|
بعد شن القوات الأمنية العراقية بمساعدة القوات الأمريكية المحتلة غارة على مساكن جماعة جند السماء على تخوم النجف الأشرف في مطلع العام الحالي وقتلها المئات منهم في ظرف ساعات من دون أن تتكبد خسائر تذكر كتبت مقالة ضمنتها بعض التساؤلات حول هذه العملية ونتائجها المأساوية على الصعيد الإنساني وكذلك أبعادها السياسية المقلقة، في حينها اتهمت الحكومة المركزية والإدارة المحلية جند السماء بالتآمر لإغتيال مراجع الدين الشيعة وإثارة أحداث عنف وشغب وفوضى بغية الاستيلاء على السلطة، ولكي تكتمل الصورة الشريرة لجند السماء التي أرادت الجهات الحكومية المركزية والمحلية زرعها في أذهان العراقيين والشيعة على وجه الخصوص ألصقت بهم تهمة الإرتباط بحركة القاعدة الإصولية الإرهابية، وبعد انتهاء العمليات العسكرية وعدت الحكومة بإجراء تحقيق قضائي مستقل وإعلان النتائج على الملأ العام. كعادتها لم تفي الحكومة بوعودها للبرلمان العراقي والعراقيين، فلا تحقيق تم ولا تقرير حول نتائجه نشر، وبقيت التساؤلات المطروحة حول مبررات عملية إبادة حركة جند السماء بدون إجابات وافية، فلازلنا نجهل حقائق أساسية حول فكر هذه الحركة ومرجعيتها الدينية وهيكل قيادتها، ولا بد من التذكير بأن كل الأدلة التي سوقتها الحكومة العراقية والإدارة المحلية في النجف الأشرف ضد جند السماء واهية وغير مقنعة، فلم يثبت امتلاكهم للمقومات التنظيمية والفكرية واللوجستية لتنفيذ مؤامرة صعبة وخطيرة تستهدف مراجع الشيعة وأمن مدنهم الرئيسة، كما أظهرت الصور التي بثتها وسائل الإعلام العراقية عن جند السماء واستعدادتهم العسكرية المزعومة بعض الأسلحة القديمة المتفحمة وسدة ترابية قيل بأنها تحصينات عسكرية وبيوت مزرية من طين وجثث أعضاء جند السماء المقتولين على أيدي القوات الأمنية والقوات الأمريكية المحتلة، ولم تقدم الجهات الحكومية المسئولة أي أدلة وبراهين على إرتباط جند السماء بتنظيم القاعدة السني الإرهابي، وهو إدعاء واه وغير مقنع تماماً لأن القاصي والداني على يقين من استحالة موافقة القاعدة على التحالف أو حتى التنسيق مع أي فصيل شيعي، وبالأصل فإن تهمة التآمر هي تاريخياً وسيلة الحكومات الديكتاتورية المفضلة للتخلص من معارضيها، تحت غطاء "قانوني" مزيف، وقد استخدمتها الحكومات التسلطية التي تعاقبت على حكم العراق منذ سقوط الحكم الملكي مرات عديدة للتخلص من مناوئيها، وكان من بين ضحاياها أعضاء في الحركات الشيعية مثل المجلس الأعلى وحزب الدعوة. هنالك حقائق معروفة للجميع حول تعدد انتماءات العراقيين الدينية والمذهبية والمدارس الفقهية ضمن المذهب الواحد، ومن المؤكد بأن نشوء حركات دينية مبتدعة منغلقة أو باطنية، نتيجة فشل المؤسسات الدينية، أمر مستهجن، ولكن ليس من حقنا منع ذلك بالإكراه أو العنف، ويفرض مبدأ سيادة القانون واحترام الحريات والحقوق على الحكومة العراقية، لو توفرت لديها شكوك قوية حول النوايا العدوانية لجند السماء، استصدار أمر قضائي باستدعاء الأشخاص الذين تحوم حولهم هذه الشكوك للمثول أمام القضاء، ومن ثم إرسال قوة من الشرطة للقبض عليهم، ولو امتنعوا عن تسليم أنفسهم فإن الخطوة التالية هي التحاور معهم مباشرة أو من خلال طرف ثالث، ومن ثم فرض حصار حولهم ودعوة غير المسلحين منهم إلى الخروج من مواقعهم، ولا يكون اللجوء إلى القوة لإلقاء القبض عليهم سوى البديل الأخير والمكروه، ولكن القوات الأمنية العراقية والجيش الأمريكي المحتل بدأوا من حيث يجب أن ينتهون، أي بالهجوم على جند السماء واستعمال الأسلحة الثقيلة في قتل المئات منهم، فهل كانت مقاومة جند السماء الهزيلة دفاعاً عن النفس أم استماتة أصحاب عقيدة؟ لو كان قتالهم للقوات العراقية أشبه بقتال تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي للجيش اللبناني الذي لم يستطع القضاء عليهم إلا بعد ثلاثة أشهر لربما تعززت الإدعاءات الرسمية ضدهم، لكن دفاعهم الهزيل الذي انتهى في سويعات يثير الشكوك في صحة تهمة التآمر الموجهة لهم ويرجح بأنهم كانوا في حالة دفاع عن النفس بعد مباغتة القوات العراقية والأمريكية لهم. على الرغم من وحشية النظام البعثي البائد وعدم اكتراثه بالرأي العام وبحقوق العراقيين فقد كان يعمد بعد إعلانه عن اكتشاف مؤامرة حقيقية أو مزعومة إلى استعراض بعض المتهمين بالمشاركة فيها في وسائل الإعلام ليدلوا بـ"اعترافاتهم" حول ضلوعهم بالمؤامرة، والتي حصل عليها بالتعذيب والترهيب، قبل محاكمتهم صورياً وتنفيذ أحكام الإعدام بحقهم، ولكن الحكومة العراقية المنتخبة استهانت بعقول وضمائر العراقيين تماماً حينما لم تقدم لهم الأدلة على جرم جند السماء ثم بدأت حملة اعتقالات ضد أعضاء الحركة في وسط وجنوب العراق. بالأمس القريب أصدرت المحكمة الجنائية في النجف الأشرف أحكاماً قضائية بإعدام عشرة من أعضاء الحركة وبالسجن المؤبد أو لمدد مختلفة على مئات آخرين، بتهمة اشتراكهم في " أحداث الزركة"، وهي واقعة هجوم القوات الحكومية على مساكن هؤلاء الجماعة الذي انتهى بمقتل المئات منهم والقبض على المتبقين وتشرد نسائهم وأطفالهم، وتعيد هذه الأحكام إلى الأذهان ودائرة الإهتمام كل التساؤلات حول الجرائم المنسوبة لجند السماء، والتي لم تبرهن الحكومة على صحتها، وقد قابل الرأي العام العراقي هذه الأحكام بعدم إكتراث، وفيما يكتب مثقفو العراق يومياً حول كل المواضيع العراقية الساخنة وأحداث المنطقة والعالم لم يتطرق أحد منهم لهذا الموضوع من بعيد أو قريب، ومن الواجب على جميع العراقيين المنصفيين مسائلة الحكومة حول هذه القضية ومطالبتها بإيقاف تنفيذ الأحكام الصادرة بحق هؤلاء المتهمين للتأكد من عدالتها واستيفاء إجراءات التحقيق والمحاكمة للشروط القانونية وعدم تأثرها بالضغوط السياسية، وفي حالة عدم استجابة الحكومة لهذه المطالب المشروعة فستتعزز الشكوك بأن الموضوع برمته مؤامرة حكومية لتصفية مجموعة ذات صبغة دينية وسياسية تخوفاً من تعاظم حضورها الشعبي وتحولها إلى منافس رئيس للأطراف المحلية الممثلة في الحكومة. هذا تحدي كبير للمثقفين العراقيين النشطين في الحقل السياسي، وبالأخص المنادين باحترام الحقوق والحريات وسيادة القانون، ويحتم عليهم التصدي لهذه القضية لكشف كافة جوانبها، لأن بناء المجتمع الديمقراطي العادل لا يتحقق بالتمني أو بالاعتماد على قوات الإحتلال فلا بد من وقفة شجاعة وموقف صلب، وأذكرهم بدفاع الروائي الفرنسي المشهور أميل زولا عن الحقوق الدستورية لدرايفوس، الضابط المفصول ظلماً، والذي أفضى به لدخول السجن، ليس حباً بدرايفوس، وإنما لحماية الديمقراطية وتأسيساً لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، ولو اختار مثقفونا السكوت على هذا الأمر فلا يعتبون إن لم يقرأ أو ينصت لهم أحد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |