|
لا يخلو التصور "الماركسي" لمراحل نمو وتطور المجتمع الإنساني, إبتداءا من "المشاعية" الأولى, وحتى العودة إليها في "المشاعية" الأخيرة؛ من نوع من التقاطع مع المنظومات الفكرية الأخرى, التي تفترق معه في مبادئ وأسس التفكير الفلسفي, وفي رؤيتها لأغلب المسائل الفلسفية المتداولة عبر العصور, وفي تصورها لمراحل نمو المجتمع الإنساني. إن الإختلاف في المبادئ والأسس والمنطلقات والبديهيات, التي تبتنى عليها نظرية أو فرضية أو منظومة فكرية ما وأخرى, لا يمنع من التداخل والتقاطع بينهما؛ ليس من باب توارد الأفكار, وإنما ـ في رأيي ـ هو نوع من تطابق الخبرات الإنسانية التي يمر بها المجتمع الإنساني ككل, متمثلا بأفراده إن الخروج من مرحلة "الإقطاع" إلى مرحلة "البرجوازية", التي عاصرها "ماركس" وغيره في ألمانيا وأوربا, يشابه في ثوريته الصناعية, المرحلة الحالية في ثوريتها "التقانوية" (التكنولوجية), التي يعيشها عالمنا المعاصر. وهي تمثل الواقع الإجتماعي الذي صدم المفكرين في أوربا آنذاك, فكان مولدا للكثير من الأفكار والنظريات الجريئة, التي مثلت ثورات فكرية جسدت شدة تلك الصدمة. لعل "الماركسية" كنظرية إجتماعية وسياسية, و ـ ربما ـ في بعدها الفلسفي العام, تمثل وليدا لتلك (الصدمة) من (العولمة الأولى) Cosmopolitan (العولمة البرجوازية). و"المرحلة الشيوعية" (أي مرحلة المشاعية المفترضة لدى الماركسيين), تمثل وليدا للواقع الناشئ من (العولمة الثانية) Globalization. يذكر "ماركس" في "البيان الشيوعي" أن: " حاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشعش في كل مكان، و من أن تستوطن في كل مكان، و من أن تقيم علاقات في كل مكان". فالمنطق السائد آنذاك, يشابه إلى حد ما المنطق المعاصر السائد ـ ظاهريا ـ لدى الدولة الأمبريالية الأولى وتوابعها حاليا. ولعله يعتبر الخروج الأول ـ اقتصاديا ـ من البعد المحلي أو القومي إلى البعد العالمي. نتيجة تضخم الإنتاج, المتمثل بالزيادة السريعة في كمية الإنتاج, في مقابل ثبوت نسبي لكمية الإستهلاك في الأسواق المحلية للكيانات المنتجة. مما دفعها ـ دفعا ـ للخروج من البوتقة المحلية. وهنا يكمن الفارق بين العولمتين, فالأولى تبدو ـ إلى حد ما ـ إضطرارية. مع محافظتها على الصبغة المحلية, وعدم القبول بالإندماج الثقافي. بينما تبدو الثانية مخططة ومستهدفة لذاتها! ولأسباب متعددة, وتدفع باتجاه الدمج الثقافي والفكري, أي سيادة نمط ثقافي محدد, هو النمط السائد في الدولة الأقوى والأكثر سيطرة على الإقتصاد العالمي. وربما مستقبلا النمط الذي تنشره الشركات العملاقة "متعددة الجنسيات", والتي سوف تتحكم بالإقتصاد العالمي وبوسائل الإعلام, في مقابل وسائل الإنتاج في العولمة الأولى. إن الشركات العملاقة سوف تكتسب قوتها الإقتصاديةـ غالبا ـ من رؤوس الأموال الطافية والعائمة والوهمية, في أسواق الأسهم العالمية, حيث يمكنها السيطرة على أكبر شركات العالم, بنوع من المقامرة التجارية, من دون صرف أي جهد إنتاجي واضح. إن (للعولمة الأولى) وفق "الرؤية الماركسية" بعدا فكريا أيضا, لكنه يبدوا ـ نظريا ـ (أكثر براءة!!) مما هو عليه في (الثانية) "الإمبريالية". إذ أنه (اندماجيا) وليس (دمجيا) حيث يذكر "ماركس" في "البيان الشيوعي": " والبرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج والإستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية... وما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكا مشتركا. والتعصب والتقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. ومن الآداب القومية والإقليمية ينشأ أدب عالمي"ّ. وهكذا نرى البعد "الفانتازي" والخيالي "للرؤية الماركسية", والذي أثبت عدم واقعيته فيما بعد, والناشئ ـ ربما ـ من الإفراط في الرؤية الجدلية للأفكار, كما عند "هيغل"؛ أو للأحداث والوقائع والمادة كما لدى "ماركس" نفسه. حيث يفترض أن تفاعلا بين الأفكار ينتج فكرا موحدا شاملا. وهذا ما يذكرنا ـ فعلا ـ بجدل "هيغل" أي بالسير فكري من نقيض الفكرة إلى التوفيق بين فكرتين. وكما هو واضح فإنه لا يخلو من نوع من الخيال, أو حتى السرد القصصي لأمنيات غير واقعية وتوفيقية! لا تخلو من البراءة! إذ لم تتلطخ بعد برؤية "نيتشوية" في التسلط والقوة, والتي تطبق حاليا بوجهها الثقافي, عن طريق السيطرة على وسائل الإعلام الهائلة القدرة, بالإضافة إلى وجهها المادي الحربي. ولعلنا هنا في أوربا وألمانيا خصوصا مقبلين على ثورة (كبيرة) من نوع ما!! فهناك تضخم كبير في كلف الإنتاج, وزيادة في أسعار المنتجات, ناشئ من زيادة أجور الأيدي العاملة, بسبب الازدهار في الأسواق (المحلية خصوصا) في فترات سابقة. والذي تسبب في حصول دفعة قوية للإنتاج, وتشغيل عدد إضافي من الأيدي العاملة, من أجل زيادة كميات الإنتاج. لكن مع عدم حصول زيادة في الإستهلاك (وخصوصا المحلي), أي: زيادة العرض مع ثبات كمية الطلب, في السوق المحلية ذات المداخيل العالية, والتي تتناسب مع كلف الإنتاج العالية. الأمر الذي لم يترك للمنتجين إلا خيار تقليل كلف الإنتاج, إما بتسريح أعداد كبيرة من العمال, مما يفاقم مشكلة البطالة. وبالتالي تحمل آثارها الإجتماعية والإقتصادية, وحتى السياسية. أو نقل المصانع إلى دول تكون فيها أجرة اليد العاملة منخفضة, وهذا أيضا يتسبب في تفاقم البطالة كما في الحل السابق, بالإضافة إلى إضعاف الوضع الإقتصادي للبلد؛ وطرد الإستثمارات الأجنبية, وغير ذلك. وهذا ما يحدث في ألمانيا حاليا. ولهذا الأمر تداعيات خطيرة جدا على العالم أجمع!! فقد يبحث البعض عن وسائل متعددة لحث المستهلكين على الشراء, منها ما هو شرعي ومنها ما هو غير ذلك. كإثارة الحروب والدمار, لخلق بيئات استهلاكية مستمرة مثلا, وقد يعيد التفكير الإستعماري من جديد. وبالرجوع إلى "البيان الشيوعي", نجد أن "ماركس" يصف لنا فترة (العولمة الأولى) أو (العولمة البرجوازية) بمواصفات تنطبق ـ نوعا ما ـ على (العولمة الثانية) الحالية, حيث يذكر التالي: "والبرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، تـشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة... و تجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، و ترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. و بكلمة هي تخلق عالما على صورتها". وهذا يناقض الفقرة السابقة! حيث ستكون الحضارة ـ هنا ـ ليست حضارة عالمية موحدة ناشئة من إندماج الحضارات معا, بل من سيادة حضارة معينة على الحضارات الأخرى وإلغائها" وهذا ما تسعى إليه العولمة الجديدة فعلا. ولا أعتقد أنها ستنجح بوسائلها الحالية. فعلى الرغم من كل الإمكانات الهائلة إقتصاديا وتكنولوجيا, فإنها لا تزال فقيرة في نواح أخرى كثيرة. لكن.. وبإجراء عملية (استقراء) بسيطة Extrapolation نجد أن الواقع الحالي, أي (العولمة المعاصرة), لا يؤدي إلى "المشاعية" المفترضة أو المتوقعة لدى الماركسيين أو الخير العميم وانعدام الملكية الخاصة حيث تنعدم الحاجة إليها. لأنه يسير باتجاه الإستقطاب (أحادي القطب) واحتكار القوة والتكنولوجيا والإعلام, وبالتالي الإستقطاب الثقافي والإيديولوجي, ناهيك عن الإستئثار بالموارد الطبيعية, الذي سيتضح أكثر كلما زاد تعداد البشر على الأرض, وقلت الموارد التي تغطي حاجتهم. لذا نجد أن افتقاد عوامل كثيرة كما هو عليه الحال الآن, سوف لن يؤدي إلى (الفردوس الأرضي) المتوقع, والمأمول ليس من قبل الماركسية فحسب, بل من قبل الكثير من الفلسفات والأديان. بل على العكس تماما, فإن استمرار جريان الأحداث على هذه الشاكلة, سوف يؤدي إلى مأساة إنسانية عظمى, وربما ستجد البشرية قريبا نفسها أمام طريق مسدود!! لا يمكنها الإستمرار عليه. وبالتالي الوصول بالحضارة الإنسانية إلى مرحلة الولادة الأخيرة! هنا تبدأ (المسيرة الحتمية) للمجتمع الإنساني بالإقتراب من تحقيق الشروط, أو الظروف المجمع عليها في كل الأديان, والمختلف في كيفيتها. والمأمولة في الكثير من الفلسفات, وإن اختلفت تسميتها, لكنها ـ على الأغلب ـ تؤدي إلى نتيجة واحدة. وهي ظهور حضارة إنسانية (متعالية) Transcendentalتمتلك جميع أدوات السيادة والإنتشار والتفوق, والعدل والخير بأعم معانيه. وتكون قادرة على دفع الظلم والجور والشر بأعم معانيه. والتي تستطيع جمع جميع أفراد النوع الإنساني تحت لواءها, من دون شعور أحد منهم بأنه مظلوم من أحد. هذه (الحضارة الحتمية) هي التي تسمى في الإسلام (عصر الظهور). وينتظرها المسيحيون واليهود. وحتى "البوذية" التي تنتظر "بوذا" الذي سيعود حسب اعتقادهم! وهي أيضا ما يسمى "بالمشاعية" لدى "الماركسيين", وإن اختلفت التفاصيل. وهي ناتج (العولمة الثانية) التي نراها تتجه لتوفير جوا ـ معقولا ـ لحكم الأرض من قبل قوة واحدة, كقرية واحدة! وقريب من هذا ما تخيله الرومان في قارة "أتلانتس", وما تخيله "توماس مور" في (يوتوبياه), ومن قبله "الفارابي" في (مدينته الفاضلة), ومن قبله "إفلاطون" في (جمهوريته).
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |