء العقل البشري هذا الارتقاء المذهل، تقلّص كثيراً عدد الأسئلة التي ليست لها إجابات كما تقلّصت كثيراً عدد الظواهر التي لا يجد لها العقل البشري مُسببات أو أسباب، بانتظار أن يزداد تقدم العقل البشري، وتزداد معارفه لكي يكتشف الإجابات الصحيحة للأسئلة الباقية.
الروعة في العقل البشري – الغربي خاصة - في العصر الحديث، أنه لم يُشغل نفسه كثيراً بالغيبيات، بل ركّز على مجال واحد في التفكير والبحث والإبداع والإنتاج، وكل ما من شأنه أن يُحسّن ظروف الحياة، ويدع الإنسان يعيش هانئاً في هذه الحياة.
فالعقل البشري الراقي، لم ينشغل بعدد السماوات مثلاً، وهل هي سبع سماوات أو ثماني أو ست، بقدر ما انشغل في تحسين تكنولوجيا الطيران، وإنتاج طائرات أكبر وأضخم وأفخم وأكثر أماناً. كما انشغل بتدقيق نبوءات الطقس، وجعلها أكثر دقة بكثير مما كانت عليه قبل خمسين عاماً مثلاً. فالعقل البشري اليوم يستطيع تحديد درجات الحرارة اليومية في أي يوم من أيام السنة بدقة متناهية، كما يستطيع تحديد اتجاهات الرياح وسرعتها، ومواعيد المطر، وكميات الثلوج التي ستسقط غداً، وهي كلها نتاجات علمية من أجل تحسين حياة الإنسان، وتيسيرها على هذا الكوكب.
كذلك لم ينشغل العقل البشري الراقي بأمور الجن، هل هي موجودة أم لا؟ وهل يجوز الزواج بنسائها أو برجالها؟ وما حكم ذلك؟ وكيف يوزع الميراث؟ إلى آخر هذه (الهبالات) و (التخاريف) والبذخ السخيف في الدرس، وفي تشتيت الجهد والتفكير والجدل.. الخ. بل انشغل العقل البشري الراقي في تنظيم حياة الإنسان تنظيماً دقيقاً ، دون أن يترك جانباً ولو صغيراً أو تافهاً دون تنظيم وأحكام وإحكام.
كذلك لم ينشغل العقل البشري الراقي في شكليات المرأة وخصوصياتها، كأن يفرض عليها ما ترتدي وما لا ترتدي، وماذا تخفي من جسمها وماذا تظهر، وكيف تتعامل مع الذكر، وماذا عليها أن تتجنب وماذا عليها أن تتخذ، وفرض القيم الاجتماعية والأخلاقية عليها التي كانت سائدة قبل قرون طويلة دون مراعاة لتغير الحياة ومعطياتها بنسبة 180 درجة، ودون مراعاة لتغير القيم الاجتماعية والأخلاقية. بل انشغل العقل البشري الراقي في كيفية تعليم وتربية المرأة وترقيتها وإيصالها إلى أعلى مرتبات المجتمع والإشادة بجهودها وكفاحها وتقدمها من أجل إعطائها المزيد من الحرية وامتلاك أمر نفسها وجسدها، حيث أنه ملكها وحدها، ولا يحق لأحد مهما كان أن يفرض عليها كيف تصون جسدها وتحفظه. في حين أن رجال الدين عندنا مشغولون ليلاً نهاراً بهذا الكائن الخطير والغريب المأكول والمذموم وهو المرأة. فمرة يطلبون منها أن تتحجب أو تتنقب، أو أن لا تدع بيتها، وأن ترضع الكبير خوفاً من الزنا. وتصدر الفتاوى اليومية تباعاً بخصوص المرأة التي تسأل هي نفسها – نتيجة لجهلها وتخلفها وقصورها العقلي - عن أدق وأتفه أمور حياتها. وهو أن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على جهل المرأة وجهل الرجل العربي بأمور حياته، وبأنهما ما زالا قاصرين على تسيير حياتهما دون إرشاد وقيادة وتبعية رجال الدين وفتاواهم. لذا أصبحت هذه الفتاوى الدينية ضرورية للعربي والعربية وبدونها يضيع الجميع، ويتوه الجميع، ويفقد الجميع بوصلة حياته. فنقرأ ونشاهد على شاشات الفضائيات في البرامج الدينية المختلفة، كيف أن حيض النساء، وحجاب النساء، وزينة النساء، وملابس النساء، ونكاح النساء، وختان النساء، يشغل الجانب الأعظم من فتاوى رجال الدين الذين يسترزقون من وراء هذه الفتاوى رزقاً كبيراً. كما أن موضوع ختان الأنثى – بالذات - له من اهتمام الفقهاء الجانب الأكبر فيما يتعلق بالمرأة، التي أصبحت قضية كبرى فوق كل القضايا في العالم العربي. بل تربى لدينا مرض نطلق عليه "فوبيا النساء" وهو الخوف والفزع من المرأة، ليس لأن المرأة وحش ضاري، يمكن أن يفترس، أو يجرح، أو يؤذي أي ذكر يقترب منها، ولكن لأن هناك سلسلة طويلة من التحريمات والتوبيخات والتحذيرات من رجال الدين تدعو إلى تجنب المرأة، ومنهم من يعتبرها مخلوقاً نجساً، وعدم الاقتراب من المرأة، أو الحديث معها، أو ملامستها، ونبذها، والاستخفاف بها، وبعقلها، وبدورها في المجتمع، مما ترك أثراً هو أشبه بالمرض والعقدة النفسية لدى العربي. وأصبحت "عقدة الجنس" والحرمان منه، إلا في إطار اجتماعي معين مرضاً استبد بالعربي، وعكس قصوره وتقصيره في مختلف مجالات الحياة. فلا يمكن لأنثى إلا أن تكون هدفاً جنسياً سريعاً وملحاً لأي ذكر عربي فيما لو اجتمعا، حيث سيكون الشيطان (الجنس) ثالثهما. وأصبح العربي – ومن حقه ذلك بعد كل هذا الحرمان- عندما يرى المرأة، لا يفكر إلا بفرجها، سواء في المدرسة أو المعهد أو المصنع أو المكتب أو الحقل أو القطار أو في الطريق. ويظل العربي يطارد المرأة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب سعياً وراء ممارسة الجنس معها. ويقضى معظم حياته في هذه المطاردة. وهذا الحرمان القاتل من الجنس للفرد العربي دفعه إلى الشبق، وإلى الحدة الجنسية، فقرأنا وسمعنا وشاهدنا الكثير من حوادث الاعتداءات الجنسية. كما لاحظنا بأن أكثر الموضوعات قراءة على مواقع الانترنت هي الموضوعات المتعلقة بالمغنيات والممثلات الحسناوات، والمتعلقة كذلك بالأمور الجنسية. والحرمان الجنسي والتسلط الديني على الجنس هو الذي أدى إلى كل هذا.
العودة الى الصفحة الرئيسية