|
الأبادة الجماعية للعقول العراقية
المهندس رياض الكفائي لقد وهب الله العراق وعلى مرِّ العصور الكثير من الموارد الطبيعية والبشرية، مما أهله ليأخذ موقع الريادة في تطور الفكر الانساني والعلمي، فظهرت على ارضه أعرق الحضارات التي عرفها التأريخ. ولكنه أبتلي أيضا بأعتى الانظمة السياسية ظلماً وجورا ً وانتهاكاً لكل مقومات الحياة والحقوق التي يجب ان يتمتع بها الكائن البشري. وكما أضاع العراق الفرصة التأريخية التي حباه الله بها والمتمثلة بالمخزونات النفطية الهائلة في ارض الرافدين, لتستغل أيراداتها في تمويل حروب خاسرة مع الأخوة والأشقاء كذلك تضيع على العراق اليوم ثروته البشرية التي هي اهم عنصر من عناصر الإنماء والتطور لهذا البلد، ولما يتمتع به أحفاد سومر من صفات استقوها من ارثهم التأريخي وموروثهم الحضاري وهو سر ديمومتهم وصمودهم امام كل العواصف والتيارات العاتية التي عصفت بهذا الشعب الجريح ولا زال يقاوم كل تيارات الجهل والحقد والأطماع القادمة من الشرق والغرب وعبر المحيطات. إن من اخطر المؤامرات التي تحاك ضد هذا البلد هوهجرة العقول العراقية والتي تتمتع بكفاءة عالية نظرا للخبرات التي اكتسبتها جراء الظروف الغير اعتيادية التي مر بها العراق خلال الاربعين سنة الماضية. ورغم ان أعداداً كبيرة من العلماء العراقيين تمكنوا من الهرب إبان فترة حكم صدام بسبب عوامل الاستبداد وانعدام العدالة والظرف الاقتصادي الخانق، الا ان ما يحدث الان هو عملية مبرمجة تقف وراءها دوائر اقليمية وعالمية بغية افراغ العراق من كل مكنوناته العلمية وطاقاته البشرية .
وهنالك عدة عناصر تفاعلت في تحقيق هذه الظاهرة نوجزها بما يلي. 1- افرازات الحرب العراقية- الايرانية: شن العراق حربه الدامية على ايران بتفويض من الغرب . وكانت امريكا ومعها اوربا تدعم العراق على المستوى المخابراتي والتقني والتسلح مع توظيف كافة أساليب النفاق السياسي لإطالة أمد الحرب, وقد رافقت العمليات العسكرية ثورة علمية هائلة في كافة مؤسسات الدولة لدعم التصنيع العسكري تجاوز فيها العراقيون جميع الخطوط الحمراء التي وضعت امامهم , فأزدهرت الجامعات ومؤسسات البحث العلمي ووزارات الدولة بمختلف البحوث التي تخدم المجهود الحربي فضلا عن الابحاث التي تقوم بها منشأت التصنيع العسكري والطاقة الذرية والتي كانت على مستوى عال ٍ جدا . فقد أضطرت هذه المؤسسات الى إيقاف استيراداتها للعناصر الحرجة في برامجها واللجوء الى الابحاث ومن ثم تفعيلها لتصنيع الاجزاء المطلوبة بغية الحفاظ على سرية البرامج ومراحل التصنيع ، وهذا ادى الى اكتساب الملاكات العراقية مهارات فائقة تفجرت عند اعادة اعمار العراق في 1991. ولعل أهم إفرازات هذه الحرب العبثية، التي توقفت عملياتها العسكرية في 8-8- 1988،هو تضخم الماكنة العسكرية العراقية وظهورها كقوة اقليمية هائلة بإستطاعتها تهديد اسرائيل والدول الاقليمية ، و لابد من إنزال الدمار الشامل لهذه القوة وإبعادها عن معادلة الصراع العربي- الصهيوني ، فضلاً عن بروز صدام حسين في الساحة العربية كبطل للنصر والتحرير القومي، وقد تمكنت الابواق الاعلامية المدعومة من ترسيخ هذا المفهوم وتضليل الشارع العربي بالنصر المزعوم. الى ذلك بذلت الدوائر المخابراتية جهودا كبيرة لإيجاد فخ يتناسب مع طموحات صدام وأحلامه المريضة بغية القضاء التام على هذه الماكنة. فكان احتلال الكويت هو الخيار الامثل لتدمير قوة وبنية العراق. وقد باركته الولايات المتحدة واعطت الضوء الاخضر، عند لقاء السفيرة الامريكية في العراق مع صدام حسين. وبعد أحتلال الكويت انقلبت امريكا على حليفها الذي اطلق صرخته عند بدء عمليات تحرير الكويت في البيان رقم واحد.. وغدر الغادرون. وتمكنت لاحقا امريكا من هزيمة الجيش العراقي في عاصفة الصحراء مع تدمير كافة البنى التحتية للعراق. ولكن ما تعلمه الإدارة الأمريكية عن الانسان العراقي الذي يمتلك هذه الخبرات والطاقات الخلاقة فضلا ً عن المخزون التاريخي أنه سوف لن يعترف بالهزيمة مطلقا، ولا بد من وضع الخطط اللازمة للقضاء على جميع طاقاته ومكنوناته . ولإثبات ذلك سأروي لكم إحدى الحقائق التي واجهتها خلال عملي كمسؤول عن اعمار الشبكات الكهربائية للمنطقة الجنوبية في حينها . وكما هو معلوم فأن خطوط نقل الطاقة الكهربائية تمتد الاف الكيلو مترات في كافة انحاء العراق وتحوي على أكثر من 170 محطة ثانوية في ذلك الوقت . وقد تضررت المحطات الثانوية في المنطقة الجنوبية جراء القصف الجوي المكثف والتفجير المباشر بنسبة 50% تقريبا من السعات المتاحة، في حين تم قصف معظم خطوط نقل الطاقة الكهربائية للضغط العالي والفائق ضمن حدود المنطقة الجنوبية الا أن المفاجأة الكبرى كانت عند شروعنا بالاعمار. فقد وجدنا معظم مسارات خطوط نقل الطاقة الكهربائية قد تم زرعها بالألغام الأرضية المتنوعةالتي كانت تلقى بحاويات من الجو لتكون بذلك مصيدة للكوادر الفنية التي تقوم بعمليات الإعمار, ونفس الشيء حدث بالنسبة للمحطات الثانوية ، وقد فقدنا عدداً من الفنيين نتيجة لإنفجار بعض هذه الالغام ، رغم ان فرق الهندسة العسكرية قد طهرت مناطق العمل ومداخلها و كانت تعمل معنا جنبا الى جنب . فهي أيضا قد فقدت عدداً من عناصرها. وأما السؤال المطروح فهو ان مسارات هذه الخطوط الممتدة في الصحراء لا يصلها الا المهندس والفني العراقي وبعض رعاة الغنم , فما هو سبب زرع هذه المسارات بالالغام؟ والجواب واضح هو استهداف المهندس والفني العراقي وكذا الحال لكافة المنشأت الصناعية والعلمية والطبية في العراق والتي هي مؤسسات مدنية ليس لها علاقة بالحرب او المجهود الحربي فكان الهدف هوإستهداف العقل العراقي. 2- حاجة الشركات الامريكية الى أسواق دائمية العنصر الاخر هو حاجة الشركات الاجنبية ولا سيما الامريكية الى أسواق دائمية لديمومة النمو الأقتصادي وأستمرارية عمل الشركات التي غالبا ما تكون مرتبطة بشكل أو آخر بآخذي القرار في قمة الهرم السياسي للدول الغربية. وقد شمل هذا جميع دول العالم الثالث وبالأخص الوطن العربي .فقد اقسم الغرب على ان يحول البلاد العربية و الاسلامية الى سوق استهلاكية للشركات الاجنبية فلا يسمح لهذه الدول بأمتلاك ناصية العلم والتوسع في الصناعات الثقيلة أوالعسكرية بل الإنزواء في خانة الصناعات الخفيفة كألمعجنات والالبان وبعض الصناعات الحرفية البسيطة . وقد استخدمت عدة اساليب للحيلولة دون نهوض هذه البلدان بل إضعافها وتمزيقها من خلال خلق الحروب والصراعات الطائفية والعرقية بينها فضلا ً عن زرع الكيان االصهيوني في قلب الأمة العربية ليستنزف كافة ثروات ومقدرات الامة . وهذا ادى بدوره الى انهيار اقتصاديات هذه الدول وأرتفاع معدلات التضخم وضعف القوى الشرائية لدى المواطن مما جعله يتطلع الى العالم الخارجي والبحث عن مصادر للعيش الكريم. ولتقريب الصورة الى الاذهان فقد كان متوسط راتب الاستاذ الجامعي في العراق في عهد صدام لا يتجاوز 5 دولار شهريا. في حين ما يتقاضاه الاستاذ الجامعي في استراليا مثلا اكثر من 100 دولار للساعة الواحدة. وهذا ينطبق على معظم الدول العربية والاسلامية وبشكل متفاوت ولكن تبقى الحالة الأسوء هي العراق. لقد تبنت الجامعة العربية دراسة هذه المشكلة التي اصبحت من العوامل المهمة التي تقف حاجزا في طريق التنمية العربية من خلال استنزاف اهم عنصر وهو العنصر البشري والطاقات الخلاقة الموجودة فيه. وكي ندرك أبعاد هذه المشكلة وخطورتها على واقع البلدان العربية ومستقبل عملية التنمية نستعرض بعض الارقام حولها . فقد قامت الجامعة العربية ومنظمة العمل العربية ومنظمة اليونسكو وبعض المنظمات الاقليمية بهذه الدراسة التي اشارت الى ما يلي. _ يساهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية. _ ان 50% من الاطباء و 23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون الى اوربا والولايات المتحدة وكندا بوجه خاص. _ 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون الى اوطانهم. _ يشكل الاطباء العرب العاملون في بريطانيا حوالي34% من مجموع الاطباء العاملين فيها. واشارت الدراسة ايضا الى ان مستوى الانفاق على البحث العلمي والتقني في الوطن العربي يبلغ درجة متدنية بالمقارنة مع بقية دول العالم , والذي لايتجاوز في افضل حالاته نسبة 0.2% من اجمالي الموازنات العربية. في حين اشارت دراسة أخرى اعدها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في الامارات الى ان الدول العربية تتكبد خسائر مذهلة لاتقل عن 200 مليار دولار سنويا بسبب ما يعرف بهجرة العقول العربية الى الخارج .وهناك دراسة أخرى أعدها ريغين برينر استاذ دراسات الاعمال في جامعة ماكجيل الكندية في كتابه القرن المالي حيث ذكر ( في ظل اقتصاد العولمة سيذهب البشر والاموال الى حيث يمكنهم ان يكونوا مفيدين ومربحين.ففي كل عام يغادر ما يقدر عددهم بنحو 1.8 مليون من المتعلمين ذوي المهارات والخبرات في العالم الاسلامي الى الغرب. واذا افترضنا ان تعليم احد هؤلاء المهاجرين يكلف في المتوسط عشرةالاف دولار, فأن ذلك يعني تحويل 18 مليار دولار من الاقطار الاسلامية الى الولايات المتحدة كل عام). 3- الارهاب المنظم: العنصر الثالث هو الارهاب المنظم الذي يتعرض له الانسان العراقي حصرا وخاصة الكفاءات التي وصلت نسبةهجرتها الى مديات خطيرة جدا على مستقبل حضارة هذا البلد . فهنالك استهداف للعلماء والمهندسين والاطباء و الكوادر الوسطية من عمال وفنيين فضلاً عن النخب الثقافية والفكرية والدينية ادى الى نزوح ما يقارب 4 ملايين من هذه الطاقات لمختلف بقاع العالم بحثا عن الامان الذي انعدم في ارض الرافدين نتيجة ً للإحتلال الامريكي وضعف المؤسسات الامنية في العراق . وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من ان أحد أهم الدوافع الحقيقية لهذه العمليات الأرهابية هو تهجير اكبر عدد ممكن من الكفاءات والخبرات العراقية وافراغ البلاد من اهم عنصر من عناصر التنمية واعادة الاعمار. ان هذه الكوادر هي التي أعادت بناء العراق بعد عاصفة الصحراء التي شكلت منعطفا جديدا لشكل الحروب المستقبلية بشموليتها التدميرية وتبنيها أساليب الارض المحروقة . فقد تم اعادة إعمار معظم ما دمرته الحرب بكوادر عراقية دون الحاجة الى اي خبرات اجنبية وهي تجربة رائدة اذهلت الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتوقع ان تعيد العراق الى حقبة العصور الوسطى ولن تسمح بإعادة هذه التجربة ثانية. وهو مايفسر فشل الحكومة الحالية في إعمار العراق ، لأن ذلك سيستقطب معظم الكوادر التي غادرت العراق وسيقضي بشكل نهائي على البطالة فضلا عن أن هذا الاعمار هو حصة الشركات الامريكية بغية استنزاف أكثر ما يمكن من ثروة العراق. وبالتأكيد هنالك عناصر اخرى ساعدت على هجرة العقول والكفاءات العراقية لاسيما الصراعات الحزبية والطائفية وتفشي الجهل، و ضعف الوعي الجماهيري و نظام المحاصصة والفساد الأداري والمحسوبية ولكنها جميعا كانت افرازات للعوامل الثلاثة اعلاه . ثمرة هذا البحث تؤكد: أن ما يحصل الآن في العراق هو عملية إبادة جماعية للعقول العراقية عن طريق تهجيرها أو قتلها وهي عملية مخطط لها وتشرف عليها دوائر متعددة لها المصلحة في افراغ هذه المجتمعات من نخبها ومفكريها فضلا عن سرقة مواردها وتدمير بنيتها الاقتصادية والاجتماعية. وعلى مستوى التنفيذ تأخذ عدة اشكال كألحروب والصراعات الدينية والاثنية والفئوية وربما الخيرية ايضا . فقد قررت مؤسسة مليندا وبيل غيتس (مؤسس شركة المايكروسوفت وزوجته) وهي اكبر مؤسسة خيرية بالعالم وتحظى بأحترام كبير في الاوساط العالمية, تخصيص مبلغ قدره 5 ملايين دولار لتمويل مبادرة جديده لنقل 150 باحثا وعالما من العراق ممن يواجهون تهديدا يعرض حياتهم واسرهم للخطر وهؤلاء العلماء سيتم نقلهم الى الاردن حيث تأمل هذه المؤسسة ان يتمكن علماء العراق واساتذته من مواصلة مهامهم وتدريس طلابهم عن طريق المحاضرات التلفزيونية والتعليم عن بعد. واشارت صحيفة الفاينانشل تايمز البريطانية التي اوردت الخبر ان الكونكرس الامريكي قد خصص مبلغ 5 ملاين دولار اخرى لنفس الغرض !! . وآمل ان تكون النوايا حسنة نظرا للسمعة الطيبةالتي تتمتع بها هذه المؤسسة الخيرية والا فأن الشعب العراقي يذبح يوميا بالاموال التي تجمعها الجمعيات الخيرية المنتشرة حول العالم . وللشعر بقية / حفني ناصيف ذهب َ الخيرُ وسارت أهلهُ ***** وعلى الحر ِ فسيح الكون ضا قْ فتبصرْ لزمان ٍ قد بغى الناس ُ ****** فيه وتنادَ وا بالشـــقاقْ وأضاعوا العُرفَ فيما بينهم ***** وعلى ا لمنكر ِ قد شدّوا النطاقْ أحسنُ الناس لديهم عيشة ً ****** أقدرُ الناس على صُنع ِ النفاق ْ
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |