|
بودي أن يكون كل العراقيين قادة في بلادهم، وأن يتساوون في السلطات والمسؤوليات، لا تطبيقاً لليوطوبيا الفوضوية، بل تحقيقاً للمبدأ الإسلامي كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وإن كان لا مناص من نظام سلطوي فياليته يكون مثل أول ديمقراطية عرفها التاريخ، وأسسها العراقيون القدامى سابقين الإغريق بقرون، كانت المدينة السومرية العراقية في البدء بلا حكومة أو أي نوع من المناصب السلطوية، ولكن إن رصد أهلها اقتراب خطر ما، مثل حيوان مفترس أو غزاة هرعوا إلى عقد اجتماع لانتخاب رئيس مؤقت يسمى بلغتهم اللوجال Lugal للتصدي للخطر المتوقع، وما أن يزول التهديد حتى تنتهي مهمة الحاكم ويعود إلى صفوف الناس مواطناً عادياً، فأين هذا اللوجال لينقذ العراقيين الأبرياء من سطوة الإرهابيين البرابرة والسياسيين الفاسدين والإداريين المرتشين وقطاع الطرق؟ والأفضل من كل هذا وذاك نظام سياسي تتجسد فيه القيم والمباديء السامية الموروثة، لا تعصباً لمنهج الأباء والأجداد، بل لأن قيمنا إنسانية ومتسامية، عرفها وطبقها الأولون منا قبل ابتداع الغربيين المتأخرين جانباً منها، وتسابقهم إلى تسجيل براءة إختراع احتكارية بها. ولابد لنا من قائد، لا مجلس قيادة مثل ذلك النمط البعثي سيئ الذكر، ولا مجلس سيادة مثل الذي اصطنعه عبد الكريم قاسم، ولا قيادة جماعية لتهميش الشيعة كما يريد الطالباني ومن وراءه، فكما تحتم قواعد السياسة والإدارة والتنظيم الغربية والشرقية لابد من رأس واحد لا أكثر، وأي شيء يكون ذا رأسين أو أكثر غير مسخ أو وحش أسطوري؟ ولكننا لا نريده زعيماً أوحداً يسب الإستعمار والإمبريالية ويعمل على شاكلتها تقسيماً وتمزيقاً في الجسد العراقي، ليكسب مزيداً من الوقت لحكمه الديكتاتوري، بل نريده قائداً يؤمن بالديمقراطية والحريات والمساواة للجميع، ويحرص على حماية حقوق جميع العراقيين من دون تفريق أو تمييز، وليس له أن يكون قائداً مدى الحياة، وعندما تنتهي مدة ولايته يتنحى ليحل محله قائد آخر. بدأ حكم القادة الأتوقراطيين في العراق في عهد سرجون ونأمل إنقضاءه بزوال حكم صدام، ولكننا نضع أيدينا على قلوبنا من الفراع المفزع في القيادة، ونخشى من فلتة يثب من خلالها متسلط آخر، والغالبية العظمى من رؤوساء الفئات العراقية اليوم صغار بكل معنى الكلمة، ولولا خشيتي من جرح مشاعر قصاري القامة لسميتهم أقزاماً، وهم يفتقدون كل المزايا القيادية، فلا موقف مبدئي ولا شجاعة أدبية ولا جرأة في تسمية الأشياء باسمائها. في سنوات التيه والمنفى خارج الوطن قبيل سقوط النظام البعثي المتسلط كنت أردد بأن الطاغية صدام "مرآة سوداء للعراق والعراقيين"، أي أنه يختزل الكثير من صفات الشخصية العراقية المنحرفة، ولا اتذكر عراقياً معارضاً وافقني الرأي، فالجميع مصرون على أن شخصية صدام شاذة وطارئة على المجتمع العراقي، ولن اكتفي في الدفاع عن موقفي بالاستشهاد بأن الناس على دين ملوكهم وكما تكونوا يولى عليكم، وهو الواقع الناتج عن التأثير التطبيعي القوي للمجتمع على الحاكم وكذلك للحاكم وطبقة الحاكمين على فكر وسلوك الرعية، وهذا التأثير لن يكون فاعلاً إلا إذا وجد استجابة إجتماعية مناسبة، ثم سقط صدام وانتهى عهده، وفرح ضحاياه من الشيعة والأكراد بزوال الطغيان وبداية عصر الحرية والديمقراطية، ولم ينقض وقت طويل حتى تبين بأن شريحة لا يستهان بها من العراقيين على شاكلة صدام، في حنينها لعهد العبودية، والبعض منهم مستعدون للقتال والموت في سبيل إرجاع شبيه صنمهم السابق إلى سدة الحكم، كما دفع فشل الفئات السياسية الجديدة في حفظ الأمن وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة الكثيرين إلى الانتقاص من العهد الجديد والغمز من قناته من خلال إبراز عيوبه واخفاقاته مقارنة بالنظام البائد، واستنتج بأن لو لم يكن كثير من العراقيين على النهج المنحرف لصدام حسين لما دافعوا عنه وترحموا على زمانه. والسؤال الملح هو هل يعاني العراق من أزمة قيادة أم أزمة رعية أم كليهما؟ أجهض الاصطفاف الطائفي أي احتمال بظهور قيادة يرضى بها كل العراقيين، كما أن كاهل الجماهير العراقية مثقل فكرياً ونفسياً بإرث الحكم الطاغوتي وعقده وبالطائفية المستفيقة بعد سبات طويل، ولكن من أين ستأتي القيادة الفعالة؟ يقول دارسو القيادة بأن القيادة تكتسب ولا تورث، بمعنى أن الصفات الموروثة من ذكاء ومزايا شخصية أخرى ومكانة إجتماعية وغيرها لها تأثير محدود في صنع القادة مقارنة بالصفات المكتسبة مثل الثقافة والقدرات والمهارات القيادية والإدارية، مع التأكيد على عدم وجود قائد يصلح لكل الأزمنة والمواقف، فالسياسي الشهير ونستون تشرشل حقق نجاحاً تاريخياً مذهلاً في قيادة البريطانيين أيام ذروة المد النازي العسكري واستطاع أن يخرج بالأمة البريطانية من النفق المظلم إلى الانتصار، ولكنه لم يستطع الحفاظ على هذا المستوى من الأداء في زمن السلم، فكان مصيره الخروج من الحلبة السياسية غير مأسوف عليه. لا تهمني خلفية هذا القائد المنتظر للعراق، مادام مخلصاً للوطن والقيم الأصيلة ومحاسن الأخلاق، ولا اشترط أن يكون رجل دين أو علماني، وبالتأكيد نحن بحاجة لرجال دين متنورين لبث القيم والاخلاق السامية التي ينادي بها الإسلام وأديان العراقيين الأخرى بين الناس، لذا لا أعارض دخول رجال الدين المعترك السياسي بشرط عدم استغلال مكانتهم الدينية لاحتكار العمل السياسي وإقصاء الآخرين، في أيام الغربة سألت أحد رجال الدين الذي يشغل حالياً منصباً سياسياً بارزاً عن سبب عزوف رجال الدين الشيعة عن الأعمال والمهن، بينما نجد أن الكثير من رجال الدين المسيحيين من الرهبان والراهبات يعملون بالتدريس والطبابة وغيرها من المهن والوظائف مع عدم حاجتهم لذلك، فأجابني بأن العلم الشرعي يتطلب تفرغاً تاماً، وأنا مقتنع تماماً بأنه لو أدى كافة علماء الدين واجباتهم الدينية في تثقيف الناس دينياً وأخلاقياً لما تسلط علينا الطاغية صدام، ولما وصل المجتمع العراقي إلى حضيض الإرهاب والحرب الطائفية وقطع الطرق والفساد الإداري، فهل أكمل رجال الدين في العراق مهمتهم الدينية والإجتماعية ليلتفتوا لأمور السياسة؟ والجدير بالذكر بأن الشيعة الإيرانيين واللبنانيين يساندون قادتهم الدينيين لسجلهم وتضحياتهم ومزاياهم القيادية لا تنفيذاً لفتوى من مرجعية أو احتراماً لمكانتهم الدينية. أما رجال الدنيا، أو العلمانيون، فسجلهم السياسي يشوبه الكثير من النقاط السوداء، فقد قبل العديد من التكنوقراط المشاركة في حكومات الطغاة العرب من المحيط إلى الخليج كلاعبين ثانويين مجردين من الصلاحيات ، وأساءوا بذلك إلى سمعة العلم وأهله الحقيقيين، حتى أصبح التندر على التكنوقراط وأساتذة الجامعة المتهافتين على المناصب الحكومية مستساغاً، وهم أيضاً مطالبون باحترام الرأي الأخر، ولو فرضوا نظاماً أتاتوركياً لاستوجب الانقلاب عليهم. لنقر بحقيقة أن ظهور قائد يجمع عليه كافة العراقيين، أو على الأقل أكثرية من كافة الطوائف والفئات الدينية والمذهبية والعرقية حلم يقظة مستحيل، والمستطاع والممكن أن يكون فرداً تتمثل فيه الصفات الأساسية للقائد الناجح من حيث حسن نواياه وحرصه على تطبيق العدل والمساواة في التعامل مع جميع مكونات الشعب العراقي، كما يشترط أن يكون قوياً ومقتدراً، لا يتردد في تطبيق القانون والتصدي للخارجين عليه والعابثين بأمن الناس، والقوة والحزم مطلوبان لوضع حد للأخطار التي تهدد الكيان العراقي وأمنه واستقراره، ومصادر هذه الأخطار هي الإرهاب المحلي والخارجي والأمريكان وحلفائهم، وبعض النظم العربية، لذا يتوجب على القائد المنتظرسحق الإرهاب وطرد الأمريكان وإيقاف تدخل الأعراب السافر في شؤون العراق الداخلية. لا مناص من أن يكون القائد الآتي شيعياً، فالشيعة هم أكثرية العراقيين، وقد حرموا في الماضي من تسنم المناصب القيادية في بلادهم، ولن يقبلوا بعد اليوم بأقل من استحقاقهم الكامل في السلطة والمنافع، ولكن من المهم أن لا يكون شبيه الطاغية صدام حسين في تحيزه الجاهلي القبلي لأبناء مذهبه ومنطقته، وأرجح أن يكون مرتبطاً بالمؤسسة الدينية، وليس بالضرورة منتمياً لها، وقادراً على استثمار الدين كأساس لرأب التصدع في الوشائج الاجتماعية بسبب الطائفية والعنصرية والتعصب، ومن المهم أيضاً أن يكون منصفاً وقوياً وثابتاً في سياساته وموافقه، يمتلك من الشجاعة والثبات على المباديء ما يكسبه ولاء الأتباع المخلصين واحترام الآخرين، يتخذ من الأكفاء أعواناً ويستنكف عن الاستعانة بالمنافقين والوصوليين. بعد أشهر قليلة من دخول القوات الأمريكية وحلفائها إلى بغداد تنبأت لبعض معارفي من العراقيين في الغربة بأن الذي سيحكم العراق في المستقبل غير البعيد هو شيعي قوي، قادر على ملأ الفراغ الذي تركه صدام وحكمه التسلطي، وقد قابلوا نبوئتي بالاستهجان والاعتراض لأن الموجة السائدة هي الديمقراطية وحكم المؤسسات لا القادة الأفذاذ، فقلت لهم بأن معظم العراقيين وبغض النظر عن الاختلاف الفكري وحتى المذهبي يفضلون زعيماً قوياً، ومقابل توفيره الأمن ومقومات العيش الكريم لهم فإنهم مستعدون لاعطاءه أصواتهم ومساندتهم بصورة مطلقة، وهذا هو موقف الكثير من الشيعة في الوقت الحاضر، وسيؤيده معظم الأكراد بعد تيقنهم من استحالة تحقيق حلمهم بالاستقلال بسبب معارضة الأطراف الإقليمية، وكذلك السنة بعد يأسهم من العودة إلى الاستئثار بالحكم في العراق، فالعراق في نهاية المطاف بحاجة إلى قائد قوي قادر على تطبيق تسوية تاريخية بين الفئات العراقية الرئيسة الثلاث، مما يرجح فرص القائد الذي يتبنى مواقف ذات شعبية واسعة أهمها المطالبة بمغادرة قوات الاحتلال ومحاربة الإرهاب والاجتثاث الحاسم للبعث، وسيقبل به السنة العرب والأكراد المسالمون والراضون بنصيبهم العادل من الحكم والمنافع لأنه الأقدر على ضمان أمنهم وحقوقهم بعد مغادرة الأمريكان، وبالنتيجة سيتولد إجماع أو شبه إجماع بين كافة الفئات العراقية على القبول بقيادته. بالتأكيد لن يقبل الشيعة بأياد علاوي قائداً لهم وللعراق، ولن يكون هذا القائد من آل الحكيم كما يتمنون ويخططون، لاستهانتهم بعقول الشيعة وسعيهم لإرساء نظام الحكم السلالي والإقطاع الديني السياسي، أما حزب الدعوة فقد استنفذ رصيده الجماهيري بفعل انتهازيته في التهافت على السلطة، وتنازلاته للإرهابيين والبعثيين، ولم يحصد رئيسا الوزارة من هذا الحزب، أي الجعفري والمالكي، سوى الفشل الذريع، ولن ينسى ويغفر الشارع الشيعي للمجلس والدعوة تهاونهما في الدفاع عن أرواح مئات الألاف من الضحايا الشيعة وهدم مرقد الإمامين العسكريين، وسيخسران آخر مواقعهما نتيجة الانفجار الشيعي الشعبي المتوقع بعد انسحاب قوات الاحتلال وتفكك الحكومة المركزية، والتي ستحمل موجتها القائد الجديد إلى دفة البلاد، فهل ستكون صفاته وسيرته كما نتمنى أم غير ذلك؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |