|
قلت في واحدة من مقالاتي ان الفكر السياسي المعاصر بدأ يتباعد عن كل المفاهيم القديمة بين الشرق والغرب، فهو فكر حيوي متجدد لا يعرف في تطبيقاته اي حدود او سدود في عمله على ايدي من يؤهل نفسه سياسيا واستناده الى مفاهيم وآليات متطورة ربما تكون متباينة في الاساليب ولكنها تجتمع في الاسس والقواعد والمفاهيم .. فلا يمكن للاحزاب السياسية الحقيقية ان تعمل ابدا في غير اطارها الوطني المؤمن بالفصل بين الدين والدولة والفصل بين السلطات وجعل الدولة في خدمة المجتمع بدستور مدني يحدد الحقوق والواجبات ، وتكوين حياة مؤسسية مدنية لا يتدخل فيها رجال الدين الذين لهم واجباتهم المحدودة وحدود تفكيرهم وحدود عملهم وتقاليدهم وخطوطهم وممنوعاتهم .. وان تاريخنا في كل منطقة الشرق الاوسط لم يخل من مؤسسات اهلية وبلدية وسياسية في نظم زعاماتية مشيخية واميرية وملكية وسلطنية وشاهانية وخانية .. كانت بعيدة كل البعد عن المرجعيات الدينية التي باتت اليوم تفرض نفسها في الميدان كقوة مسيطرة بديلا عن المؤسسات السياسية واحتكارها وقيادتها وخلق عالم متشابك من التناقضات . السؤال : ما القصد بالفصل بين الانتخاب والمبايعة ؟ ثمة قطيعة بين الشورى والديمقراطية ، ثمة تباعد بين رأي " اولو الامر " وبين " ارادة الشعب " .. بين رأي مرجع معين وبين الرأي العام .. وان بونا كبيرا يكمن بين احزاب دينية تنطلق من الشرع واخرى سياسية تنطلق من القانون العام (الدستور)، والمفارقة ان الاولى تسمى نفسها بـ " سياسية" في حين الثانية لا يمكنها ان تكون دينية بأي شكل من الاشكال .. وفي حياتنا العربي ، غدت المفاهيم متداخلة والمصطلحات مستلبة الى درجة لم يعد تدرك ما لهذا وما لذاك .. تجد البرلمانات العربية يزيّنها النص القرآني المقدّس (وامرهم شورى بينهم) ولكن الاليات المستخدمة في قاعات البرلمانات لا تمت للشريعة بصلة، ذلك ان الشورى هي غير الديمقراطية ، والمبايعة احدى آليات الشورى لما يقرره أهل الحل والعقد ـ كما وصفت في الاحكام السلطانيةـ ضمن شروط يتساءل الناس: هل يمكن لها ان تستقيم اليوم مع الاليات الحديثة التي تستخدمها النظم الديمقراطية في العالم وخصوصا في الفكر السياسي الليبرالي بشقيه الاوربي القادم الينا من تضاعيف ما بعد الثورة الفرنسية او الامريكي المستحدث لما بعد الثورة الامريكية في التاريخ الحديث!؟؟ في عالمنا العربي والاسلامي اختلطت الاوراق بشكل بات التمييز صعبا جدا بتداخل المفاهيم السياسية واختلاطها في الثلاثين سنة الاخيرة وخصوصا بعد الثورة الدينية في ايران عام 1979، وباتت التيارات الدينية بمجمل احزابها وتشكيلاتها منقسمة على نفسها بل ومتصارعة في ما بينها ، وكلها تسعى الى السلطة بأي ثمن ، او انها تطمح للبقاء في السلطة بأي وسيلة .. ولما كانت آليات الديمقراطية طيعة جدا ومباشرة ، فلقد استغلت اسوأ استغلال من اجل فرص الحكم بالـتأثير على الجماهير ومن خلال صناديق الانتخابات.. ولم يلتفت احد الى ما يطرحه بعض المفكرين العرب منذ ربع قرن قائلين ان " الانتخابات" هي غير " المبايعة" ، وان " الديمقراطية" هي غير "الشورى"، وان " ولاية الفقيه " هي غير " ارادة الشعب " وان " الامام " او " المرجع " او اي رجل مقدّس لا يمكنه ان يكون ممثلا لـ " السلطة التشريعية " .. ولا علاقة بين الاثنين أبدا، اذ لكل اداة حاضنتها، ولكل فكر مرجعيته .. وهذا ما ادى الى تشويه الصورة السياسية واختلاط الامور اليوم وهذا ما اضر بالدين وبصورته النقية ومضامينه الجليلة.. ومما زاد الامر خطورة ان كل من يتحدث بمثل هذه " القطيعة " يتهم من قبل المناوئين المخالفين بشتى التهم الجاهزة تصل الى حد المروق والتكفير.. وغدت تتكوّن في حياتنا غابة من التناقضات بعد ان زحفت على غابة من الشعارات التي ازدحمت بها حياتنا العربية لما بعد الحرب الثانية وتعاظم المد القومي الثوري الذي كانت له مؤدلجاته وافكاره اثر زحفه على جيل الليبراليين الاوائل في ما بين الحربين الاولى والثانية! نحن ازاء مأزق حقيقي، والمستغرب له ان الغرب يتعامل مع واقعنا بكل تناقضاته من دون ان يدرك الفرق في الظروف ولا الفروق في المرجعيات ولا التصادم في الحالات وما تنتجه التناقضات المختلفة، بل وساهمت استراتيجيات امريكية على امتداد ثلاثين سنة بخلق هذه التناقضات.. والانكى من ذلك ان الاحزاب الدينية لا تستطيع ابدا تقديم اي برامج سياسية وحضارية حديثة. سؤال يثير الانتباه حقا: اذا كان العديد من المفكرين والكتّاب الغربيين قد ادرك عمق الهوة بين تناقضاتنا، فلماذا تبارك السياسات الغربية نتائج حصلت عليها الاحزاب الدينية، بل ودعمتها في الوصول الى السلطة، او حتى في وجودها في السلطة وهي تعلم علم اليقين انها استخدمت " الديمقراطية" غطاء جائرا لذلك، فهي لا تسمح حتى بالشراكة، بل وتحارب الاحزاب السياسية حربا لا هوادة فيها! هناك من يتعّجب قائلا : كيف لليابان وكوريا قد نجحتا في استيراد الديمقراطية ونحن نحّرم استيرادها وان اخذنا بها فشلنا ؟؟ هنا لابد للمرء ان يدرك بأن اختلاف الواقع وتباينه بين بيئات الشرق الاقصى عن بيئات الشرق الاوسط جعلت المفاهيم الغربية تتطور هناك في اقصى الشرق اسوة بكل من المعرفة والنظم والمعلومات وآليات التفكير .. في حين ان الاخفاقات في الشرق الاوسط قد سببتها موجة التناقضات التي خلقتها ازدواجيات التفكير والاخذ بوسائط ضمن مرجعيات قديمة .. فالاحزاب الدينية في الشرق الاوسط لا تؤمن بالمجتمعات المدنية بل تؤمن بالجماعات الدينية وهي تستغل الانتخابات وسيلة ولكنها لا تؤمن بالحريات.. وهي تتمتع بمنتجات العصر التكنولوجية ولكنها لا تؤمن بالحداثة ولا الفكر المعاصر .. وهي تعتمد حالات سياسية معينة من التراث القديم وتشمئز من اية فلسفات سياسية حديثة .. وهي تروج لشعارات ومطلقات مثالية ولكنها لا تؤمن بالفلسفة النسبية والنظريات العلمية .. وهي لا ترى طريقها الى المستقبل الا من خلال الماضي ، اذ لا تبصر اي رؤية عملية للمستقبل، ولم نجد اي رؤية مستقبلية ضمن برامج عملية وحلول علمية لمشكلات العصر .. وهي تفاقم من تناقضاتها بانقساماتها الطائفية والمذهبية والسلفية والجماعاتية ولكنها لا تؤمن حقيقة بالاوطان والمشروعات السياسية .. انها في قلب ازمة الواقع بكل معضلاته ومنتجة لغابة شرسة من التناقضات ! فهل سيتغيّر الواقع ؟ نعم ، انها القطائع وتغيير كل النظم الداخلية للاحزاب وتنمية التفكير السياسي ؟ ان الخلاص لا يحصل الا بخلق نقيض النقيض في كل واقعنا ، وهذا لا يحدث الا بتغيير دستوري وقانوني وتربوي وسياسي وثقافي جذري في المفاهيم والرؤى والانظمة الداخلية والايمان بالحريات ومتغيرات العصر .. وسيأخذ ذلك زمنا طويلا!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |