|
محمد جواد مجيد ألشريفي في خمسينيات القرن الماضي، كان للحزب الشيوعي العراقي، امتداداته العميقة في الخارطة السياسية العراقية، فهو الحزب الوحيد الذي يمتلك تنظيما شعبيا قوي، وجماهيرية كبيرة، رغم وجود أحزاب أخرى في الساحة السياسية، ألا أنها أحزاب صورية، ورجال صالونات مكيفة، لم ينزلوا إلى أوساط الجماهير، فكانت قيادات أسمية وشخصيات فكرية واجتماعية، ليس لها الامتداد الجماهيري الملحوظ، ولن تستطيع مجتمعة أخراج مظاهرة مهما كانت صغيرة، أن لم تكن غير مؤهلة أصلا لمثل هذه النشاطات، في الوقت الذي يمتلك الحزب الشيوعي جماهيرية فاعلة قادرة على أحداث التغييرات المطلوبة للعمل الحزبي، لذلك كان الحزب يتصدر المظاهرات والإضرابات والأعتصامات، ويميد الأرض تحت أرجل السلطة الملكية العميلة، فاستطاع إسقاط وزارات، وتغيير حكومات ، وأشاع في الشارع السياسي لغة سياسية غير مألوفة سابق، مما حدا بسلطات العهد الملكي إلى تضييق الخناق عليه، ومحاولة الحد من انتشاره، فكانت الاعتقالات التي طالت أعضاءه ومناصريه، والمحاكمات الصورية التي تصدر الأحكام القاسية بحقهم، وإعدام قادته في سابقة جديدة في العراق، وإطلاق النار على السجناء الشيوعيين، وقتل بعضهم، وكان ذلك محط أعجاب الشعب العراقي، مما دفع الكثيرين للانضواء تحت لواءه، والانتماء إليه، رغم الصعوبات والعراقيل التي تواجه أعضاءه، وقد وصلت تنظيماته أقاصي الريف العراقي، حتى ندر أن تجد قرية تخلوا من شيوعي أو أكثر. في هذه الفترة، كان الرفيق محمد جواد ألشريفي، طالبا في دار المعلمين الابتدائية، وكانت الدار تزخر بالكثير من الطلبة الشيوعيين، حتى قال وزير المعارف آنذاك، "أننا نخرج شيوعيين ولا نخرج معلمين"، فكان له أن أنتظم في أحدى الخلايا ليقوم بواجبه الوطني في النضال من أجل تحقيق أماني الشعب، والمشاركة في المظاهرات العارمة التي قادها الحزب الشيوعي في استنكار العدوان الثلاثي على مصر سنة1956، لذلك ما أن انبثقت ثورة تموز1958 حتى كان من أوائل الساعين لبناء الحزب، وإرساء دعائمه التنظيمية على أسس متينة، بعد التوسع الهائل في عضوية الحزب، وانتماء الآلاف لصفوفه في فترة قياسية، جعلت قياداته الميدانية عاجزة عن تنظيمها على أسس شيوعية سليمة، وكان لثقافته ومعلوماته السياسية وسعيه لتطوير قابليته الفكرية، وما يتمتع به من سمعة طيبة في صفوف التعليميين، وعلاقاته الاجتماعية الواسعة ورصيده الشعبي، أثرها في أنماء الحزب ورفده بالعناصر القيادية المؤهلة لإعادة التنظيم، فقام هو وزملائه ببناء الخلاي، وتمكنوا من جلب الجماهير للحزب حتى أصبح أعضائه والمنضوين تحت لواء منظماته الجماهيرية، التي يقودها ويشرف عليها أكثر من 90% من سكان المدينة وأريافه، وكان المناوئين للحزب من بعثيين ورجعيين يعدون على الأصابع. ولمواجهة هذا المد الشيوعي الجارف، حاولت القوى اليمينية والرجعية والجماعات الإقطاعية والمتضررين من الثورة، مواجهته بالوشايات والمؤامرات، والدعايات التضليلية الباهتة، يعاونهم نفر من أصحاب الوريقات الصفراء المتضررين من الوعي الشعبي الذي بدء يسود الشارع العراقي، فقام نفر من الإقطاعيين والملاكين، يعاضدهم في ذلك بعض المدعين القوميين، بتشكيل اتحاد للجمعيات الفلاحية، يقوده نفر ضال من أبناء الشيوخ ورجال الإقطاع، وكان لهؤلاء علاقاتهم بالحكام المحليين، لوجود الكثير من الموظفين من بقايا النظام البائد الذين لم تطلهم يد الثورة ، فأصبحوا سكينا في خاصرتها ولا يؤمنون بتوجهاته، ويحاولون الإساءة إليها من خلال محاربة مناصريها الحقيقيين، أو تشويه صورتها أمام الجماهير، لذلك تحركت الزمر الرجعية لافتعال معركة مع الشيوعيين، لتشويه صورتهم أمام الناس، وكان مقر "اتحاد الشعب" مقر الحزب الشيوعي العراقي، يقع في مكان قريب من المحل الذي أفتتحه الرجعيين مقرا لاتحادهم الهزيل، فأشيع حينها عن نية أتباع الاتحاد الجديد بالاعتداء على مقر الحزب، يؤازرهم في ذلك بعض أتباع الإقطاع والملاكين، وعندما وصلت الأخبار إلى قيادة الحزب في القاسم، تحرك مسؤلي الجمعيات الفلاحية وأعلنوا النفير العام تحسبا للطوارئ، فأمتلات المدينة بمئات الفلاحين، وطوقت من الخارج بمئات المسلحين المرابطين في البساتين المحيطة بالقاسم، وكان الرفاق جاسم حسن شلال، ولطيف عبد هويش، والشيخ أحمد العبد الله، من المتحمسين والمندفعين لإثارة معركة دامية، ومواجهة هؤلاء والقضاء عليهم لذلك كان الشارع ألقاسمي مهيئا بين لحظة وأخرى للانفجار، وفي هذا الوقت بالذات تحرك الرفيق محمد جواد لمقابلة مدير الناحية والشرطة لبحث الأزمة معهم، فأخبروه أنهم طلبوا من المتصرف إرسال نجدة عاجلة لتطويق الأزمة قبل انفجاره، وإرسال تعزيزات عسكرية بناء على الشكوى المقدمة من البعض حول نوايا الشيوعيين بالهجوم على مقر الجمعيات الفلاحية، فوعدهم خيرا وطلب منهم إلغاء طلب التعزيزات، وتعهده بعدم حدوث شيء، ثم توجه إلى مقر اتحاد الشعب، وكان الرفاق جاسم حسن شلال ولطيف عبد هويش، قد هيئوا المسلحين تحسبا لأي هجوم طارئ من الإقطاعيين ، فطلب منهم التفرق وعدم أحداث معركة في هذا الظرف، والتزام العقل في معالجة المشكلة، وبعد مجادلات مضنية حصل الاتفاق على تفريق الناس على أن يبقى المسلحون خارج القاسم تحسبا للطوارئ، ومقاومة الهجوم عند حدوثه، ثم توجه إلى مركز الشرطة وأخبرهم بالاتفاق وأن المسلحين انسحبوا من المدينة، على أن تقوم السلطة بدورها في إلزام الآخرين باحترام الاتفاق، وبعد خروجه من المركز وعودته إلى المدينة، فوجئ بوجود تجمع مريب يضم نفر من حثالات البعث والموتورين، فحاول أحدهم الاعتداء عليه، وكان الرفيق محمد جواد من أبطال الرياضة في حينه، فوجه له لكمة أسقطته أرض، وتهيأ لضرب الثاني لكن تواجد بعض الرفاق بالقرب من الحادث وتقدمهم للمشاركة في المعركة ، دفع أولئك إلى الانسحاب، وذهب أحدهم للشكوى، وبعد قليل أقبل عريف الشرطة وطلب من محمد جواد مرافقته إلى المركز لوجود شكوى ضده، فذهب معه إلى هناك وعندما دخل باحة المركز فوجئ بالمشتكي الذي أخذ بالاستهزاء به، بقوله(ها ولك جابوك)فما كان منه إلا أن ضربه ضربة قوية ألقاه أرض، فاقبل مفوض الشرطة وفض الاشتباك، وأتصل بضابط المركز وأخبره بأن احد الشيوعيين المدعو محمد جواد قد مزق صورة الزعيم، فطلب منه ضابط المركز عدم اتخاذ أي أجراء لحين عودته، وإذا تصرف معه بطريقة غير مقبولة فسيكون حسابه عسير، وعندما جاء ضابط الشرطة، وسأله عن قصة الصورة، قال له أنت تعرف أني عضو في الحزب الشيوعي ومدير مدرسة القاسم، فهل يعقل أن يقوم شيوعيا بتمزيق صورة الزعيم، ولكن المشتكي الذي تعرفه جيد، وتعرف حقيقة نواياه اتجاه الثورة هو الذي قام بتمزيق الصورة واتهامي بذلك، فأمر الضابط بإطلاق سراحه، وأمر الشرطة بجلد المشتكي وإيداعه التوقيف. وعندما علم الرجعيين باعتقال محمد جواد، خيل لهم أنهم انتصرو، فأخذوا بالتحرك في المدينة وبث الأراجيف والتهريج ضد الشيوعيين، فقام أحد الرفاق، عزيز حسين والرفيق عزيز حمزة الأحمد ورفاق آخرين بإخراج مظاهرة كبيرة انطلقت من مقهى الحاج رزاق السعيد، الكائنة في وسط المدينة، باتجاه الشارع العام، وهي تهتف بسقوط الإقطاع والرجعية وعند مرورها بالقرب من مقر الاتحاد الهزيل قام أحد منتسبي ذلك الاتحاد بضرب أحد المتظاهرين بحجارة كبيرة أسالت الدماء الغزيرة من رأسه، وفي تلك اللحظة أصبح من الصعب احتواء الموقف، فقامت الجماهير الغاضبة بالهجوم الكاسح على المقر، فحاول المتمركزين فيه، إغلاق أبوابه عليهم، إلا إن المهاجمين حطموا الأبواب وانهالوا عليهم بالضرب الموجع، فجرح الكثيرين منهم، وأغمي على بعضهم بعد أن انهالت عليهم الحجارة الشعبية من كل مكان، وعندما علمت قيادة الحزب بالأمر توجهت إلى أرض المعركة وأمرت بالانسحاب، فأنسحب المتظاهرين بعد أن لقنوهم درسا لا تزال أثار جراحه باقية على وجوه ورؤوس الكثيرين منهم ممن لا زالوا أحياء، واستولى المتظاهرين على أسلحتهم، وسلمت إلى الشرطة. وبعد أيام قامت السلطة باعتقال أكثر من (30) شيوعي، كان من بينهم السيد محمد جواد وجاسم حسن شلال ولطيف عبد هويش، وشيخ أحمد عبد الله ، وعزيز حسين وعزيز حمزة وعبد الواحد حسن حسين السرحان وسيد فخري السيد مجيد، وكاظم الحاج ظاهر، وقد أحيل جميع المتهمين إلى الحاكم العسكري العام، فصدرت أحكام بحق الكثيرين منهم وبرأت ساحة البعض الآخر، وكانت نقابة المحامين قد انتدبت لجنة من أمهر المحامين للدفاع عنهم، وبرئت ساحة المعلمين لوجود كتاب رسمي من مديرية التربية، يدعوا المعلمين للتعاون مع المنظمات الجماهيرية ومراقبة أعداء الجمهورية. وبعد خروجه من السجن لم يعاد لوظيفته، فواجه السيد نجيب محيي الدين نقيب المعلمين آنذاك وأطلعه على أوليات الموضوع فصدر الأمر بإعادة المعلمين إلى وظائفهم، لعدم وجود ما يدينهم، وقد أعتقل بعد ذلك عدة مرات بسبب نشاطه الشيوعي، ونقل إلى مدرسة نائية خارج اللواء، وعندا حدث الانقلاب المشئوم كان خارج اللواء، فلم يلقى القبض عليه، وبعد انقلاب عارف، أكمل دراسته في الجامعة الأمريكية ببيروت، ودرس القانون، وطلب أحالته على التقاعد، وعمل محامي، فكان من خيرة المحامين، المعروفين بنزاهتهم، وعدم توكلهم في القضايا الباطلة، وبعد الجبهة، كان لصيقا بالحزب ونشر مقالاته في جريدة الحزب طريق الشعب، وبعد انهيار التحالف أعتزل العمل السياسي، وقد القي القبض عليه في الثمانينيات لورود رسالة إليه من أحد أصدقائه الشيوعيين، وسجن سنتان، أطلق سراحه بعده، وظل وفيا لمبادئه حتى لحظاته الأخيرة، ، حيث كان له بعد سقوط النظام مواقفه الكثيرة في دعم منظمة الحزب وإسنادها في المدينة، ومدها بالعون والنصيحة والتوجيه، رغم ابتعاده عن التنظيم بسبب تقدمه بالسن، فكان يشارك في نشاطات الحزب الجماهيرية، وفي أيامه الأخيرة عندما أدخل المستشفى كانت زياراتنا له متواصلة ، ومحل رعايتنا لكونه عقيما لم ينجب، وقبيل وفاته بأيام قمنا بزيارته، فأظهر ما بداخله من تصميم على الأيمان بمبادئ الحزب، وأبدى بعض الملاحظات عن مسيرة الحزب وضرورة الانفتاح على الجماهير، والعمل للدفاع عنه، والسعي لتحقيق مطالبه، والتصدي للمؤامرات التي تحاك في الخفاء للنيل من الشعب العراقي، لك الخلود أيها الراحل الكريم، لقد قدمت ما بوسعك، وعملت جهدك، فكنت مثالا للشيوعي الملتزم، وستبقى ذكراك باقية ما بقي الحزب ورفاقك النجباء، وهاهم يتصدرون النضال دفاعا عن شعبهم ووطنهم، بهمة عالية لا تعرف الملل أو الكلل، وها هي البراعم الجديدة تنموا ، لتعيد بناء الحزب على أسس متينة، وسيبقى الحزب جذوة النضال، ورأس الرمح، لبناء وطن حر وشعب سعيد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |