|
الرفيق عامر الصافي(أبو باسم) كان المعلم الأول لأجيال من الشيوعيين في القاسم، أرتبط بالحزب الشيوعي بداية 1951، وأنسلخ عن طبقته الأرستقراطية، فوالده السيد حسين أبو ناصر، من كبار الملاكين، والشخصيات المتنفذة في اللواء، وله علاقاته الوثيقة بحكام بغداد، ومن الشخصيات التي يحسب لها ألف حساب، فكان أبنه على النقيض منه، بانحيازه إلى الجماهير الكادحة، التي أستلب حقوقها حفنة من المغامرين، والملاكين والإقطاعيين والمرابين، تنكر لطبقته التي أعطته المال والجاه، وعاشت تلعق بدماء الآلاف من مواطنيه، من الذين يأسى لوضعهم المزري، وحياتهم البائسة، وحالتهم المفجعة، ويرى بعينيه زبانية الإقطاع، يقتطعون الزاد من أفواه الجياع، لينفقوه في الملاهي وأندية القمار، ويسعون خلف اللذة الجامحة، ويعيشون الليالي الحمراء الصاخبة، بين رنين الأوتار وقرع الكؤوس، على حساب الآلاف من العراة الحفاة والفلاحين البؤساء. لقد ألهمته كلمات الخالد "فهد" الرؤية الصائبة، وعلمته كيف يكون الإنسان شمعة تحترق من أجل سعادة الآخرين، فأندفع بعنفوان طاغ، لتحقيق المثل العليا التي آمن به، وعرف أنها قدر البشرية الذي يسعى الإنسان للوصول إليه، وكان له ما أراد، فالتربة صالحة لنشر بذور المحبة والسلام، وزرع الأمل والطمأنينة في النفوس، وما هي إلا شهور حتى حدث تململ في صفوف الفلاحين، وأخذوا ينظرون إلى هذا النور الذي أنار حياتهم المظلمة، ونشطت الحركة الفلاحية بجهود الشيخ المتنور أحمد العبد الله، والفلاح الجسور لطيف عبد هويش، وأبن الشيخ الإقطاعي جاسم حسن شلال، الذي كان وبالا على والده لوقوفه ضده في تعامله مع الفلاحين، وآخرين ممن هيئ لهم الانضواء في التنظيم في وقت مبكر. ولد الفقيد سنة 1935 في قرية الزرفية التابعة إلى ناحية القاسم، ودرس في مدرسة القاسم الابتدائية، ثم أكمل دراسته في الحلة، وأنتسب لدار المعلمين الابتدائية، وهذه الدار العظيمة التي سميت بحق دار المعلمين، كانت المدرسة الأولى التي خرجت آلاف الشيوعيين، رغم تقاطع كادرها التدريسي مع هذه المبادئ، إلا أنها أرض خصبة فكان أن أنتشر الفكر الشيوعي بين طلابه، فأصبحت قلعة من قلاع الشيوعية في العراق، وأخرجت آلاف الكوادر التي واصل بعضها العطاء حتى يومنا هذ، للتمايز الطبقي بين الطلاب الوافدين لها الذين بدئوا يشعرون بمدى الحيف والضيم المحيق بطبقتهم، بسبب الطبقة الحاكمة التي هيمنت على كل شيء، ولعل الحكومات الرجعية وذيولها كانوا على حق في عدم فتح المدارس ونشر التعليم، فالتعليم كان وراء تهاوي عروشهم الزائفة، والمعلمين كانوا رسل التنوير الفكري في العراق، وبناة الفكر الوطني في الأرض العراقية، فكان هؤلاء الرسل ينشرون أرائهم أينما حلو، وأنا أقامو، لذلك كان رجال الإقطاع على حذر منهم، ويمانعون في إنشاء المدارس وإشاعة التعليم، مكتفين بالتعليم الملي الذي لا ينتج وعيا أو ينشر ثقافة، بل يراعي مصالح الطبقة الحاكمة بنشر الخرافة والدجل، بعكس التعليم الرسمي الذي نشر الفكر الحديث في أقاصي الريف العراقي، وأثر بشكل مباشر على أفكار الفلاحين، وجعلهم يشعرون بمصالحهم ومن يدافع عنهم، ويرشدهم إلى سواء السبيل. في دار المعلمين الشيوعية تخرج أبو باسم أوائل الخمسينيات، وأصبح معلما في المدارس الابتدائية، فزاول عمله الوظيفي بجد ومثابرة جعله مثار أعجاب زملائه ومرؤوسيه، ومارس العمل السياسي بقابلية عالية، بما له من رصيد شعبي ومكانة اجتماعية، فكان يستغل نفوذ والده لمصلحة الفلاحين والفقراء، وتمشية أمورهم في الدوائر الرسمية، إضافة لما يملكه من حس أنساني مرهف، ونفس ساعية للخير، فكان الهمس الكثير في الأوساط الاجتماعية، عن نشاطه السياسي، إلا أن تأثير والده في الأوساط الحكومية، كان عائقا أمام السلطات المحلية لاعتقاله، ولكن وقد بلغت الأمور حدا لا يمكن السكوت عليه، واندفاعه في العمل التنظيمي، جعل السلطات تلقي القبض عليه، فكان لنفوذ والده أثره في أطلاق سراحه بكفالة، وحاول التأثير عليه، وأعادته لأحضان طبقته، ولكنه رفض بإباء وشمم، وظل في ذات الدرب، وعندما حدث العدوان الثلاثي على مصر، وانطلقت المظاهرات الصاخبة المنددة بالاعتداء، فكان، أبو باسم، يتصدر المظاهرات، وترفعه الأيدي ليلقي بخطاباته النارية، مما أدى إلى اعتقاله مجدد، وأطلق سراحه بكفالة ، لتوسط والده وتأثيره في اللواء، وظل مثابرا على العمل الحزبي، والمسير في هذا الطريق الوعر، دون الاهتمام بمحاولات أسرته، التي استعملت جميع وسائل الترغيب والترهيب للتأثير عليه، ألا أنه ظل مصرا على المضي غير عابئ بكل المغريات والتهديدات والمناورات، وعندما بزغ فجر الرابع عشر من تموز الخالد، كان من السياقين لقيادة المظاهرات المؤيدة للثورة، والتصدي لقوى البغي والعدوان التي حاولت مواجهته، فكان في الصفوف الأمامية، التي هاجمت أوكار البغي والرذيلة، ودكت صروح الإقطاعيين، وأن أنس فلا أنسى خطاباته الحماسية المثيرة التي كانت تلهب الجماهير، عندما قام أحد عتاة الإقطاع بقتل أحد الفلاحين، بسبب الحصة المائية، فكان أن انقلبت الدني، وهاج الفلاحون وماجو للثأر لصاحبهم، إلا إن مساعي قيادة الحزب في تهدئة الأوضاع ، وعدم أثارة المشاكل، أدى لتسوية الموضوع واعتقال القاتل لينال جزاءه العادل، وجرى للشهيد تشييع رسمي وشعبي شاركت فيه مختلف الأوساط الاجتماعية، وآلاف الفلاحين ، في مسيرة حاشدة حمل فيها نعشه من قريته إلى المدينة، في "عراضة" لم نشهد لها مثيل، وكلما وصل الموكب إلى مدينة استقبلته جماهيرها بالأهازيج الثورية المنددة بالإقطاع وجلاوزته، حتى وصولهم النجف، حيث المظاهرة الكبرى التي أرعبت الأذناب والموتورين، وجعلت السلطات الحاكمة تحسب ألف حساب لهذا المد الثوري المخيف، ولعلها من مفارقات القدر أن يتوفى أحد كبار الملاكين في ذلك اليوم، فكان مشيعيه لا يتجاوزون العشرات، رغم مكانته الاجتماعية الكبيرة، وهذا الأمر الذي يخاله البعض بسيط، له مدلوله الاجتماعي في المجتمع الريفي، وكان الرفيق أبو باسم الجذوة المشتعلة في قيادة المسيرة، وحسن تنظيمه، يساعده في ذلك القيادات الحزبية التي أعطت الموضوع أهميته البالغة، بسبب التلاحم الجماهيري، والاندفاع العفوي للمواطنين. وكان له موقفه الرائع في تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، فكانت أول الأراضي التي وزعت بموجب القانون، أراضي أسرته، ووالد الرفيق "أبو منقذ" جاسم حسن شلال، الذي قاد نضال الفلاحين بالضد من والده، وهذا من أعجب العجب في عمق المبادئ الشيوعية وترسخها في النفوس، والمثير أن الرفيق الصافي ظل إلى أواخر أيامه يعطي للفلاح العامل في أراضيه، أكثر من حصته المقررة، وربما منح الفقراء منهم غلتها دون أن يأخذ شيئ، وكنت أمازحه في ذلك وأقول له"أنت مثل تولستوي في تعامله مع الفلاحين"فقال "ولكن الفرق كبير بينن، فأنا شيوعي وتولستوي كان يعبر عن نزعة إنسانية، هي بدايات الفكر الشيوعي، فهو أفضل مني في سابقته. وبعد انتكاسة الثورة وهبوب الريح السوداء من أرض الكنانة، وسيطرة البعث الأهوج على مقاليد السلطة في شباط المشئوم، وقيام قطعان الحرس القومي، بأعمالهم البربرية المخزية، التي يندى لها الجبين، نال أبو باسم قسطه الوافر من السجن والتعذيب، حتى قصفت أضلاعه، وظل يعاني منها حتى وفاته، وبقي عامر القلب بالمبادئ، لم يتغير أو يميل مع الهواء، فكان في أيام الجبهة، رغم عدم انتظامه في التنظيم، لأسباب ليس هنا مجال ذكره، إلا أنه كان قطب الرحى في العمل السياسي، فهو المشير والموجه ، والوجه الشيوعي البارز في المحافل المختلفة، والشخصيات التي يشار لها بالبنان، لما له من علاقات وثيقة، بقيادات حزبية فاعلة، فكان يترصد الأخطاء ويحاول أصلاحه، فأن عجز عن ذلك كانت قيادة الحزب مرجعه، لفرض الإصلاح المطلوب، ويتدخل في المفاصل الحيوية للحزب، ودائما يكون لرأيه محله من القبول، ولأطروحاته طريقها للتنفيذ، لما فيها من أصالة ومصداقية، وبعد انهيار الجبهة، كان البعث على علم بموقفه من الحزب، ومحله من التنظيم، فهو شيوعي خارج التنظيم، لذلك أحيل على التقاعد، وظل محل رقابتهم حتى أيامه الأخيرة ، كما سيرد بعد قليل، وقد أنصرف لإدارة أراضيه، دون أن يتناسى رفاقه النجباء الذين غيبهم النظام، فكان يتفقد عائلاتهم، ويرعى مصالحهم، ورغم عاهته، إلا أنه كثير الحركة دائم السفر، فتراه يجوب المدن العراقية، لا يعيقه بعد عن زيارة صديق، ولا مرض عن تفقد عزيز، فكان يرتدي بجامته تحت ملابسه الخارجية، ولا أحد يدري أين يبات ليلته تلك، فقد يسافر إلى بغداد في ساعة متأخرة من الليل، لزيارة هذا أو ذاك، وقد يزور أصدقائه دون موعد ، وجدته في أواسط التسعينيات في مدينة الكاظمية، في منتصف الليل، يجوب في أزقته، فعجبت لوجوده في هذه الساعة، وسألته فقال لقد تذكرت صديقا فارقته قبل أكثر من عشرون عام، وأتذكر أن داره في هذه المنطقة، فقدمت لزيارته، ولكن ما أدراك أنه لا يزال حيا بعد هذه السنين، فقال لو كان ميتا لعلمت ولكنه لا يزال حي، وفعلا طرق بابا خشبية ، لبيت بغدادي قديم وسأل عن صاحبه فأرشدوه إليه ، وكان لا يبعد عن تواجده إلا قليل، وقد عرف أهله طبيعته، فكانوا لا يسألون عنه أذا غاب لعلمهم بكثرة سفره، وظل على هذا المنوال حتى ساعاته الأخيرة، وعندما انطلقت انتفاضة آذار الباسلة، كان من أوائل المشاركين فيه، إلا أنه وبحسه الثوري، عرف من خلال بعض القائمين فيها عدم جديته، فأبتعد عنها بعد أن نحت باتجاه طائفي بغيض، وحاولت بعض الأطراف تجبيرها لأنفسهم، رغم عدم علمهم به، وانطلاقها بصورة عفوية غير مخطط له، مما سارع بفشلها لأسباب كثيرة ، تتحمل أطراف المعارضة العاملة في الخارج القسط الأكبر منه، وله كلمة مأثورة لا يزال الكثير من الرفاق يتذكرها"هاي مو ثورتنه، " فقد أندست فيها بعض العناصر الموالية للسلطة، وقامت بحرق الدوائر ونهب المؤسسات، وهذه ليست أخلاق الثوار، لذلك لم يصبه شيئا من رذاذه، بعد استتباب الأمر للسلطة الدكتاتورية، وظل على نقائه المبدئي، وصلابته المعروفة، فكانت السلطة رغم تحاملها عليه تعامله بما يستحق من الاحترام، لمكانته الاجتماعية المتميزة، وصفاته المحببة للآخرين، رغم علمهم بعدائه لهم، وكان محل رقابة الجهات الأمنية، وأستدعائتها المتكررة، وقبيل سقوط النظام بأيام، داهم منزله نفر من أزلام السلطة ومفرزة أمنية، بذريعة واهية لا تصمد أمام المنطق، ويرفضها العقل، واتهموه بأن الطائرات الأمريكية قد أسقطت جهاز إرسال بالقرب من داره، ، واقتادوه إلى مقر البعث الفاشي، فلم يحتمل وقع الأهانة وهو الوطني الشريف، الذي تمرس بالنضال وعركته السجون، فكان معلما بارزا بين المناضلين ضد الاستعمار والدكتاتورية الغاشمة، فهل يعقل أن يتجسس لأمريكا عدوة الشعوب، ولشدة الصدمة أصيب بجلطة دماغية فقد الوعي على أثره، وتوفي بعد سقوط النظام بأيام، ولكن هل علمت يا رفيقي العزيز بأن البعث ولى إلى الأبد، وداست أحذية الأمريكان النتنة رأس الطاغية، وتلاقفت صورته أحذية العراقيين، نعم لأنك همست بأذني قبيل الهجوم الأمريكي بأيام، أن صدام سيذهب إلى مزبلة التاريخ، وقد ولى إلى الأبد، وها هو حزبك العتيد يعود من جديد، ليبني العراق المتحرر السعيد، فنم قرير العين، فالراية التي ناضلت تحت لوائه، لا تزال خفاقة في سماء العراق، وهاهم رفاقك النجباء، يناضلون بعزم وصلابة لبناء عراق ديمقراطي فدرالي تعددي موحد، وها هو حزبك العتيد يعطي دروسا في الوطنية والنزاهة والشرف، عز وجودها في العراق الجديد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |