|
لم يكن أسم الشاعر محمد صالح بحر العلوم غريبا على مسامعي، فمنذ طفولتي وأنا أسمع أسمه يتردد في محادثات شقيقي مع زملائه عندما كنت ي الثانية عشرة من عمري أو قبلها بقليل، وقد أكون لا أفقه ما يقال، ولكن رتابة الوزن، وعذوبة اللفظ تجلب الانتباه، فقد حفظت الشعر في سن مبكرة، وخصوصا العامي منه، لذلك تولد في نفسي حب الشعر والهيام به، والميل لسماعه وقراءته، وظل ذلك ملازما لي حتى هذه الأيام، فمن الفروض التي لا محيص عنها قراءته في الصباح الباكر من كل يوم، وقد كتبت بعضا مما أسميه شعر، يراه بعض الأحبة مقبول، لذلك كان من أوائل حفظي شعر السيد بحر العلوم، لسلاسة نظمه ورقة جرسه وجمال معانيه وحلاوة ألفاظه، وخصوصا قصيدته أين حقي التي حفظت الكثير من مقاطعه، ولا زال هذا الكثير يتردد على شفاهي خصوصا هذه الأيام بعد أن ظهرت صحة تنبو أته، وسلامة تصوراته فيما أفرزت الأحداث من جديد. وهذه الملحمة الرائعة الذائعة، من أكثر شعره شهرة وانتشارا بين الأوساط الشعبية، ولا أخال أحد لم يسمعه، أو يقرئها أو يتذكر بعض مقاطعه، رغم أنها من الممنوعات المحظور تداوله، فكانت كالمنشور السري من الأدلة الجرمية في عرف الحكومات المتعاقبة، وأتذكر في أواسط الستينيات، داهم رجال الأمن دارنا في الساعة الثالثة ليل، فأخذوا بالتفتيش الدقيق، وقلبوا الأسرة، وفتشوا الدواليب، ونثروا الملابس، وفتشوا جيوب المخزون منه، حتى سجادة الصلاة الخاصة بجدتي لم تسلم منهم بما تحويه من مستلزمات العابدات الورعات من جادر وتربة ومسبحة، فعثروا فيما عثروا عليه مقاطع من هذه القصيدة كتبت على وريقات مخفية في طيات الكتب، فكانت من الأدلة عند محاكمة أخي الأكبر الرفيق أبو حسنين، الذي القي القبض عليه تلك الليلة، بسبب اعترافات من رفاق قبض عليهم، وقد أنكر ارتباطه بهم، أو علاقته معهم رغم التعذيب الشديد، إلا أن جريمته كانت حيازة شعر محظور، فكانت أين حقي الدليل الوحيد لتجريمه، ولم يكن من المعقول إنكارها ونسبتها لي، فكان أن سجن ستة أشهر لحيازته قصائد ممنوعة. وأين حقي من القصائد الخالدة التي جعلت شاعرها في القمة من شعراء العصر الحديث، وعلما من أعلام الشعر، رغم ما يعتو رها من قصور في الجوانب الفنية، وافتقارها إلى المتانة وجودة السبك، وما كان يراه النقاد من مستلزمات الشعر البليغ، فهي ليست بمستوى شعر ألجواهري، أو بمتانة قصائد الرصافي، أو جزالة محمد رضا الشبيبي، إلا إن معانيها السامية جعلتها في الذروة من الشعر العراقي المعاصر في الشهرة والذيوع والانتشار، وأخذت مداها في الأوساط الشعبية والثقافية، لما فيها من صور ناطقة تعبر عن واقع معاش يفتقر إليه الكثير من الشعر الذي يعنى بالمحسنات البلاغية واللفظية، وقعقعة الألفاظ، دون الاهتمام بالمعنى الواضح، مما جعلها قابلة للترجمة إلى اللغات الأخرى دون أن تفقد شيئا من القه، أو معانيه، بعكس الكثير من الشعر العمودي الذي لا يصلح للترجمة، ويفقد الكثير من بهرجته، لاعتماده على اللفظ دون المعنى. ورغم أن للشاعر بحر العلوم مئات القصائد التي عالجت الشؤون العامة، ومشاكل الجماهير، وكان لها أثرها في النضال الوطني لعقود، إلا أنها لم تأخذ ما أخذت هذه القصيدة من الشهرة والذيوع، ومن رائع شعره قوله: أسفا على حر يموت مقيدا والحر في قيد لحياة أسير أسفا على حر يغادر أمة تبكي عليه وحقها مغدور لقد استراح أبوكم من أمة قد غرها البهتان والتزوير باعت لشهوتها ضمير إباءها ومن البلية أن يباع ضمير مدح يكال وخاطب متملق وهوى يطاع وكاتب مأجور تمسي وتصبح كالبهائم همها علف وهم خصومها التسخير ومن قصائده الأخرى التي أخذت طريقها للشهرة والذيوع قصيدة التي رد بها على ألجواهري عندما مدح نوري السعيد بقصيدته الدالية، فرد عليه بحر العلوم بقصيدته التي مطلعها: صه يا رقيع فمن شفيعك في غدي فلقد صدئت وبان معدنك ألردي وله قصائد أخرى أخذت طريقها الى الشهرة والانتشار، مما يلقيه في المظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال البريطاني، والداعية لإسقاط النظام الملكي المباد، فجعلته في الذروة من الشعراء الثائرين، ويحسن بنا قبل الخوض في ملحمته الرائعة الإشارة لأمر لا زال مثار جدل ونقاش، حول انحداره الأخير، ونشره للكثير من القصائد في مديح الطاغية صدام ، أو البكر أو البعث أو منجزات الحكومة البعثية في السبعينيات والثمانينيات، وما أظهر فيها من ارتداد كبير عن المبادئ والقيم التي كان يؤمن بها ويدافع عنه، ولست هنا في مجال التبرير أو أيجاد المعاذير، وقد أدلي برأي لا أقره في داخلي، ولكن على الدارس أن يحاول ما وسعه الجهد وضع الأمور في نصابه، واستجلاء جوانبها ليخرج برأي قد يحالفه الصواب، وأن لا يكون أسير رأي مسبق، وخصوصا في دراسة الشعر والشعراء، وأن لا يكتفي بالمظاهر، فرب أمور خافية تجعل الكثير من الحقائق بعيدة المنال. لقد كان ولا يزال أغلب الشعراء العرب، مداحين هجائيين، يمدحون هذا ويذمون ذاك، وربما تناقضت أرائهم في الشيء الواحد ساعين وراء مصالحهم أو هاجسهم الفني، فالمتنبي مدح كافور بغرر من قصائده وجعله في مراتب متقدمة، ثم هجاه بقصائد أخرى أنزله للحضيض، وكافور هو ذاته كافور الذي شبه سواده بالمسك ثم أحاله إلى مسخ، ولم يكن المتنبي صادقا في الحاليين، أو صاحب رسالة أو هدف سام، فهو شحاذ يأمل بجائزة أو جاه، وهذا ديدن الشعراء في كل زمان ومكان ، لا استثني منهم إلا قلة حافظت على كرامته، فلم تنحدر إلى ما أنحدر إليه غالبية الشعراء، ولم يسلم شعراء العصر الحديث من هذا الداء، فكان عمالقته مداحين لمن لا يستحق المدح هجائيين لمن يستحق الهجاء أو لا يستحقه، يمدح هذا اليوم ليذمه غدا بلا مبالاة، مما يفصح عن داء خفي في النفوس، وقد يجد البعض مبررات لمثل هذا التهالك، بضرورة عدم الالتزام، والاهتمام بالجانب الفني، وأن الشاعر في مديحه لهذا أو هجائه لذاك يعبر عن نزعة فنية لا علاقة لها بالواقع المعاش، وأنهم يتخيلون ويتمنون أن يكون الممدوح على هذه الشاكلة متوفرا على هذه الصفات، وهذه التبريرات لها ما يدحضه، بضرورة أن يكون للشاعر موقفه ورأيه في الأحداث، بما يفصح عن وجهة نظره في هذا الأمر أو ذاك، فيما يرى آخرون في الشعراء الذين التزموا منحا فكريا معين، خروجا على أصول الفن وتقاليده وقواعده، وأن الشعر يجب أن يكون بمنأى عن الأحداث، ولا يتناولها إلا بما يظهر أجادته لأصول الفن، وما يعبر عن نزعة فنية خالصة بعيدة عن المبادئ التي يدعوا لها الآخرين، وأن الشعراء الذين يمدحون الملوك طمعا بالجائزة، أفضل من الشعراء الذين يخدعون الجماهير بالتزلف إليهم والتقرب منهم طمعا في جاه أو سعي لمنصب، أو مجد فني، وأن الذي يخدع فردا ليس كمن يخدع شعب، وما أكثر المخادعين في الجانبين. وبقد تعلق الأمر ببحر العلوم ، فقد ألتزم جانب الشعب في الغرر من شعره، وناضل وهو في ميعة الصبا ونضارة الشباب، وأنسلخ عن طبقته ومحيطه الديني ليكون إلى جانب الكادحين، لتحقيق طموحاتها في التحرر والأنعتاق، ولم يجن من نضاله المرير لأربعة عقود غير السجن والتشريد والتعسف والاضطهاد والتعذيب والفقر، ولو أحصينا السنين التي قضاها خلف القضبان أو في التستر والاختباء والنفي، لكانت أكثر من أيامه خارجه، ولو تحرينا عن الآلام والمرارة وشظف العيش الذي واجهه أيام كفاحه المرير، لرأينا أن أيام الدعة والمسالمة لا تشكل إلا جزء يسير منه، وللأنصاف علينا أن نبحث في أسباب تحوله الأخير، فلعل هناك أسباب خافية لم نطلع عليها تتعلق بموقفه ذاك، فقد كان تحولا خطيرا أقل ما يقال فيه أنه انحدار للهاوية، ولكن لماذا ينحني هذا الشاعر المناضل أمام العاصفة في أخريات أيامه، بعد أن كان نشيدا وطنيا لكل الثوار في العالم، ومثلا أعلا للمناضلين من أجل التحرر، ومنارا لمن قاوم الظلم والاستبداد، أنني لا أريد أن أفرض الفروض ولا أسبب الأسباب أو أبرر الأخطاء، ولكن لابد أن يكون وراء هذا التحول سر خطير، لم يتسنى لنا الاطلاع عليه، ولعل في أصدقاء الشاعر من بعلم شيئ، أو أسر إليه بأمر، ولعل في مذكراته أن كانت له مذكرات، ما يعين على كشف الحقيقة، ولعل في القراء من لديه من يميط السر عن هذا التحول، فليس من السهل على شاعر بمقام بحر العلوم أن يسقط هذا السقوط دون مبرر، رغم أن المبررات لا تجعلنا نبرئه من ضعف أنساني، كان وراء سقوط الكثيرين. لقد عاش بحر العلوم دون مرتب معلوم، أو عمل يدر عليه مال، لذلك كان للحكومة العراقية تفضلها عليه عندما منحته راتب شهري قدره(150)دينار على ما أتذكر، وكان هذا الراتب في حينها أكثر من معقول، وفسح له في المجال لينشر نتاجه في الصحف الحكومية التي تعطي مكافآت مغرية لكتابه، فتهيأ له أن يعيش حياة ، لا أعتقد أنه عاشها في الغابر من حياته، ويرى نعيم الدنيا وحلاوتها بعد تلك السنين العجاف التي قضاها شاهرا سيفه بوجه الحكام المتعاقبين، وحتى بعد ثورة تموز/1958 وإنشاده لتلك القصائد الرائعة التي غنى فيها الثورة وزعيمه، وأغاريده في محكمة الشعب، فسرعان ما انقلبت الثورة على أبنائه، وعاد ليخوض غمار النضال من جديد، ولم يتسنى له العيش بدعة وسلام إلا في أعوامه الأخيرة، رغم ما يكابده من تبكيت الضمير، وجفاء الأصدقاء ، وشعوره بالمرارة لمواقفه تلك، وإحساسه بنظرات الناس المريبة إليه، فليس من الهين على شاعر مثله كان قطب الرحى في الحركة الوطنية، أن يصبح مداحا لأناس ما كان لهم أن يتطاولوا ليصلوا إلى أخمص قدميه. وموقفه هذا ليس غريبا بين الشعراء، فما أكثر من تقلب في المواقف، وسلك الدروب المتشعبة، ولنا في الكثير من عمالقة الشعر العربي وأدبائه خير دليل، لذلك فهو ليس بدعا بين الشعراء أو المفكرين الذين تباينوا في مواقفهم، وغيروا من مبادئهم، فهذا ديدن الشعر وطبيعة الشعراء، وآخر ما أستطيع التبرير به، من كان منكم بلا خطيئة فليرجمه بحجر، وفي الجزء التالي سنحاول تناول تأثير قصيدة الشاعر إيليا أبو ماضي"الطلاسم" على الشعر ألنجفي بعامة، وبحر العلوم على وجه الخصوص.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |