|
ظاهرة الفساد ليست وليدة العراق الجديد، أو نتاج العهد الحالي، بل هي أرث بغيض ورثناه عبر قرون وقرون، ولكنه تفاوت في عهد عنه في آخر، وأختلف من زعيم إلى غيره، لذلك لم يظفر العراق بصفحة بيضاء ناصعة في النزاهة، إلا في عهد شهيد الوطنية الزعيم عبد الكريم قاسم،الذي أصبح مثلا في العفة والنزاهة يندر وجودها بين الزعماء، ورغم ذلك فأن عهده لم يخلوا من فساد مارسه أيتام العهد الملكي، وبعض ضعاف النفوس، ولكن الفساد المالي والإداري هذه الأيام أخذ مديات خطيرة،ونحى باتجاه يندر وجوده في أي عهد من العهود، فقد ندر الأمناء إلا حفنة قليلة لها توجهاتها الوطنية المعروفة، لم تنغمس في هذه القذارة، فيما تمرغ فيها الكثير من الرموز التي كانت تحضا بالإكبار والإجلال،وسقطت الكثير من العمارات الشامخة التي كان الناس يتوسمون فيها الأمانة والصدق، حتى صار من المستحيل عد الفاسدين وإحصائهم، لذلك أخذ الناس يشيرون الى الأمناء ، فكانوا قلة قليلة الى جانب المفسدين. وأسباب استشراء الفساد هذه الأيام،طبيعة الحكم القائم في العراق،فبناء هرم الدولة على المحاصصة الطائفية والقومية والفئوية،حمل في داخله بوادر فسادها،لعدم أتفاق هذه القوى على هدف واحد أو رأي موحد،فالجميع يحاول تهميش الجميع،والكل يحارب الكل،والدولة الحالية لا تختلف عن ساحات المصارعة، التي يحاول الخصم فيها إسقاط خصمه والقضاء عليه،ليكون هو بطل الساحة والميدان،ولكن الجميع متفقون على إشاعة الفساد وبناء قواعده على أسس متينة،تكفل بقاءه ونمائه،وكل ذلك بسبب الطائفية وفقدان الشفافية،وعجز مجلس النواب عن إصدار تشريعات تحد من ظاهرة الفساد،لأن أكثر النواب هم المستفيدون من هذه القوانين، التي تبعد عنهم سيف القانون، ومشاركتهم لأركان السلطة التنفيذية في نهب المال العام، وأشاعته بين المتنفذين. والعقبة الكأداء التي تواجه هيئة النزاهة– على فرضية نزاهتها– على ما يقول منظريها، المادة (136) الموروثة من النظام السابق،التي تعطي صلاحية للوزير بإيقاف الأجراآت القانونية بحق منتسبي وزارته،فهذا الكارت الأحمر يشهره الوزير للحفاظ على شركاءه في السرقة والابتزاز أذا كشف أمرهم،مما أعاق القضاء العراقي –المعاق أساسا-عن إصدار العقوبات بحق المفسدين،وإغلاق آلاف القضايا المثيرة التي تجاوزات مليارات الدولارات،رغم أن الجمعية الوطنية المنحلة،ومجلس النواب الحالي أصدرا قانونا بإلغاء المادة المذكورة،إلا أنها لا زالت سارية المفعول لاستفادة الزعامات العراقية منها،ونفاذهم من خلالها،واستمرارهم بالنهب العلني لثروات العراق،ورغم إعدام رأس النظام البائد،إلا أن قراراته الثورية المهمة التي يستفاد منها الحكام الجدد لا تزال سارية المفعول،رغم إجحافها وعدم ملائمتها لبناء العراق الجديد. والغريب أن الكتل البرلمانية ذاتها تقف بمواجهة القضاء العراقي إذا حاول القيام بواجباته،فالقضاء عاجز عن محاسبة أي طرف من الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية،لأن ذلك يعني في المنظور العراقي الاعتداء على الطائفة التي ينتمي إليها الفاسد،وبما أن الطائفة يجب أن تكون بمنأى عن النقد،وأن تكون بحرز حريز من الاتهامات ، فعلى القانون أن ينحني أمام قدسيتها التي لا يأتيها الباطل من خلفها أو من أمامها،فالطائفة فوق القانون ولا سيء يعلوا عليها في موازين الحياة. وقد أثيرت قضايا فساد معروفة،جرى من خلالها محاسبة بعض المفسدين،وأثارتها لم تكن لأسباب تتعلق بالوطنية والنزاهة والإخلاص كما يتصور البعض،أو للحفاظ على المال العام كما يقولون، فقد كانت وراء أثارتها دوافع سياسية بحتة،جرى اختيار توقيتها في ذروة الانتخابات العراقية في محاولة لتشهير ببعض القوائم،وإسقاطها بنظر المواطنين،فيما أثبتت التحقيقات اللاحقة بطلان هذه التهم وزيفها ،كما هو الحال في قضية الوزيرة ليلى عبد اللطيف،التي ثبتت براءتها من التهم التي ألصقت بها لأسباب دعائية،وأثيرت من خلال وسائل الأعلام،وسكتت ذات الأجهزة التي طبلت لهذه الفضيحة عن الإشارة الى براءتها،رغم أن الآلاف من الفاسدين لا زالوا يتمتعون بالحماية من كتلهم القوية،ولا زالوا يمارسون أعمالهم علنا وفي رائعة النهار. والأمر الجدير بالإشارة، أن الكتل البرلمانية يجب أن تكون هي المسئولة عن نزاهة مرشحيها،سواء في البرلمان أو السلطة التنفيذية، فالوزير الذي ترشحه كتلته يكون معروفا لديها بماضيه الزاهر وحاضره الناظر، فإذا ظهر عنه فساد أو أفساد، فأن كتلته هي المسئولة عنه، ويجب محاسبتها على سوء اختيارها بحرمانها من ذات الوزارة وإحالة رئيسها الى القضاء بتهمة الشراكة أو الإهمال أو التقصير، ولكن المثير في الموضوع أن بعض الكتل بما لها من تأثير على سلطة القرار، تحاول الإبقاء على الشخص الفاسد، والدفاع عنه حفاظا على سمعتها واعتدادا بكرامتها، التي يجب أن تكون فوق الاعتبارات والقوانين. ولو أجرينا أحصا آت بسيطة من خلال الأضابير الموجودة في مفوضية النزاهة،لوجدنا الكم الهائل من القضايا الموقوفة،بسبب المادة السالفة أو هروب الفاعلين،أو لمؤثرات أخرى،مما ينذر بكارثة،تجعل من المستحيل القضاء على المفسدين،وربما ستستمر هذه الفوضى لسنوات طويلة،لامتداداتها وتشعبها وسريانها في كل مفاصل الحياة،لأن الأحزاب الفاسدة هي التي ستبقى مهيمنة على مقدرات البلاد ،بما تمتلك من إمكانيات مادية هائلة،وامتدادات بعيدة الغور،في المؤثرات المعروفة على سير العملية الانتخابية،وقدرة على شراء الذمم،وتغلغل في الدوائر والمؤسسات والهيئات،لوجود شبكات واسعة مرتبطة بعضها بالبعض الآخر،مما يجعل القضاء عليها وسحب البساط من تحت أقدامها ليس من السهولة بمكان،إلا باحتلال جديد يقلب الموازين رأسا على عقب،أو إذا تهيأت قوة قادرة على أجراء تغيير جذري في بنية الدولة العراقية،التي بنيت على أسس خاطئة،لا يمكن للعمليات الترقيعية أصلاحها،دون اللجوء لاستئصالها بالقضاء على مسببات وجودها،وهذا ما يتطلب إمكانات ليس بمقدور القوى المعارضة إيجادها،للظروف الاستثنائية التي يمر بها العراق. ولعل قمة الفساد المالي،وصوله الى صلب الهيئات الرقابية،فمجالس المحافظات المنتخبة وفق الآليات الديمقراطية البائسة،تعج بالفاسدين الذين مدوا شباكهم بمختلف الاتجاهات،فلا تمر شاردة أو واردة في المحافظة دون موافقتهم،مما جعلهم الحكام المستبدين في الهيمنة واللعب بمقدرات المحافظة،وهيئ لهم الانغماس في الفساد المالي لعدم وجود سلطة أعلا قادرة على محاسبتهم،لهيمنة جهات فاعلة على تلك المجالس بحصولها على الأكثرية التي تؤهلها الانفراد باتخاذ القرارات،مما يجعل القرارات الصادرة لا تخرج عن توجهاتها ،أو تعبر عن غير رغباتها،فكان لتدخلهم السافر في كل الشؤون أن جعلهم القوة المهيمنة القادرة على إخضاع الدوائر لسيطرتهم،فكانت مشاريع الأعمار زاد المتقين،وقضية رئيس مجلس محافظة نينوى أثيرت بعد أن بلغ السيل الزبى،وظهرت الرائحة في كل مكان،وما يجري في المحافظات الأخرى يجري في ذات الإطار،فالجميع يعلم بالصفقات المشبوهة،والسرقات المفضوحة،ولكن الشعب مسلوب الإرادة غير قادر على المواجهة بسبب الهيمنة المفرطة للقوى السياسية الحاكمة في المحافظات،وانتشار عصابات القتل والجريمة القادرة على تصفية المعارضين،وما حدث في كربلاء خير دليل على ما وصلت إليه الأمور،فقد قتل مسئول هيئة النزاهة في مجلس المحافظة،بعد كشفه الكثير من قضايا الفساد التي تعج بها المحافظة،وذهب دمه هدرا بين القوى السياسية المتصارعة في المدينة. أن الفساد المالي والإداري في العراق وصل الى وتائر عالية لا يمكن السكوت عنها،رغم أن أحد كبار المسئولين بررها قبل أيام وأعطى لها أسباب تنبئ عن عقلية مريضة غير مؤهلة لقيادة بلد،وإيصاله الى بر الأمان،فقد قال أن الأحزاب تشعر بانعدام الثقة،وعدم قدرتها على الاستمرار بالحكم،فتحاول الحصول على ما يضمن بقائها وديمومتها،فتدخر ما تستطيع ادخاره من أموال لضمان مستقبلها على البقاء،وهذا التبرير الواهي يعكس التركيبة المصطنعة للأحزاب العراقية المهيمنة على السلطة في العراق،التي شيدت أركانها على أسس فاسدة،مما ينبئ عن عظم الكارثة المحيقة بالعراق،ولو طبقنا قانون من أين لك هذا،لانهارت الكثير من الصور والرموز التي أحيطت بهالة من الإكبار والإجلال،وعسى أن يكون في القوى الوطنية من يستطيع أن يقول(فلان حرامي).
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |