اعتقد اننا نحن العرب ومعنا جملة شعوب ومجتمعات هذا الجنوب من العالم لم ندرك بعد مفهوم القوة في التاريخ، ولأننا لا نقرأ التاريخ العالمي وموازين الصراع ولم ندرك ما الذي يريده الاقوياء في هذا العالم الذي تتسارع فيه المصالح وتتضخم عنه قوى الصراع مع تزايد السكان وتقّلص ثروات الطبيعة.. وعليه، فان كل مفاهيمنا تكاد تكون ماضوية بحكم متغيرات العصر .. ولما كانت منظومة الشرق الاوسط غارقة في مشاكلها وتتشكل من مستنقعات داكنة ومن بؤر توتر ساخنة، ومن تراجعات مخيفة في التفكير والسياسات.. ومع زيادة مشكلات المجتمع.. فان ثمة اوراقا يتلاعب فيها الكبار من دون ان نفهم اهدافها وغاياتها مطلقا .. انها اسرار دول لا تريد ان تفصح عن ماذا تريد حقا !!
ان الولايات المتحدة لها (استراتيجية) بامكاننا ان نلمح تطورها التاريخي منذ ان دخلت سلم التاريخ على عهد ودرو ولسن بمبادئه التي اشاعها مطلع القرن العشرين .. وباستطاعتنا الوقوف على الادوار الامريكية في منطقتنا لنعيد قراءتها من جديد على ضوء لا النتائج وحدها، بل الاسباب والظروف كلها ! وكيفية تعاملها مع الكبار ازاء الصغار .. ثم التساؤل عن استراتيجية الحرب الدائمة ، اذ لم نقف على استراتيجيات سلم مطلقا .. ثم التوغل في مقارنة مصالحها القديمة لما قبل الحرب العالمية الثانية مقارنة بتطور مصالحها بعد تلك الحرب وصراعها ايام الحرب الباردة وتفعيل مشروع روزفلت بالتلاعب عالميا (وخصوصا في الشرق الاوسط) من خلال الانقلابات العسكرية وصولا الى القضاء على الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وتبشيرها بالنظام العالمي الجديد .
ان الاستراتيجية الامريكية لا تنتج الاحداث بل تساهم في خلق اسبابها، وهي لا تواجه الابطال، بل تكون مساهمة في صنعهم، ولكنها تسقطهم متى تشاء.. وهي لا تشعل الحروب ، بل تخلق الظروف التي تجعل العالم على حافات الحروب.. وكثيرا ما يقف العالم مندهشا على احداث جسام ووقائع عظام لا يؤمن باسبابها المعلنة الا الساذجون الذين لا يدركون ما الذي يقرر في الدوائر المغلقة والغرف الخلفية !
قبل اشهر، كنت أتصفح وأتأمل ما كتبه ميشال لند Michael Lind في كتابه الاخير " الطريقة الامريكية في الاستراتيجية " The American Way of Strategy وتوقفت في الفصل الثالث عند اسس ومبادئ امريكية يستوجب ان تتفهمها الشعوب والدول والرؤساء وكلهم يتعاملون بالضرورة مع الولايات المتحدة، كي يتعلموا الثوابت الامريكية في الاستراتيجية الدولية التي لا تعرف الا مصالحها اولا واخيرا، وليس لها من وراء حدودها اية خطوط حمراء في ما يتعلق باستراتيجيتها التي تدوم ثلاثين سنة .. ولما كانت امريكا بحاجة الى اختراق العمق الاسيوي عدت حرب فيتنام ضرورة امريكية في سعير الحرب الباردة عهد ذاك ـ على زعم ميشال لند ـ وغدت حرب العراق في العام 2003 ضرورة امريكية ضمن الحرب على الارهاب !
وقبل ايام وقع بيدي كتاب جديد كتبه د. ستيفن ميتز Dr. Steven Metz. بعنوان: " التعلم من العراق: المقاومة في الاستراتيجية الامريكية"
Learning from Iraq: Counterinsurgency in American Strategy والمنشور في نهاية 2006 . لقد جعلتني القضية العراقية امضي في قراءته لاتعلم منه جملة من الافكار التي تخص الاستراتيجية الامريكية ، وهو يطالبها ان لا تبقى في اطار ما هو متعارف عليه ، بل المطلوب اساسا اعادة التفكير في مقاومة التمرد والعصيان الذي سيغزو العالم في القرن الواحد والعشرين .
ان العراق ـ كما يقول ستيفن ميتز ـ ينبغي التعلم منه ، ولم تنفع معه كل نماذج الاستراتيجية الامريكية سواء تلك التي كانت في فيتنام ولا تلك التي استخدمت في البلقان، او تلك التي اندلعت في افغانستان وغيرها. ولعل اهم ما ورد في الكتاب المذكور مطالبة الولايات المتحدة باعادة النظر بالخلفية والمفاهيم الاستراتيجية ضمن الدروس التي اندهش العالم كله عليها وينبغي تجديدها قبل ان يطويها الزمن .. وثمة بدائل تكرسّها دروس التجربة الامريكية في العراق .. اما ما هي هذه " البدائل " ؟ فلا يمكن ان يعرفها احد ابدا .
وعليه، هل كانت تجربة العراق التعيسة قد تبلورت اعتباطا، ام خطط لها في الدوائر المغلقة؟ بالتأكيد انها نتاج صراع اقليمي في المنطقة دام سنوات طويلة وخصوصا بين العراق وايران! واذا علمنا ان ذلك الصراع كان قد خطط له طويلا، فان نتائجه كانت مأساوية. اما الاسلام السياسي الذي انتج الارهاب في الشرق الاوسط ـ كما تقول السياسة الامريكية ـ، فان الاستراتيجية الامريكية قد احتضنت تلك " الظاهرة " القاتلة منذ زمن طويل ، ولم تزل تبارك مخاطرها في اجزاء عدة من العالم الاسلامي. ولا يمكن للمرء ان يتخيّل ان ما تجنيه الولايات المتحدة بتفاقم اخطائها التي قد تتحول الى خطايا لا يمكن اصلاحها او حتى تداركها .. انما هي اكذوبة لا يمكن ان يمررها او يسوقها الا الامريكيون. وعليه، ينبغي اعادة النظر من جديد بالحرب الامريكية اليوم ضد الارهاب لمعرفة من صنع الارهاب اصلا في المنطقة؟ ومن اذكاه؟ ومن قوى نفوذه؟ ومن يرّوج اليوم للديمقراطية الزائفة المختزلة بصندوق انتخابي وحزب طائفي بلا اي مشروع وطني! بلا اي ارادة مستقلة؟
واخيرا، مطلوب منا نحن العرب ان ندرك خفايا ما يحدث من دون التمسك بظواهر الامور، فما خفي كان اعظم دوما.. مطلوب منّا ان ندرك ان للولايات المتحدة استراتيجية كبرى تحكم عملياتها، وهي تستعد اليوم لتجديدها فالعام 2009 على الابواب بعد ان مضى قرابة ثلاثين سنة على العام 1979 ! فهل يدرك القراء الكرام فحوى ما اقول؟ انني لا اشك في ذلك!!
العودة الى الصفحة الرئيسية