|
لا أدري من أين تأتي "الأهالي" بمثل هذه الطروحات، وهل يعيش الأستاذ حسين سنجاري في هذا العالم، أم أنه يهيم في عالم خيالي لا يوجد حتى في السماء، فالتسامحية التي ينشدها الأستاذ الكريم ليس لها صلة بأرضية الواقع، ولا يمكن لها أن تكون كما يريد، نعم قد يتحقق جزء ضئيل منه، أما أن تكون كما يريد فهذا من المستحيلات، وصورتها المطروحة يمكن وضعها على رفوف لم تخلق بعد، فالسماء التي يحلم الكثيرون أن يجدوا فيها حياة أفضل تختلف عن الواقع الإنساني، لا تتوفر فيها هذه التسامحية، وألا لماذا خلقت النار ووسائل التعذيب المختلفة، وهل التسامحية تعني التجاوز عن الأخطاء، والغض عنها وإلغاء القوانين الرادعة، أم تعني قبول الآخر والتجاوز عن الهنات التي تصدر منه على أمل الإصلاح والتقويم. ورغم أن المسيحية كدين سماوي من أكثر الأديان تسامحية في التعامل الإنساني، والدعوة لنشر الوئام والمحبة والصفاء بين الشعوب، والتجاوز عن الأخطاء والأساآت، ونظريتهاـ التي تثير سخريتنا نحن أصحاب السيوف والبطولات وعمالقة الذبح والقتل ـ "إذا ضربك على خدك الأيمن ، فأدر له خدك الأيسر" ألا أنها انحرفت عن مسارها الديني، واعتمدت وسائل القتل والدمار لتمرير أيديولوجيتها ، بعد أن هيمن محرفي الأديان، من دعاة السوء، الذين جعلوا الدين مطية لتحقيق طموحاتهم الدنيئة في السطوة والهيمنة والتملك، وعملوا المذابح التي يندى لها الجبين في قرون التخلف، مما دفع شعوبهم إلى لفظهم لفظ النواة، وحجرهم في الزوايا القصية، بأبعادهم عن النشاط السياسي، والحراك الاجتماعي، فوصلت تلك الشعوب إلى أعلى مراقي التقدم والتمدن والعمران، بعد تخلصها من القيود الضبابية التي وضعها الطواغيت ممن ارتدوا مسوح الرهبان الكاذبة، والطيلسانات المذهبة، وأخفوا خناجر البغي التي ذبحوا بها الملايين، بعد أن أدلجوا الدين، وعمقوا الخلافات على أمور ليست من صميم الدين، فالمعارك الطاحنة التي أشعلتها الكنيسة بدفع من ملوك الزمان، كانت لخلافات أتفه من التافهة على ما نقل المؤرخون، فقد حدث خصام تاريخي رهيب بين الكاثوليك والهيكونت سفكت فيه الكثير من الدماء، وعقد صلح بين الطرفين، وكان صلح كذب وخداع ومواربة، فكان كلا الفريقين يتأهب لخوض معركته الفاصلة، والقضاء على عدوه، فكان الكهنة في الكنائس يحثون المؤمنين!! على المذبحة علن، وقيل أنه أتفق مرة أن أحرقوا منزلا بمن فيه لتوهمهم أن الهيكونت يعقدون اجتماعهم فيه، ومن عجائب الجهل في تلك الأيام أن هذا الخلاف الذي ذبح فيه عشرات الآلاف كان منحصرا في أن حزب الإصلاحيين كما يدعون أنفسهم، كانوا يريدون الصلاة باللغة الفرنسية، وحزب الكاثوليك يريدون التقرب إلى الله باللغة اللاتينية، فلما نشبت بين الطرفين معركة (منكو نتور) الشهيرة، أبلغوا الملكة كاترين ـ والحرب لا تزال قائمة ـ أن النصر أستتب للهوكينوت ، قالت بملء البساطة"إذا سنتلو الصلاة بالفرنسية"ثم لما انجلت المعركة عن انتصار الكاثوليك قالت"الحمد لله أننا لا نسبحه ألا باللاتينية"ومن عجائب التعصب الديني تلك الأيام أن أحدهم وشى بجاره الكاثوليكي، بأنه ينتمي إلى الهوكينوت ، فأنقض الناس على ذلك المنكود انقضاض الوحوش الكواسر ومزقوه شر تمزيق، وقد وضعوا في كل عطفة شارع تمثالا للعذراء، أو لأحد القديسين وما أكثرهم تلك الأيام، وكان يقف إلى جواره عدة أشخاص من أجلاف القوم ، مدججين بالأسلحة، وإذا مر الناس دون أن يركعوا احتراما له، قتلوا شر قتلة، ثم تطورت الأمور بجمع التبرعات قسرا من الناس والمعارض يحرق في نارهم قبل نار الآخرة، والويل لمن يعترض على أوامر الرب. ولعل رجال الأديان الأخرى، سلكوا ذات الطرق ، وأتبعوا ذات الأساليب، في فرض هيمنتهم، وبسط نفوذهم، بما لهم من تأثير على البسطاء والسذج، ممن يشكلون الأغلبية، وما للفكر الغيبي من تأثيرات لا تثير التساؤل لإغراقها بالعمى العقلي، وإلغاءها لوظيفة العقل عند الإنسان، واعتمادها العاطفة في مداعبة التفكير، وتحريمها التساؤل عن العلل في الكثير من الأحكام والمقولات الجاهزة، التي هي ألأساس في كل فكر ديني ألهي وغير ألهي ، لأن الفكر الديني والعقل لا يمكن لهما ان يلتقيان، لذلك أرى أن التسامحية في ظل غياب العقل والتفكير المنطقي، لا يمكن لها أن تجد مكان، في ظل مواجهة غير متكافئة، ليس للعقل مكان فيه، ومع أطراف لا تؤمن بغير العنف ، ولكن كيف الوصول إلى التسامحية في ظل الأوضاع المتردية التي نعيشها الآن، وفي ظل هيمنة مطلقة لأفكار متطرفة تتصور أنها تمتلك الحقيقة وحده، ولها أن تمرر أيديولوجيتها بأجتثاث أي فكر بعيد عن فكرها المغلق، وهل بأمكان الوسائل العادية مواجهة مثل هذه الأفكار لمن يحملون السيوف، ويمتلكون وسائل الأعلام الموجهة التي تمرر أفكارها بمسارب شيطانية متلفعة بأبراد الدين، وهل يستطيع الأخرس مناقشة ذي اللسان السليط، وما توفر لهم من إمكانيات تستطيع التغلغل في كافة المناحي، وهل يستطيع الأستاذ سنجاري ومن لف لفه ممن لا يملكون غير قلم لمواجهة هذا الإخطبوط الذي هيمن على كل شيء، أنني أدعوا الأستاذ سنجاري لدراسة الواقع الذي نعيشه الآن، والتفاف الجماهير حول شعارات لم ولن تؤمن لهم في يوم من الأيام مستقبلهم الزاهر، وكيف أثرت فيهم الجماعات التي لا تعيش الواقع، أو تتمكن من تفسيره، ناهيك عن محاولة الانقلاب عليه لتغييره، واستطاعة قيادتها بعصا الدين، وهي تسعى لحتفها دون أن تدري بما ستواجهه، قانعة راضية، على أمل أن يمنحها هؤلاء الجنان الفساح والنساء الملاح. وأتساءل هل يستطيع الأستاذ سنجاري مواجهة الفكر السلفي الذي يحبذ القتل بأسم الدين، وهل يعتقد أن أفكاره الداعية إلى التسامح ، النابعة من علماني كافر، سيتقبلها الناس، وهل تستسيغ الناس حلاوة العلمانية على مرارة الفكر الآخر، أنهم يتجرعون الحنظل المغلف بالفكر الغيبي، ويلفظون العسل الواقعي لأسباب ليست خافية على الأستاذ الكريم، فالطبيعة التي وهبت الآخرين العقل، منحتنا العاطفة، وحجبت عنا سبل التفكير العقلاني، وجعلتنا أسرى الأوهام والخرافات، ولو قيض لسيادته الاختلاط ببعض الأوساط الشعبية، لكسر قلمه، وأحرق أوراقه، ولعن الساعة التي فك فيها الحرف، وأبتلى بالعلم، وردد مع المتنبي الكبير: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله*وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم، فهل تدري يا أستاذي الكريم، لو جاء اليوم أنشتاين بكل نظرياته وقال للناس 1+1=2 وقال أولئك أنها تساوي4 ، فستميل كفة الأخير، ويظهر أنشتاين بمظهر الخائب المندحر، فلو دعوت للقتل والذبح والفساد والتزوير والسرقة والنهب، لرأيت الملايين يلهثون خلفك، ليقبلوا يدك الكريمة، ولكن أن تدعوا لمكارم الأخلاق في زمن بلا أخلاق، فأن بضاعتك ستبور، لذلك أدعوك إذا كنت تريد الرواج لأفكارك، أن تمسك السيف بدل من القلم، وأن تغمسه بالدم بدلا من الحبر، وأن تلغي عقلك، وتنسى اٍسمك ، وتدعوا لما يدعوا له الآخرين، فسيكتب لأفكارك الرواج، ولأرائك القبول، وستصبح بين ليلة وضحاها من كبار المفكرين، وأعاظم الباحثين، ولا يبخلون عليك بصورة هنا أو نصب هناك، وستدخل التاريخ من أوسع أبوابه، بما قدمت لأمتك، بنشرك ثقافة القتل والغدر والاحتيال.ولو درست تاريخنا جيد، وخبرت موروثنا الشعبي، ودرست مناهجنا الدراسية، لعرفت ماذا نريد، وماذا نرغب، ولكنك درست ثقافة الآخرين فنحوت منحاهم، وتأثرت بأفكارهم، فالأولى بك أن تكون منهم، فمن يقرأ أفكارك يجدك من الهابطين من السماء وما أنت منهم...والسلام.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |