تحدثنا في الأسبوع الماضي عن ظاهرة مهمة اليوم في حياة العرب اليوم خاصة، وهي ظاهرة كثرة أسئلة العرب لرجال الدين عن أتفه الأمور، وعن أبسط التصرفات التي يمكن للانسان العاقل البسيط أن يُحسنها، كما يُحسنها أي إنسان في أية بقعة في العالم ممن لم يسمعوا بالإسلام، أو ممن يتخذون من العقل هادياً ومرشداً، دون الرجوع إلى رجل الدين الذي يعتبر في معظم الأحيان أكثر جهلاً من سائل السؤال. وقلنا في الأسبوع الماضي، بأن التجارة بالدين عند العرب المسلمين خاصة، أصبحت على هذا النحو هي التجارة الرابحة، التي يُقبل عليها العالمون وغير العالمين، والشباب والشيوخ، والفقهاء والجهلاء، والأذكياء والأغبياء. والكلُ يسترزق من هذه المهنة (مهنة الدين). فبعد أن كان الدين الإسلامي رسالة توحيد وتحرير ضد الجهالة والشعوذة وأفعال السحرة والدجالين، ودعوة للتفكُّر والتفكير، تمَّ اختطافه وامتطاؤه في هذا الزمان، ليكون عبارة عن مجموعة من الفتاوى الدينية اليومية الاسترزاقية التي تتسم بالجهالة والشعوذة وأفعال السحرة والدجالين.
فما هي الأسباب التي جعلت من رجال الدين في هذا الزمان الرديء والمالح قادة الرُكبان، وطليعة الفرسان، وسَحرة البيان.
هناك أسباب كثيرة لذلك منها:
1- تشجيع معظم الأنظمة العربية القائمة الآن رجال الدين على إصدار الفتاوى فيما ينفع وفيما لا ينفع، وفي المهم والتافه، وفي الصغيرة والكبيرة، إلى درجة أن كيفية دخول الحمام في هذه الأيام أصبحت بحاجة إلى فتوى، وكيفية الأكل تحتاج إلى فتوى، وكيف طبخ الملوخية تحتاج إلى فتوى، وكيفية الاضطجاع تحتاج إلى فتوى، ومشاهدة مسرحيات عادل إمام تحتاج إلى فتوى، وغيرها من توافه الأمور، وتفاصيل الحياة. وهو إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على مدى انحطاط العقل العربي – إن وُجد- وعلى مدى أهمية رجال الدين في حياة العربي الآن في هذا الزمان الرديء والمالح. وهي نفس الأهمية التي كانت لرجال الدين المسيحي في القرون الوسطى وقبل الثورة على الكنيسة، وتحجيمها في القرن السابع والثامن عشر، وحشرها في مهمة واحدة وهي مهمة الهدي والإرشاد. ولم يعد الانسان الغربي بحاجة إلى قنديل القساوسة لكي يجد طريقه الصحيح في الحياة. بينما ما زلنا نحن العرب – مسلمين ومسيحيين – نسترشد بقنديل الشيخ والقسيس لمعرفة الطريق الصحيح، وهو إن دلَّ على شيء - مرة أخرى- فإنما يدلُّ على أننا ما زلنا أطفالاً قاصرين بعقولنا ووعينا وإدراكنا، بحيث لا نستطيع وحدنا تمييز الطريق السليم من الطريق الخطأ. وهكذا تفعل بعض الحكومات العربية، التي لا تتخذ أمراً في السياسة، أو التربية، أو التعليم، أو الاقتصاد، إلا بعد الحصول على ختم رجال الدين في هذا الأمر ومنح بركاتهم. مما يعني أن الحكام الفعليين في مثل هذه الأقطار هم رجال الدين، وأن هذه الدول دول دينية بجداره، ولكن بقشرة مدنية أمام العالم الخارجي، لا تلبث أن تذهب بعد أول (حكة) بسيطة.
2- الفراغ السياسي الذي أحدثه رحيل عبد الناصر في 1970 وأحدثه حزب البعث في سوريا والعراق، بعد أن تحوّل من حزب يدعو إلى الحرية والديمقراطية إلى حزب ديكتاتوري فاشستي نازي مستأثر بالسلطة، ويضطهد القوميات الأخرى (الكرد مثالاً لا حصراً) ويصادر الرأي الآخر، بل يحكم بالإعدام على من يمارس أيديولوجية سياسية مختلفة عن أيديولوجيته الحزبية. ومثال ذلك القانون السوري رقم 49 لعام 1980 ، الذي يقضي بإعدام كل من ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا. والذي ما زال قائماً إلى الآن.
3- خيبة الأمل الكبرى التي تركتها النخب السياسية القومية والاشتراكية والماركسية واليسارية عموماً، منذ فجر الاستقلال في الأربعينات والخمسينات وما بعدها وحتى الآن. وسرقة هذه النخب الحاكمة للأوطان والشعوب، واستشراء الفساد المالي والإداري، مما أفقد ثقة الشعوب بهذه النخب. فبدأت الشعوب تبحث عن خيارات دينية بديلة حتى وإن كانت مزيفة. وآمنت بقلبها وليس بعقلها، وبعواطفها وليس بواقعها أن "الإسلام هو الحل" كما تدعى معظم الأحزاب الدينية السياسية في العالم العربي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين المنتشرة في كافة أنحاء العالم العربي، وفي سبعين بلداً في العالم.
4- انتشار البطالة والفقر، وتقديم الأحزاب الدينية السياسية فرص عمل وقروض ميسرة للفقراء، مما أكسب هذه الأحزاب ورجال الدين العاملين معها تعاطف وتأييد ومساندة الشارع العربي، الذي يتبع من يطعمه لا من يقول له الحقيقة، ويتبع من يكسوه لا من يُعرّي له الواقع.
5- وجود معظم المال العربي والثروة العربية لدى دول كانت في الماضي تستمد شرعيتها من رجال الدين ومن مذاهب فقهية معينة، وليس من خلال التنمية الشاملة التي أحدثتها طيلة نصف القرن الماضي. وقد بقيت هذه الدول رغم هذا الزمن الطويل، ورغم ما أحدثته من تنمية شاملة في بلادها، تستمد شرعيتها من رجال الدين الذين ما زالوا يتدخلون في كل كبيرة وصغيرة ويصدرون الفتاوى اليومية في كل شأن من شؤون الحياة.
6- التوسع في التعليم الديني المتشدد حفظاً وتلقيناً، دون فتح الباب للاجتهاد والرأي الآخر. والسماح – نتيجة لظروف سياسية قاهرة - لفكر الإخوان المسلمين، ولفكر سيد قطب على وجه التحديد، بالتسلل إلى مناهج التعليم الديني وغير الديني، بما يحمل من حقد وكراهية مقيتة ضد الآخر، وضد الغرب خاصة. ولذا، فإن الإسلام السياسي الإرهابي لم ينشأ من الوهابية، ، كما يزعم ويعتقد البعض، وإن كان قد رضع بعض الحليب من ثديها، ولكنه نشأ في رحم وحضن فكر الإخوان المسلمين في الأربعينات. ومن فكر سيد قطب في الخمسينات وبداية الستينات. وهو الإبن الشرعي لفكر وخطاب الإخوان المسلمين، والذي رضع من ثدي الإخوان منذ ولادته حتى فطامه. والدليل التاريخي على ذلك، أن "الوهابية" كانت موجودة وسائدة في الجزيرة العربية منذ القرن الثامن عشر؛ أي منذ قرنين ونصف تقريباً، ولم يتمخض عنها الإسلام السياسي الإرهابي، في حين أن الاسلام السياسي الإرهابي تكوّن، وعشش في الرؤوس والصدور، منذ الستينات من القرن الماضي بعد إعدام سيد قطب عام 1966، وبدأ تطبيقه العملي الإرهابي منذ الثمانينات من القرن الماضي إلى الآن؛ أي منذ ربع قرن مضى تقريباً.
7- وأخيراً، تحوّل الصراع السياسي/العسكري بين العرب وإسرائيل، إلى صراع ديني بعد فشل النخب السياسية القومية والحزبية في حل الصراع العربي- الإسرائيلي سلماً أو حرباً. فتحول هذا الصراع إلى صراع ديني. وقامت المليشيات الدينية المسلحة الفلسطينية بإطلاق الشعارات الدينية على معركة لا تُحسم إلا سياسياً أو عسكرياً وليس دينياً. وما زالت هذه المعركة قائمة. وستظل قائمة إلى يوم يبعثون، في زمن لم تعُد للقوى الدينية أية فرصة بالنصر على الآخر. فالحروب الدينية انتهت بانتهاء الحروب الصليبية منذ قرون عدة. ولكن التيار الديني السياسي العربي، أعاد سيرة هذه الحروب من جديد الآن. وبهذه الإعادة اشتد صوت رجل الدين قوة، وهو الذي أصبح الوقّاد لهذه النار ولهذا الصراع الديني، يمده كل يوم بحطب الفتاوى، لكي يبقى متقداً. وبذا، أصبح رجل الدين هو صاحب القرار السياسي الديني، والذي لم يعد سياسياً بقدر ما أصبح دينياً يمت إلى سياسة ما قبل أربعة عشر قرناً ماضية.
السلام عليكم.
العودة الى الصفحة الرئيسية