|
قابلتها في ستينات القرن الماضي، سيدة عراقية، قوية الشخصية، أخت الرجال بحق وحقيق، لاتتردد في إبداء رأيها، وإن لم ينفع الكلام في تعديل المعوج استعملت يداها، تعودت على الاصطياف في جبال لبنان كل سنة، تقضي شهرين من كل عام في أحد فنادق بحمدون بصحبة ابنتيها، يذكرون لها قصة مثيرة مع أحد سواق الأجرة، ويعرف زوار لبنان في تلك السنين مدى جبروت بعض سواق الأجرة، وكانت القصص المتداوالة والمنشورة في الصحف عن بقرهم بطون ركابهم الرافضين دفع كامل الأجرة أو لغيرها من توافه الأسباب تبعث الرعب في أوصال المواطنين والسائحين، وما أكثر المشادات الكلامية بينهم حول أولوية المرور في شوارع بيروت الضيقة والمزدحمة، والتي تتفاقم أحياناً إلى قتال بالسلاح الأبيض أو الناري، وما يهمنا هنا بالذات سائق الأجرة سيء الحظ الذي أهوت عليه سيدتنا العراقية بصفعة مدوية، بعد أن اسمعها كلاماً خشناً، عن سوء فهم لا نية، ولكن سيدتنا لم تدع مجالاً للسؤال والاستدراك فعالجته بصفعة قوية، فاجأته وأذهلته، وقبل أن يستعيد رباطة جأشه وينقض عليها بموسى حلاقة أو يطلق عليها النار من مسدسه، حال بينه وبينها زملاؤه من سواق سيارات الأجرة ومستطرقون، كان زملاء المهنة والكدح عارفين ومعجبين بأخلاق سيدتنا العراقية التي تأبى الضيم، ولا تتوانى عن انتزاع حقها بيدها، وفي اليوم التالي أقنعوا زميلهم المصفوع باصطحابهم إلى فندق السيدة العراقية لتقديم الإعتذار لها. جمعني وإياها مجلس ضم ابنها وآخرين، كانت تجلس مقابلي عندما قدم لي أحد الجلوس قطعة علك للمضغ فرددتها شاكراً، رمقتني بارتياح وقالت: "العراقي لا يعلك!"، فرحت لأني نلت رضاها، ولأني عراقي متميز عن غيري في نظرها ولو بعدم مضغ العلك أمام الناس، ثم وقع بصري على ابنها الجالس بجانبي فإذا به يمضغ العلك بهمة ونشاط الأمريكان، وقلت لنفسي لعله المقصود بالملاحظة لأنه ترك العراق وأهله منذ سنين واستوطن أمريكا وتزوج بأمريكية، فاقترف أسوأ المعاصي في نظر إمه العراقية الفخورة بقيم وتقاليد مجتمعها، بدا ابنها غير عابء بملاحظة أمه اللاذعة، بل تمادى في المضغ بصوت عال. من قبل أبتليت هذه السيدة بزواج ابن آخر بسيدة سويسرية، جاء بها زوجها لزيارة أهله في العراق، وبعد أيام قلائل ودعتهم لا بالشكر على حسن الاستضافة والترحيب والهدايا الثمينة بل بوصفها لهم بكلمة واحدة هي:sauvage أي متوحشين أو متخلفين بالفرنسية. يتذكر معارفها كلمات مشهورة لها، كانت يومها تقرأ صحيفة لبنانية، وكانت معظم الصحف اللبنانية تخصص إحدى صفحاتها لأخبار الحوادث، ولعلها الصفحة الرابعة، إن لم تخني الذاكرة، استرعى اهتمامها خبر القبض على قصاب، تبين بعد التحقيق والاستجواب بأنه يبيع لحم الكلاب لزبائنه، وما أن أكملت سرد ما قرأته على جلسائها حتى علقت بقولها: العراقي لا يأكل لحم الكلاب! لا تكتمل صورتها المخزونة في الذاكرة من دون ذكر كفنها، الذي لم يكن يفارقها في ترحالها، وأجزم بأنها كانت الوحيدة التي تحمل كفنها معها إلى المصيف، ولا أخفي جهلي المطبق بسبب ذلك، لعلها تذكرة للنفس بأن الموت يأتيها ولو كانت مصطافة في جبال لبنان السامقة، أو لأنها تريد أن تدفن في كفن عراقي! لو كانت هذه السيدة القوية المسالمة على قيد الحياة لنصحت بوش بالرحيل سراعاً من العراق قبل أن يركل مؤخرات جنوده العريضة إلى خارج بلادهم لا الإرهاببيون القتلة ولا البعثيون المجرمون حلفاء أمريكا السابقون بل المستضعفون المؤمنون الذين طردوا البريطانيين من البصرة، ولطلبت من بوش نبذ أفكاره الغبية حول إعادة تكوين العراق على غرار تجربة أمريكا في اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية لأن العراقيين، وعلى عكس اليابانيين، أمة أصيلة لم تستورد ثقافتها وديانتها معلبة من الصين، والعراق على طرفي نقيض مع الكوريين الجنوبيين، لأنهم اولاً لا يأكلون لحم الكلاب، وثانياً لأنهم آخر من يرضى بوجود قواعد للأمريكان أو غيرهم على أراضيهم، ولا استثني من ذلك سوى العراقيون الذين يتعلقون بثياب الجنود الأمريكان خوفاً من انسحابهم المفاجيء و ينادون بإقامة روابط استراتيجية مع الحكومة الأمريكية والسماح لها بإقامة قواعد عسكرية دائمة، والذين لا يستنكفون من المصالحة مع الإرهابيين والبعثيين ذابحي البشر في سبيل الحفاظ على مناصبهم التسلطية، لذا لن نعجب لو أكل هؤلاء المستثنون من العراقيين لحم الكلاب.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |