عباد الأصنام

 

 

محمد علي محيي الدين

abu.zahid@yahoo.com

 أستبشر العراقيون خيرا بسقوط الصنم الأكبر، وملأت الفرحة قلوبهم وهم يشاهدون تماثيله الكثيرة تتهاوى كما تهاوت أصنام قريش،واغرورقت الأعين بالدموع وهي ترى "أبو تحسين"يهوى بنعاله العراقي على ذلك الوجه الكالح الذي أذاق العراقيين الويلات،وتجسدت مأساة شعب كامل ،وهو يهب بقضه وقضيضه لتحطيم جدارياته التي ملأت الأزقة والشوارع والساحات العامة،وندر أن تخلوا مدينة أو حي من هذه الجداريات اللعينة التي حكت قصة شعب ذاق الويل والثبور طيلة خمسة وثلاثون عاما وهو يرزح تحت نير هذا الجلاد الأهوج،لتذهب تلك النصب والتماثيل إلى مزبلة التاريخ..وجدلية الحقيقة الخالدة بأن الشعب باق،والطغاة راحلون، يرددون مع فارس الشعر باق وأعمار الطغاة قصار،وها هو أبن القادسية مائل في مخيلتي وهو يحطم بأزميله ومطرقته لأيام التمثال الكبير لصاحب القادسيات المشئومة التي لم نجن منها غير الدمار والخراب، وملايين الشهداء والمعوقين والأسرى والمفقودين من أبناء شعبنا بكل أديانه وطوائفه وقومياته، لم يفرق بين العربي والكردي،أو المسيحي والمسلم، أو السني والشيعي، ووزع مكارمه الإجرامية على الجميع دون فرق بين طائفة وأخرى،وساوى بينهم بالقتل والتدمير والاضطهاد، الذي ليس له مثيل في التاريخ، ولا زالت ترتسم في مخيلتي صورة الحبل الذي شد لتمثال الطاغية، واعتلى العراقيون الصنم ليحكموا ربط الحبل برقبته لتسحبه الدبابة الأمريكية السوداء، ويتهاوى على الأرض،كما يتهاوى الجبل الجليدي وتتدحرج كتله يتطاير منها الرذاذ،ليتسلمه الشعب،ويسحل في الشوارع تتلقفه الأحذية بصفع متلاحق،أحال ذلك الجلمود إلى مزق ،و..هذا العراق وهذه ضرباته ،كانت له من قبل ألف ديدنا،ولكن الفرحة لم تكتمل،وماتت الضحكات على الشفاه المقروحة،وهي ترى الأصنام الجديدة ترتفع لتناطح السماء،وعادت الصور المختلفة تملأ الشوارع والأزقة والساحات العامة،دون ضابط أو معيار،مما أثر على الجمالية المرجوة للمدينة العراقية، ونتيجة الفوضى العارمة التي مدت إطنابها،نصبت التماثيل والجداريات،دون الاحتكام لأسس جمالية أو ذوقية،ناسين أو متناسين أن هذه الأماكن ملك للجميع وليست حكرا على طائفة أو فرد، ولا يجوز لأحد اغتصاب هذا الحق ومصادرته،وهو ما ضمنته الشرائع السماوية والقوانين الأرضية،وكان على وزارة الثقافة صاحبة الحق القانوني،أن تفرض قوانينها بموجب التعليمات التي سنتها الحكومة العراقية،التي جعلت الأمر حصرا بهذه الوزارة أو مشاركة مع أمانة العاصمة وبلديات المدن.

  ولو أنحصر الأمر بالجداريات والنصب لكان ذلك هينا،ولكن هذه التداعيات الخطيرة انسحبت على كل شيء،فقد غيرت أسماء ألأحياء والمدن،وأسماء المستشفيات والمدارس والشوارع، وجيء بأسماء لرموز نكن لها التقدير والاحترام والإعجاب،ولها تأريخها الذي نعتز به،ولكن ما تجاوز حده ظهر ضده،فلوا أجرينا إحصائية بسيطة لوجدنا أن المئات من الأحياء والمدارس والمستشفيات والمدن قد سميت بأسماء أعادت إلى الأذهان ما كان يعمله المقبور عندما سما الكثير من المدن والأحياء باسمه،وأنشأ في كل محافظة مستشفى بأسمه أو أسماءه الحسنى التي زادت على أسماء الله جل جلاله،في الوقت الذي يزخر فيه تاريخ العراق المعاصر بالكثير من الرموز والأسماء التي قدمت ما قدمت في المجالات الإبداعية المختلفة،كان حريا بنا عدم تجاهلها وأن يكون لها نصيبها من الذكر والتكريم،لأن العراق قدم الآلاف من القادة الوطنيين الشرفاء،الذين ناضلوا من أجل العراق وشعبه،ولكن لم يذكرهم ذاكر، أو تسمى بأسمائهم مدرسة أو حي أو مستوصف أو شارع، رغم أنهم كانوا علامات مضيئة في تاريخ العراق القديم والمعاصر،وأن تجاوز الشخصيات الوطنية،والانصراف لرموز أخرى ليس له ما يبرره ألا الإقتداء بالنزعة الدكتاتورية الأستئثارية التي تلغي الآخر،وتأخذ لنفسها حيزا أكبر من حيزها وحجما لا يوازي حجمها،وهذه العقلية الشمولية التي حاربها الجميع،عادت من جديد لتأخذ الصدارة ممن سبق له أن عابها وحاربها وناضل من أجل إسقاطها،وحين واتته الفرصة عمل ما كان يعيبه،وربما زاد على عمل الطاغية مرات ومرات.

  ونتساءل لماذا لا يطلق أسم القائد الوطني يوسف سلمان يوسف(فهد) على شارع في مدينته الناصرية،أو تسمى الساحة التي أعدم فيها مع رفيقيه بساحة الشهداء،ولماذا لا تسمى مدرسة أو شارع في مدينة النجف الأشرف بأسم القائد الشيوعي البارز سلام عادل ،الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يلعن البعث ومن أوجد البعث،وقتل على أيدي انقلابي 8 شباط الأسود، أو تقوم محافظة النجف بإطلاق أسم الشهيد حسين الشبيبي أو الشيخ رضا الشبيبي الذي شارك في النضال منذ عشرينات القرن الماضي، أو شاعر العرب ألجواهري الكبير،وشاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم،والنطاسي الكبير كاظم شبر وغيرهم من أعلام النجف الذين شهدت لهم سوح النضال بالمواقف الرائعة والسيرة الحميدة،أو تقوم أمانة بغداد بإطلاق أسماء مصطفى جواد أو جعفر أبو ألتمن،أو كامل الجادرجي، أو العلامة ألبدري،أو مهدي البصير،وراجي التكريتي،و إبراهيم صالح شكر،أو الملا عبود الكرخي،أو الدكتور عبد الجبار عبد الله السام، وغيرهم الكثير الذين ناضلوا وضحوا من أجل العراق وأهله،أهذا هو العرفان بالجميل،وتكريم الشهداء والمناضلين في العراق الجديد،ألا يستحق هؤلاء الأماثل التكريم والإجلال جزاء ما قدموا لوطنهم وشعبهم،وكافحوا كفاح الأبطال ذودا عن المباديء والقيم السامية.

 أن تجاوز الرموز الوطنية والديمقراطية أمر لا يصح السكوت عليه، أو الإغضاء عنه،فمن هؤلاء تعلم الناس دروس الوطنية الحقة والتضحية والفداء،على عكس الذين أنزوا في الزوايا المنسية،ولم يشاركوا أبناء شعبهم في النضال من أجل التحرر والديمقراطية، وأن الشعب العراقي يعرف ولا شك من رفع السلاح، أو ناضل الحكومات المتعاقبة،ومن أقتعد داره يأكل وينام ويعيش لنفسه راضيا لها رغد العيش والراحة البعيدة عن الهموم العامة،وكيف نتجاوز من ضحى بالغالي والنفيس ،ومن وقف على التل متفرجا،ليرى النصر لمن يكون،متذرعا بأفكار ضبابية وجدت عونا للجبناء والمتخاذلين،يختبئون خلفها ويبررون تصرفاتهم التي تتعارض وأماني وتطلعات الشعوب.

  وكيف ترضى الحكومة التي ترفع شعارات الديمقراطية والتعددية إلغاء الآخر،واستحواذ جهة على جهة وفرض إرادتها،وما أدرى هؤلاء بأن الشعب العراقي يرتضي هذه الدكتاتورية المتلفعة بأبراد الديمقراطية، والمغلوب على أمره لا يستطيع الاعتراض،والمعترض سيكون مصيره مصير من أعترض صدام حسين وصح فينا المثل (يم حسين كنت بواحدة فأصبحت باثنين) فقد كانت صورة الطاغية تماسنا وتصبحنا وأنيستنا أينما حللنا وذهبنا،وهاهي صور الآخرين تفرض علينا على غير رغبة منا، لا انتقاصا من شأن هؤلاء، ولكن لهذا التقليد الأعمى لما يفعله الطغاة(وألما رضه بجزه رضا بجزه وخروف).

  أن شهداء العراق بعربه وكورده وتركه،مسلمين ومسيحيين وصابئة وأيزيديين ،هم سواسية في الحقوق والواجبات،ولا يوجد فاضل أو مفضول،وكلنا لأدم وأدم من تراب،ألا إذا كان هؤلاء يرون أنهم ليسوا من طينتنا،ومن غير عالمنا،فعليهم أن يرحلوا إلى عالمهم الخرافي،ويتركونا أحرار نعيش في هذا العالم،ولله در ألجواهري،وهو يخاطب الأدعياء الذين حسبوا أنفسهم فوق الآخرين،وحصنوا أرواحهم في بروج محصنة،وجعلوا من قوميتهم امتيازا إلهيا كما يقول العروبي خير الله طلفاح،(كنتم خير أمة أخرجت للناس أولئك أجدادي)وكأن الأمم الأخرى تمشي على أربع وهو يمشي بعربة،ودمه أحمرا قانيا ودماء الآخرين سوداء داكنة:

وتنابزوا بالجاهلية شجـــــــها     مــــن قــبل نـور الفكر والإسـلام

فأولاء أعراب فكل محـــــــرم    حـــــل لهم وأولئكم أعجــــــام

وأولاء أغمار فـــــلا رأس ولا    كعب ولا خـــلف ولا قـــــــــدام

وأولاء أشرار لأن شعارهـــــم    بيـــن الشعوب مــــــــودة وسلام

وكأن من لم يحو تلك وهـــــذه    وأن استقام بهيمة وســــــــــوام

لزكا أبو لهب وكـــــان مرجما    ودنا صهيب وأنـــــــــــه لإمـام

سلمان أشرف من أبيكـــم كــعبه   وعصــام ما ولــد الــجدود عصــام

ومحمد رفعة رسالة ربــــــــــه   كفاه لا الأخــــــــوال والأعمام

ولقد يذل مسودا أعمامــــــــه   ولقــــــــــد يسود عشيرة حجام

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com