من بيلينسكي الى بيرجينسكي ، حذار من طبعة شيطانية لمعطف غوغول!

 

 

مثنى حميد مجيد

saad_muthanna@yahoo.com

أفترض، وهو أمر محتمل ومشروع، أن نقدآ شديدآ قد يوجه من قبل أحد القراء الكرام الى مقارناتي التي قد تبدو له غريبة أو حتى فجة من مثل مقارني، أو بالأصح إقراني، بوشكين بكونداليزارايس، وأكاكي أكاكافيتش بطل قصة المعطف المسكين والمسالم بأحمدي نجاد السياسي المتهور والمندفع الى خيار الحرب وتأجيج الصراعات ومقارنات أخرى غيرها وردت وسوف ترد في مقالاتي عن غوغول. وحقيقة الأمر إني في كل ذلك أبحث عن الإيحاء الكامن والمغزى المستقبلي التخاطري خلف هذا الإقران وأنا في ذلك كمن يبحث عن أقلام وألوان ومواد أولية للرسم وليس الرسم بالمقام الأول حيث يأتي الأخير كتجريب وإختبار.يرى بيلينسكي أن الفن هو التفكير من خلال الصور.وما أحاوله هو إستخلاص مواد، أدوات، رؤى، الوان، رموز أستطيع بها رسم وتشكيل صور مركبة وذات أبعاد متداخلة ومتعددة تساعدني في فهم أكثر عمقآ لأحداث التاريخ وسيرها بل وامكانية التكهن بمصائرها وعواقبها.وزيادة في الإيضاح سألجأ الى أمثلة بالاشار عن الطبيعة التي تصنع أنماط أشكالها مسبقآ كأن نرى على ساحل البحر أنماطآ من الحصى تتطابق مع أعضاء الجسد الإنساني. إن التاريخ لا يختلف عن الطبيعة في ظاهراته وأنماط مفرداته من أحداث وشخوص ومخلفات وعمارة وفنون واداب حيث تشترك كل تلك الظاهرات والمفردات على اختلافها كونها من الماضي والماضي يقع ويمتد على نفس الساحل الذي يمتد عليه الحاضر والمستقبل.
وبمناسبة ذكر الناقد الروسي الشهير المعاصر لغوغول بيلينسكي سأقرنه بعراب وفيلسوف السياسة الأمريكية بيرجينسكي. كان فيساريون بيلينسكي ناقدآ ديمقراطيآ ومفكرآ تقدميآ يقف على رأس جيل عظيم من الأدباء والمثقفين الروس الكبار وكان خارج حاشية قيصر روسيا الأوتوقراطية أما زبيغنيو بيرجينسكي فهو ضمن حاشية الرئاسة الأمريكية رغم انتقاداته الشديدة لسياسة بوش والجمهوريين وقلقه على مستقبل الولايات المتحدة، ويشبه تشاؤم بيرجينسكي من العواقب الوخيمة لسياسات اليمين المحافظ الجمهوري ويعادل تفاؤل بيلينسكي بالإمكانيات الهائلة لجيل الليبراليين والديمقراطيين الروس لتغيير وقلب نظام القيصر الرجعي الإستبدادي. وبقدر ما يحذر بيرجينسكي الإدارة الأمريكية من حرب محتملة ضد ايران، أي إكمال تسطير صفحات دموية من طبعة شيطانية امبريالية معاصرة لقصة المعطف، بقدر ما كان بيلينسكي يمتدح ويحث غوغول على مواصلة ابداعاته بالإنحياز التام لقوى التغيير الديمقراطي وكان ينتقده بشدة لوقوعه تحت تأثير القوى والأوساط الرجعية الموالية لنظام القيصر. وبعد صدور كتاب غوغول، مقاطع من مراسلات مع الأصدقاء ، الذي عكس أزمة غوغول النفسية ونزعته الموالية للكنيسة قدم بيلينسكي له نصحآ بالعودة الى الشعب كمنهل لإبداعه الفني وانتقد ما أسماه بأفكاره الشيطانية التصوفية وبعدها عن الواقع الروسي المثقل بالإقطاع والقنانة ولاجدواها. هذا التوازي في الموقع التاريخي والوظيفي الشكلي والظاهري بين بيلينسكي وبيرجينسكي يخفي إختلافآ جوهريآ بينهما في الموقف من حركة التاريخ والصراع الطبقي .
وبقدر ما يشير اسم الشاعر بوشكين الى مفهوم الحرية بأروع صورها يرتبط اسم كونداليزارايس، الدارسة في روسيا والمتخصصة في شؤونها ، بالغربة القومية فقد كان بوشكين رمزأ للأمة الروسية رغم إنحداره من فئة النبلاء وكان فخورآ بجده لأمه، الأمير الحبشي أبرام هنيبال، في حين لا تمثل كونداليزا غير الوسط الطفيلي من بني جلدتها السود الذين تنكرت وتسترت على الإهمال المتعمد والعنصري الذي تعرضوا له من الإدارة الإتحادية في انقاذهم أو تقديم العون لهم إبان كارثة اعصار كاترينا.وكما ظهر الديسمبريون من تحت عباءة الحركة الديمقراطية الروسية كإتجاه متطرف مضاد للنظام الإستبدادي القيصري ظهر السبتمبريون، جماعة أمير البترول بن لادن، من عباءة اليمين الأمريكي الممثل لشركات البترول والصناعة العسكرية وبالذات من عائلة بوش.ويمكن مقارنة حجم الألم الذي كان بوشكين يشعر به تجاه فشل إنتفاضة الديسمبريين في 14ديسمبر 1825وقمعها من قبل السلطات القيصرية بمقدار حماسة كونداليزارايس وحثها وقيادتها للصقور البيض لشن الحرب على افغانستان. كونداليزا رايس هي ملهمة القلم الإمبريالي الدموي بقدر ما كان بوشكين مصدرآ لرؤوس أقلام النور لقصص غوغول .أما أحمدي نجاد، الذي غالبآ ما يدعي محاربة الشيطان ، فهو في الحقيقة بسياسته المتطرفة جزء ومفردة مهمة من مفردات ومخططات هذا الشيطان نفسه وهذه القصة التي تعد طبعتها الدموية الظلامية خلف جدران البيت الأبيض.
نحن إذن إزاء حزمة لا يستهان بها من الرموز الغوغولية المفعمة بالنور تؤشر حزمة أخرى توازيها من رموز الظلام في عصرنا الإمبريالي الحالي تمكننا وتهدينا لرسم صورة مركبة وتفصيلية وبأبعاد زمنية توحد الماضي بالحاضر والمستقبل لمجرى سير أحداث التاريخ.ومع ذلك ثمة حاجة الى إجابة واضحة لجملة من الأسئلة تجعل الرؤية أكثر إشراقآ وفائدة من مثل طرح التساؤل عن مدى صواب نعت بيلينسكي لأفكار غوغول التي عبر عنها خلال إنشغاله بكتابة الجزء الثاني من روايته ، النفوس الميتة ، بالشيطانية.نحن بحاجة الى البحث عما يمكن تسميته بغوغول الشيطان، غوغول التوفيقي، غوغول السياسي، المؤرخ الفاشل، والمتفلسف الذي إنتقده بيلينسكي بشدة وطالبه بالعودة الى الفن المستمد من أعماق الشعب.ولأن مصطلح الشيطان هو مصطلح لاهوتي وله دلالات أخلاقية وعظية قد تبعدنا عن جوهر موضوع هذا البحث سأستبدله بمصطح اللاوعي فأقول هل كان لبيلينسكي الحق في التدخل لإدارة وتوجيه الصراع الداخلي عند غوغول، هل كان يطالبه بإخضاع لاوعيه الكامن لصالح وعيه الظاهر المنتمي كلية للشعب والمستقبل؟ لقد فشل غوغول، على المستوى الشخصي، في التوفيق بين قطبي الصراع في تفكيرة ، بين وعيه المتحرر والمتفائل والمنشد الى المستقبل وبين لاوعيه المحافظ والمتشائم والمنشد الى أعماق الماضي هذا الفشل الذي أدى الى موته المأساوي ، لكن ذلك الفشل أو الإحباط كان شخصيآ فعلى المستوى الإنساني يبدو الصراع في العالم مشابهآ للصراع في تفكير غوغول.لقد كان غوغول صورة مصغرة جنينية لعالمنا المعاصر.كان بحق شيطانآ ولكن بطريقة الأطفال الأبرياء ولذلك إستطاع إختزال العالم في شخصه وخلف لنا تراثآ مفعمآ برموز الضياء.وبمثل ما نقف له بإجلال نقف أيضآ بإجلال وحزن الى بطله الطيب المسالم أكاكافيتش وهو يقضي حياته مظلومآ وحيدآ ومتألمآ لضياع معطفه الجديد الأثير.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com