الانفصال ألجيلي في العراق... دراسة وتحليـــــــــل

 

 

خالد شاتي

abu.zahid@yahoo.com

 عاش العراق فترات كثيرة تحت ضلال الحروب والازمات التي استطاعت ان تعمق الهوة بين ترابط الجيل الماضي بالأجيال اللاحقة والاستفادة من تجاربها على كافة المستويات ولان السياسات المتعاقبة التي عاشها العراق الجريح والتي فككت النسيج الاجتماعي والوطني وحرصت على فرض ممارسات تغريبية تجعل من كل جيل حبيس تجربته فقط فان اخفق فهو مَن يدفع الثمن ويتحمل تبعات هذا التصرف او ذاك وان اصاب فهو ايضا مَن يؤرخ لنضاله وجهاده ضد كل السياسات القمعية التي توالت على حكم العراق وهو أيضا مَن يُنظر لها ويثقف عليها ابناء جيله فقط مَن غير ان يكون له تاثيرا واضحا على بقية الاجيال التي تتابع زمنيا وفق معايير العيش والتكاثر؟

 

سياسات التفكك الاجتماعي والأسري؟

 دأبت جميع الأنظمة السياسية التي حكمت العراق على بث روح الفرقة والبغضاء داخل المجتمع حتى يمكن السيطرة عليه وحكمه حكما سهلا ومن باب (فرق تسد) استطاعت الحكومات ان تجعل ابناء الشعب هم انفسهم رقباء على انفسهم من خلال الترهيب مرة والترغيب مرة اخرى كما انها تعاملت مع المفاهيم القيمية تعاملا سطحيا يشوبه الغموض والارباك واصبحت مفاهيم (الوطن،الارض،الانسانية،)مفاهيم بعيدة عن تطلعات الجماهير لان ذلك يمكن ان يسبب لهم مشاكلا هم في غنى عنها لأنها ارتبطت بثقافة الرفض والمعارضة لتلك الانظمة الحاكمة فاصبح الجميع يتعامل مع هذا الوضع تعاملا مريبا وسلبيا لان الانظمة فرضت على الجماهير النظر بعين واحدة الى الاحداث

فاستبدلت مفهوم الوطن (بالأمن) وما ادراك ما الامن فيكفي أن يكون مؤسسة تعنى بمكافحة الوطنينين والاسلاميين وجميع مَن تسول له نفسه العبث بمقدرات الوطن،أليست تلك هي خطابات الحكومات المتعاقبة على حكم العراق ؟

اما الارض والانسانية ومفاهيم اخرى فانها تدخل في حيز ما يخدم الانظمة ويحافظ على استمراريتها وديمومتها حتى لو كان ذلك على حساب الجماهير واستقرارها؟

اما التفكك الاسري فهو واضح المعالم والاسباب في العراق لان جميع الانظمة استطاعت اختراق الاسر والعوائل بوسائل غاية في الخطورة والتهور فهي تارة تغري بالمال واخرى بدفع الضر فاصبحت الاسر تخاف من ابنائها الذين تربوا على ثقافات وقيم بعيدة كل البعد عن القيم الاصيلة والبناءة بسبب كثرة الحروب والازمات ويمكن لنا ان نتخيل ما تفرضه الحرب على الجماهير من ثقافات تعبوية يفرضها الواقع الذي يعيشه البلد حينها بعد ان تجيش الرؤى والثقافات كجنود في ثكنات الحرب ومعسكراتها وتجعل من حالات الطوارىء التي تفرضها على الجماهير سلوكا دائما بغض النظر عن ضروف البلد سواء كان يعيش في امن او عدم استقرار ومن كل تلك النتائج نستخلص أجيالا ليس لها تاريخ او حرص على تجارب الاخرين والاحتفاء بها بل ذهبت الكثير من الاجيال الى محاربة التجارب الكبيرة التي عاشتها إبائها وأهلها بدعوة عدم مواكبة العصر او ان تلك التجارب لاتصلح للممارسة والعيش مرة أخرى ناهيك عن حالات الاستخفاف القيمي الذي تمارسه تلك الاجيال فخرجت خاوية مستهترة بكل القيم والاعراف التي تطالب بمجتمع يعتمد على الاخلاق والنسيج المجتمي المتماسك الذي يعتبر الحرب والقتل والجوع والفقر ثقافات وسلوكيات مرفوضة انسانيا ومجتمعيا وحضاريا لان كل تلك الثقافات تحركها قوى واطراف لاتمت للانسانية بصفة؟

 

النظرة القاصرة للاحداث والتجارب:-

ما يميز المجتمعات المتمدنة عن غير من المجتمعات هو ان تلك المجتمعات تستفيد من تجارب من سبقوها بطرق مختلفة وكثيرة اهمها التوثيق والكتابة والصور والمحميات للكثير من متاحفها واماكن وجودها بالرغم من ان تلك التجارب او الاماكن لم يمر عليها سواء قرن او اثنين حيث تعتبر رمزا وطنيا كبيرا يفتخر به في المحافل والمناسبات بعكس مجتمعنا الذي لا تعرف فيه الاجيال الجديدة حضارة سومر او اكد او ثورة العشرين او الانتفاضة الشعبانية على سبيل المثال وليس الحصر بالرغم من ان تلك الحادثة لم يمر عليها سوى جيل واحد وان عرفوا فمعرفة سطحية لا ترقى الى مستوى الفهم والادراك والاستفادة منها باعتبار ان كل عشرت سنوات او عقد من الزمن تعتبر جيلا كجيل الستينات او جيل السبيعينات وهكذا..؟

واعتقد ان السبب الرئيسي لتلك الهوة بين الاجيال هي الانكار او الجهل المطبق الذي

يسيطر على اجيال عدة ولا اقصد ان في تلك الاجيال لاتوجد عينات استثنائية في الفهم والادراك وقراءة الاحداث قراءة مستفيضة، لكن برايي المتواضع لا تصلح لان تكون قاعدة يعتمد عليها في التقييم والاحصاء باعتبار ان( لكل قاعدة استثناء) وبالتالي فان اي حالة افتقار ثقافي او علمي يصاب بها اي جيل من الاجيال الحالية هو بسبب عدم استيعاب تلك الاجيال لدورها الانساني والثقافي الذي يمكن معه ان تسجل انجازا ملحوظا في سجل حركة التاريخ التي هي جزء من عجلته وعيناته؟

 

أسباب الافتقار الثقافي والقيمي:

1- من الأسباب الرئيسية التي حاولت أن تقف في طريق تقدم الاجيال هي محاولة أشغالهم عن دورهم وممارسة حياتهم العملية والعلمية التي دأبت السلطات الحكومية المتعاقبة عن طريق التجييش ألقسري ولمدد طويلة جعلت من تلك الاجيال محبوسة ما بين دورها الحضاري وبين الخوف من العقوبات الصارمة التي طالت الكثير منهم فجعلتهم يعيشون حياة ملئها الخوف والانكسار حيث كان مجرد عدم موتهم في تلك الحروب هو مغنما كبيرا لا يتاح للكل أن يفوز به فكانت النتيجة إطفاء لتلك الجذوة المتوقدة ، تلك الصفتان اللتان يتميز بها الشباب على غيرهم من الفئات العمرية الأخرى.

2- حالات الفقر المتعمد الذي تمارسه السلطات الحكومية على الجميع وخصوصا أجيال الحرب والأزمات فيصبح هذا الجيل او ذاك مشغولا بكيفية جلب القوت لأهله وتامين حاجاته البسيطة فيصبح حبيس الفاقة والفقر والخوف من المجهول فلأتهمه حينها متابعة ما يجري من أحداث وثقافات لأنها في الآخر تعتبر ترفا فكريا تنظر له الأجيال بعين اللامبالاة والاستخفاف فتكون هوة عميقة مابين هولاء الأجيال وتلك الثقافات والمسميات الأخرى لأنه يعتبرها غير ذو أهمية بالنسبة له وجل همه في تامين قوته اليومي؟

 3- عندما تعيش تلك الأجيال في خوف من السلطة تنشا فيها عقدة النقص والارتباك النفسي الذي يترك بصمات واضحة على سلوكيات الأجيال وحتى لا تقع فريسة سهلة للسلطة فأنها تختار حالة الانزواء السلبي الذي يجعلها في معزل عن المجتمع وأدبياته

وثقافته فلا يتمكن حينها من متابعة الأحداث ومعرفتها وتقييمها؟

 4- ثقافة العنف والحرب التي تبثها أجهزة إعلام السلطات الحاكمة تلك الثقافة التي تنشأ عليها تلك الأجيال فلأتعرف ما هو السلم والأمن والاستقرار فتنمو لديها أسباب التمرد وقسوة الطباع فتصبح ناقمة على المجتمع مبتعدة عن كل ما يؤمن به من قيم وأخلاق فلا يهمها الثقافة ولا الأخلاق ولا القيم فتعيش حالة (اللامنتمي) كما يصفها كولن ولسن فلا يمكن لها ان تكون مهتمة بحفظ ما يجري من أحداث وخزنها في ذاكرتهاكاجيال يمكن لهم أن يكونوا شهودا على ما يجري من أحداث ومداخلات تخص بلدنا الجريح وتؤرخ له؟

5- فقدان الشعور الجمعي فأصبحت تلك الأجيال تعيش لنفسها فقط بعيدا عن شعور الجماعة الذي يضفي عليها شيئا من الاستماع الى الأخر الذي سبقه أو الاستفادة من تجربته والإطلاع على مواطن القوة والضعف فيها ؟

 6- حالة الاغتراب والهروب من الواقع تلك السمتان اللتان كانتا تسيطران على تطلعات الأجيال المتعاقبة والتي فرضتها الحكومات اما بسياسات التسلط والضغط او خلق اجواءا يصعب معها الإحساس والشعور بالانتماء للوطن او لقيمها التي ربما تتاثر هي الاخرى بتلك المفردات باعتبار ما هو جائز ومسموح به مما هو ممنوع ويعاقب عليه من الثقافات التي تتبناها الاجيال في ظل الحكومات المتعاقبة؟

 7- لم تترك الانظمة التي حكمت العراق مجالا لمشتركات ثقافية وقيمية يمكن معها ان يعبر الجيل الذي سبق عما كان يؤمن به من قيم حضارية وثقافية استطاعت ان تخلق اجيالا نوعية استطاعت ان تبرز وتشق طريقها في جميع العطاءات الانسانية من ثقافة وادب وسياسة وفي جميع مرافق الحياة الاخرى؟

 8- عندما نمر بالكثير من السير التي تكون عيناتها من اجيال مختلفة نجد ان الصفة الغالبة على الاجيال اللاحقة هي  الكسل والاستسلام للنموذج الجاهز الذي تجد فيها تلك الاجيال ضالتها في التاثر والامتثال من غير ان يكون لها هوية تميزها عن غيرها من الاجيال باعتبار ان جيل الخمسينات او الستينات من أجيال القرن الماضي كانت بينهم الكثير من التواصل والجسور المشتركة من حيث الرؤى او الإبداع او المكونات الأخرى التي تركت بصمات واضحة في كافة المجالات الحياتية الا ان الفجوات الكبيرة والانقطاع التاريخي بين ما كان يتمتع به هذان الجيلان والاجيال اللاحقة خلق هوة ثقافية وقيمة كبيرة ربما لاسباب الحرب والحصار والخوف ومؤثرات اخرى جعلت من هذا التواصل مستحيلا وغير ممكنا فنشأت الاجيال اللاحقة وهي تعيش في فضاءات فارغة لأتعرف معها الخصوصية الحضارية او تراهن عليها لذلك فان اسباب التدهور ألقيمي الذي حصل في العراق على مدى اكثر من اربعة عقود كانت تلك هي اكثر الاسباب التي اثرت عليها وجعلت منها حالة مخاض عسير ذهبت معها الكثير من المنجزات التي كانت تغرد خارج السرب في سبيل خلق هوية جيلية يمكن ان تترك لها اثرا وتواجد في تاريخ الاجيال اللاحقة نفسها؟

اما اذا اردنا ان نقيم تلك الفترات المتسلسة في حياة الاجيال في العراق فيجب ان نقف على العوامل التي تساهم في تحديد هوية الجيل الذي يعيش في الفترة المحددة التي يقف شاهدا عليها ويوثق لها فمرة يكون الجيل بكامله متدينا يعتمد على ممارسه طقوسه الدينية باكملها ويعد كل ما عدا ذلك ليس له أهمية تذكر فهو متقيد بنظرية (تزاحم المهم مع الاهم) فيختار الاهم بنظره من اجل ان يعيش كما يحب وليس كما تتطلبه مرحلة جيله من الالتفات الى جوانب الحياة الاخرى من ابداع وثقافة وعطاء حضاري يستطيع معه ان يجمع بين ما يؤمن به من قيم دينية وبين ما يجعله اديبا او مفكرا او سياسيا او أي مسمى اخرفتنشأ لديه حساسية من كل فكر ونظرية لا تصب في نفس معتقده وتطلعاته فيكون الانغلاق هي السمة البارزة التي تحدد هويته وملا محه الاخرى.

ومرة يكون الجيل منفلتا لا يعتمد على أي قيمة يمكن أن توقفه او تجعل منه جيلا مسؤلا وواعيا فيرى كل ما نسميه حضارة وثقافة هي محض أسماء لا تشكل لديه أي اعتبار او اهتمام هذا اذا لم يتهم الأجيال السابقة بالغباء او الكره والاحتقار فتنشأ لديه عقدة النكوص عن كل القيم والاخلاق وعندها يكون هو البادئ في قطع التواصل الذي يمكن ان يساعد في عملية التلاقح ألجيلي الذي يستفيد منه في قراءة تجارب الآخرين والوقوف عليها والاستفادة منها؟  

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com