ملامح التجديد التأريخي في الفكر السياسي الشيعي. . والانتفاضة الخضراء على آل سعود

 

علي آل شفاف

Talib70@hotmail.com

 أنتج سوء الفهم في قراءة تراث الأئمة, المتعلق بالسلطة والسياسة لدى الشيعة سلبية مفجعة, في تعامل الفرد والمجتمع الشيعي مع الوضع الشاذ المستدام (أي وضع المضطهد والضحية) الذي عاشوه عبر التأريخ. وقد نشأ سوء الفهم هذا, عن تأويل خاطئ لتعامل الأئمة مع السلطات الحاكمة في زمانهم.

لقد كان للواقعية السياسية لدى الأئمة, ولحسن قراءتهم للظروف الموضوعية ـ الناشئ عن علم ومعرفة متفوقة ـ أثر كبير تمثل في اختلاف تعاملهم (ع) مع سلطات زمانهم, كل بحسب المعطيات الواقعية لزمانه. فالثوابت العامة واحدة لدى الأئمة, ولا ينتج عنها اختلاف في طريقة التعامل مع السلطات الزمنية, إلا إذا أُخِذ الواقع الآني, والظروف الموضوعية بنظر الاعتبار. فاختلاف الأمام الحسن في تعامله مع معاوية, عن تعامل الإمام الحسين مع يزيد, لم يكن لاختلاف ثوابت أحدهما (ع) عن الآخر, بل لاختلاف معطيات الواقع التي حتمت على كل منهما أن يسلك سلوكا مختلفا ـ في ظاهره ـ عن الآخر. وكذا الأمر مع الإمام الرضا (ع), الذي كان بإمكانه ـ وفق النظرة الضيقة التي حبسنا أنفسنا فيها طوال قرون ـ أن يرفض ولاية العهد لإمام (غير شرعي) كالمأمون حتى لو هدد بالموت, فهو ليس أقل إقداما من أبائه وأبنائه (ع), إذا ما قيست الأمور بطريقة تقليدية جامدة. لكنه وافق عليها, ليس خوفا أو استجابة لتهديدات المأمون كما يحاول تصويره بعض المؤرخين أو المحققين, بل رؤية سياسية عميقة وواقعية أيضا.

كان من نتيجة الفهم الخاطئ هذا, أن تصور بعض العلماء, أن الأئمة يعارضون السعي أو الصراع السياسي والعسكري, من أجل الحصول على حق تقرير المصير, وتسلم سدة الحكم, بدعوى أن الشيعة يبقون محكومين حتى ظهور الإمام المهدي (ع). في حين أن إقرار الإمام الباقر ـ مثلا ـ لثورة أخيه زيد, يدل على عكس هذا المفهوم الذي لم تقع فيه "الزيدية"ـ مثلا. وكذا إقرار الإمام الصادق لثورة ابني عمه محمد وإبراهيم, يأتي أيضا إثباتا لكونهم لا يعارضون السعي المشروع للحكم, لكن المعطيات التي تتوفر لدى الإمام تدل على عدم نجاح هذه الثورة أو تلك, لذلك يحذر من عدم نجاحها ولم يعارض أية ثورة بمعنى التحريم الشرعي لها.

وهنا يكمن سوء الفهم, الذي ساهم الكثير من العلماءـ على جلالة مكانتهم العلمية والدينيةـ في نشره وتحويله إلى نص مقدس ساهم في إبعاد الشيعة عن السلطة وزَهَّدَهم فيها. فاستبدلت الحاجة الحقيقية للمجتمع في حكم نفسه بنفسه وتقرير مصيره, بالمعارضة السلبية التي لا تهدف إلى قلب النظام أو الثورة عليه, بل إلى مشاكسته عن بعد, أو عدم الرضوخ له. وكان من المتوقع ـ كنتيجة لهذه السلبية ـ أن تجد فيهم السلطات الجائرة المتعاقبة فريسة ضعيفة, سرعان ما تفتك بها؛ ولقمة سهلة, تعجل في ابتلاعها. وهكذا مرت قرون طوال على الشيعة, وهم يرزحون تحت نير الظلم والقهر والتعسف, بل القتل والذبح والإبادة دون أية محاولة جدية وحقيقية منهم لاجتثاث هذا الظلم من جذوره, أو محاولة المسك بزمام السلطة ـ على أنفسهم على الأقل.

وكان لابد للشعور بالظلم هذا أن يتمظهر بطريقة أو بأخرى . . . فكانت "ثقافة المظلومية" ـ التي تعرضت لها باختصار في عدة مقالات سابقة ـ تمثل التمظهر اللاشعوري (غير الارادي), واللاواعي (غير المعقلن) للغبن التأريخي والظلم المستدام. وبتوصيف بسيط لهذه الثقافة: هي ثقافة التظلم السلبي (بدون محاولة دفع الظلم أو بدون المحاربة الفاعلة للظالم)؛ وهي ثقافة التشكي واستدرار عطف ورحمة من لا عطف ولا رحمة في قلبه. وهي أيضا الإقرار بأن الظلم هو قدر محتوم, علينا التسليم به.

وكان من نتائج "ثقافة المظلومية" الشاذة هذه, أن تفرعت عنها ثقافات ومفاهيم متعددة أحيط بعضها بغطاء ديني أو تبريرات مقدسة, مثل "ثقافة التواكل" التي أدت ـ هي أيضا ـ إلى الزهد في السلطة, تحت مفهوم "الانتظار السلبي" لظهور الإمام المهدي (ع). والذي اجتثته التجربة الايرانية ـ أخيرا ـ من أصوله, حتى شاع بدله مفهوم واع, هو مفهوم "الانتظار الايجابي". الذي أعاد الكثير من الشيعة إلى واقعهم, وعصرهم.

وكان من نتائج ثقافة المظلومية هذه أيضا, أن تحول مفهوم التضحية من دافع قوي لدفع الضر وجلب المنفعة, إلى مفهوم مفرغ من نتائجه العملية, ليكون أقرب إلى العبثية. وقد لعب الكثير من أصحاب المنابر والخطباء دور خطير في تجذير هذا المفهوم السلبي للتضحية حتى عاد الإنسان الشيعي البسيط يردد كلمات دون أن يعي أثرها الإجتماعي والتأريخي. فقد فهمت عبارة أن "القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة" ـ مثلا ـ فهما خاطئا, وحملت أكثر مما تتحمل. إن هذه العبارة تعني أن القتل وتقديم التضحيات يفترض أن يكون في أثناء السعي لتحقيق هدف سام, لكي تكون للمرء كرامة الشهادة. وليس التضحية من أجل التضحية وبخس الإنسان قيمته بنفسه, ليكون أبخس عند أعدائه, وأهون في عيونهم.

فما الهدف الذي نضحي نحن بهذه الأعداد الهائلة من أجله, لاسيما وأنها لم تذهب أثناء قيام حركة من أجل التصحيح أو التغيير ـ مثلا. أي أن هذه التضحيات لم تقدم من خلال تحرك إيجابي, ولم تذهب في قتال ولا نزال؛ وإنما استكانة وسلبية وتسليم, بل التفريط بالنفس وبثمن بخس, أو بلا ثمن أحيانا.

لو لم ترسخ ثقافة التواكل والانتظار السلبي والقضاء والقدر (بمعناه المنحرف الذي يقعد بالإنسان عن العمل), لوجدت ثقافة المواجهة المباشرة و العين بالعين التي هي غريزة إنسانية وفطرة صنع الله الخلق عليها. عندها ـ فقط ـ سيكون تطبيق هذه المقولة صحيحا كوننا نضحي من أجل قضية هي أما سياسية أو اجتماعية أو دينية أو إنسانية. وقبل ذلك كله نضحي من أجل الحفاظ على حياة أبنائنا, أي في صراعنا من أجل البقاء. أما أن نجلس بين أربعة جدران كالخراف التي تنتظر الجزار, ثم يأتي مجرم إرهابي ليقطع رؤوسنا, ونقول أن "القتل لنا عادة" فهذا أمر عجاب!

وبالرغم من التحول (النظري) المحسوس الذي رافق التجربة الإيرانية, إلا أن التراكم التأريخي للسلوك السلبي قد تجذر لدى الغالبية العظمى من الشيعة, ثم تمظهر بالتقادم كأعراض نفسية واضحة ميزت الشخصية الشيعية وتبلورت على شكل سلوكيات اجتماعية وسياسية وفكرية أيضا, طبعت بصماتها على حياتهم ومجتمعهم وتأريخهم.

لكن الأمر الآن يبدو مختلفا, فقد بدأت منذ فترة وجيزة ملامح تطور غير مسبوق في تعامل الفرد الشيعي مع شعوره التأريخي بالظلم الناشئ عن الطوق التأريخي الظالم الضاغط الذي نشأ لأسباب ترجع في أغلبها إلى العامل السياسي, وخصوصا المتعلق منه بالسلطة أو كرسي الحكم.

فقد ظهر حراك غير طبيعي يشير إلى تطور ونمو لنظرة جديدة ولعلها نظرية جديدة يدخل بها مجموعة من المثقفين والشخصيات الشيعية القرن الحادي والعشرين بأدوات عصرية تتمتع بالواقعية والمرونة من أجل التعامل المتفتح والواعي مع معطيات الواقع السياسي خصوصا.

وقد تمخض هذا الحراك عن باكورة أعماله للمرحلة الجديدة, وهي المواجهة الجدية للخطر الحقيقي على المجتمع الإنساني والمسلم خصوصا, وهو خطر الإرهاب الوهابي المدعوم من قبل نظام آل سعود. حيث يمثل هذا الإرهاب إنحرافا في الفكر الإسلامي السامي, الذي جاء به نبي الإسلام (ص). تحولت من خلاله الجماعات التي يفترض بأنها مؤمنة, مسالمة, تدعو إلى سبيل ربها "بالحكمة والموعظة الحسنة", وتجادل مخالفيها "بالتي هي أحسن", إلى مجاميع من اللصوص والقتلة والسفاكين والذباحين والإرهابيين. وهذه كارثة حقيقية ألمت بالإسلام خصوصا, ثم بالإنسانية عموما.

من هنا جاء التحرك الواعي للطليعة الواعية من العراقيين في خارج العراق, للانتفاض بوجه نظام آل سعود الداعم الأول والأساس, لهذا الإنحراف الخطير في السلوك الإنساني الذي يتعارض مع جميع الأديان المنزلة وغير المنزلة.

ومن هنا كانت الانتفاضة الخضراء بوجه الارهاب الوهابي السعودي, انتفاضة على الذات, وعلى السلبية التأريخية التي لم يعد لها محل في عقول وقلوب الجيل المثقف الجديد. كما أنها تعبر عن تحمل هذا الجيل لمسؤوليته الإنسانية بسعيه هذا, لتخليص الإنسانية عامة من شر الإرهاب الوهابي السعودي المستطير. ولكون هذا التحرك ذو بعد إنساني سام فهو ـ بالتالي ـ يحمل المثقفين والسياسيين والمبدعين الآخرين من كل الانتماءات والتوجهات والإيديولوجيات مسؤولية جسيمة في تأدية القدر الخاص بهم من هذه المهمة السامية لإنقاذ البشرية من الانحدار نحو شريعة الغاب.

فلنسقي وننمي هذا الزرع الأخضر الطري الذي زرعه من حركهم الشعور الإنساني والفطري في الدفاع عن المجتمع والإنسانية, لنجعله بمشاعرنا وأفكارنا وأقلامنا " كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء".

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com