|
"كلوا واشربوا من رزق الله ولاتعثوا في الارض مفسدين" البقرة 60 مدخل ان التغييرات الحاصلة في العراق حاليا تمنح فرصا وتلوح في نفس الوقت بتهديدات و تحديات. و للتاثير على التطورات الجارية لاستخدامها لصالح ابناء الشعب في العراق نحتاج الى المخلصين المؤهلين من ذوي الكفاءة والخبرة للتعامل مع مايجري استنادا للمعرفة الموجودة لديهم سواء كانوا افرادا او فرق عمل. و لايمكن وضع خطط واستراتيجيات للاعمار والتنمية بدون تحليل الواقع بموضوعية لتشخيص التحديات والتهديدات وتحديد الفرص التي يمنحها لنا الواقع الحالي. الاغلبية متفقة بان التنمية والاعمار هي احد اهم الفرص المرتقبة و التي يشار اليها باستمرار. ولكن وكما يدل المثل العربي فكلٌ يغني على ليلاه. وهنا وبصراحة يجب ان ندرك حقيقة لاتتم الاشارة اليها عادة في سياق الحديث عن التنمية والاعمار. وهي ان هناك فهم متباين بين القوى السياسية ليس لمحتوى الاعمار والتنمية وحسب ولكن ايضا لاساليب ومضامين هذه العملية. وهذا التباين في التصورات نابع اما من عدم معرفة ونقص في المعلومات او عن مصالح فئوية بحتة. تعلمنا تجارب وخبر الامم المعاصرة ان عمليات التنمية والبناء لايمكن ان تتواصل وتستمر على نمط الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين وما قبلها والتي سببت اهدارالموارد واضرار للانسان وللبيئته سيستمر تأثيرها السلبي للاجيال القادمة. وكانت اسباب هذه الاضرار منطلقات سياسات التنمية الاحادية الجانب والخاضعة لايدولوجيات ضيقة، فقسم اعتبرالاقتصاد الحر الغير مقيد هو الاساس والربحية القصوى هي مقياس النجاح الاول والوحيد (الرأسمالية الليبرالية واقتصاد السوق الحر) وقسم اخر اعتبر سد حاجات تحددها فئة ضيقة ماسكة للسلطة لافراد المجتمع هي المقياس، وتم تحديد سلوك الفرد الاجتماعي والاقتصادي حسب نمطية فكرية وعقائدية تحددها الفئة الماسكة للسلطة(البعثيين في العراق وسوريا وتجربة روسيا و بلدان اوربا الشرقية وبعض بلدان اسيا، او الفكر الشمولي عموما). هذين الاتجاهين الرئيسيين الذين هيمنا على الفكر السياسي والاقتصادي خلال معظم سنوات القرن الماضي وجدا لهما انعكاسات في ما سمي حينها ببلدان العالم الثالث على صيغ واشكال مختلفة علمانية وقومية. وعلمتنا تجارب القرن الماضي ان التعامل المتبع في تقسيم الموارد لاجل النموفي البلدان المتطورة تكنولوجيا والذي نشئ منذ نشوء الثورة الصناعية لايمكن ان يستمر على نفس الصيغة والا سنؤسس لافناء عالمنا وتدميره ونحرم الاجيال القادمة من الاستفادة من هذه الموارد. ونلحظ اليوم تدارك اصحاب القرار في بلدان اوربا الغربية ودول شمال امريكا وغيرهم في دول صناعية متطورة لمشاكل نمط التنمية التي حصلت سابقا ونلاحظ اليوم السعي المستمر لتقويم فلسفة التنمية ومفاهيمها السابقة. وتسعى القوى الرأسمالية ومنظريها للهجوم على افكار التنمية المستدامة وتعمية الرأي العام والاصرار على اطلاق اليات السوق (الربحية بالدرجة الاولى) بدون قيود. ان هذه الاليات لها طاقات ضخمة للتقدم التكنولوجي وبنفس الوقت طاقات تدميرية للعلاقات والقيم الاجتماعية. ومن الامور الاساسية التي يجب التمعن والتامل بها، هي الاجابة على السؤال: لماذا التنمية والبناء ومن اجل اي هدف؟ وهل ستسير هذه العملية (التنمية والبناء) بشكل عشوائي بدون غاية وبدون اهداف؟ بالتاكيد لا . فكل قوة فاعلة في المجتمع لها مآرب واهداف في هذه العملية. اننا نشهد سلوكا من بعض المسؤولين في العراق يهدف لجعل التنمية وسيلة للكسب السياسي الفئوي او للاثراء الشخصي. ولكن الاغلبية في المجتمع العراقي تطمح لاهداف تختلف فهي ترمي لتحقيق المصلحة العامة للافراد والمجموعات والهدف الذي لاينسجم مع ذلك يصب في مجرى الفساد الاداري النتن. لذا يكتسب الجانب الاخلاقي اهمية كبيرة بل اساسية ومثلنا قول الامام علي(ع ) الشهير حين وجه كلامه الى المتنفذين ذوي المآرب الشخصية على حساب مصالح الناس "اريدكم لله وتريدونني لانفسكم" واذا اتفقنا ان هدف الغالبية من التنمية والبناء هو: سد حاجات الناس والمجتمع. فيتبع ذلك ادراك حقيقة ان حاجات الناس متباينة وغير محدودة اي لانهاية لها. ولسد هذه الحاجات المتنامية والمتصاعدة دوما سيتم استهلاك الكثير من الموارد. علما ان هذه الموارد محدودة و ستستهلك على حساب الطبيعة ومن رصيد الاجيال القادمة. لذا يجب الاستناد الى المسؤولية الاخلاقية في طريق التنمية والحرص على الموارد لضمان سد حاجات الاغلبية العظمى من الناس وضمان سد حاجات الاجيال القادمة. من الفرص المتوفرة امام العراقيين والتي يجب استغلالها لوضع العربة على الطريق الصحيح هي وضع برامج تنمية بمراعات ضوابط فلسفة التنمية المستدامة. التنمية المستدامة تنبع من وتنسجم مع اخلاقنا وقيمنا والتنمية المستدامة فلسفة ونظرة شاملة ولاتباعها نحتاج الى بنية تحتية صحيحة تشمل الجوانب السياسية والقانونية والادارية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ان التيارات و الحركات السياسية التي تنوي الخير للعراق واهله عليها اتخاذ التنمية المستدامة كفلسفة لوضع برامجها التنموية . فمفهوم التنمية المستدامة ينسجم كليا مع التعاليم الانسانية والاجتماعية والتي تحظى بقبول اخلاقي واسع في مجتمعنا. والاغلبية الساحقة تتفق على ان المنظومة الاخلاقية والقيمية لمجتمعنا نابعة بالاساس من ارثنا القيمي والاخلاقي وتاريخ مجتمعنا الذي تتوفر فيه البذور لفلسفة التنمية المستدامة، ولكن الواقع الاقتصادي والمعاشي المتردي حاليا و الناتج بالدرجة الاولى من سياسات الحروب والعدوان للنظام الهدام السابق اضافة لتركيزه على البناء المترف للسلطة واهمال سياسات النظام السابق بناء الخدمات للمواطن البسيط في قراه وبلداته على عموم الوطن ، يعمل كقوة معاكسة لكثيرمن القيم التى فطر عليها مجتمعنا. فاضطر المواطن، الى اللجؤ لحلول غير فعالة ومسرفة ومفسدة للبيئة ومخربة للبنية التحتية الموجودة، لسد حاجاته. وللاسف لم تعطي مؤسسات الدولة بعد 2003 ولحد اليوم بدائل واضحة وصحيحة لجرائم نظام صدام في الاقتصاد. ويسعى الكثيرون ومنهم الادارة الامريكية ومستشاريها والعراقيون الماسكين بالسلطة الى تحقيق مشاريع "تنموية" غير مدروسة ولانعرف ماهي تأثيراتها اللاحقة ولايتم اشراك الرأي العام في تقييمها، بالرغم من إنها تمس حياتهم ومستقبلهم. ولخلق الانسجام بين حاجات الناس والتنمية وبين الضرورة للتعامل مع الموارد المستعملة بطريقة تتيح التجدد لهذه الموارد وبدون اسراف، والمقصود بالموارد : المواد والطاقة والمال والبشرالمؤهلين و المعدات وحتى الزمن. فيقول سبحانه : "وهو الذي انشأ جنت معروشت وغير معروشت والنخل والزرع مختلفا اكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشبه كلوا من ثمره اذا اثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ان الله لايحب المسرفين" الانعام 141 ولتحقيق ذلك على السياسيين السعي والعمل على استحداث منظومة قوانين تصب لتعزيز واقرار هذا المفهوم في الدستورلتامين التنمية الاقتصادية حاليا و لضمان عدم حرمان الاجيال القادمة من سد حاجاتها. ولضمان تفعيل نتائج هذه القوانين يجب ايجاد آليات لتنفيذ ومراقبة تنفيذ هذه القوانين. ويجب مراجعة وتحديث معظم القوانين التي وجدت في ظل الفكر الشمولي الهدام او تحت تأثيره . لقد اثبتت التجربة فشل الافكار الشمولية في حل مسائل التنمية في البلدان الشيوعية وغيرها. وكذلك علينا الحذر من مشورات الرأسمالية الليبرالية الامريكية وغيرها. اذ تواجه منظومة مفاهيم التطور الليبرالية ( دعاة التطور الاقتصادي الحر والغير مقيد) انتقادات مستمرة في البلدان الصناعية المتطورة . نتيجة للتأثيرات السيئة لهذا التطور( الليبرالي) المنفلت والمسرف. ان النزوع الدائم نحو حريات اكبر ونحو اشباع رغبات متصاعدة دوما يحطم اي مجتمع ويؤدي الى حالات فوضوية. ولا يمكن للتجانس والاستقرار الاجتماعي ان يدوم في ظل مثل هذه الاحوال. مفاهيم اساسية عن التنمية المستدامة وهنا بعض من مفاهيم التنمية المستدامة: تاريخيا يمكننا ان نعزي بدايات تاسيس فكرة التنمية المستدامة الى اساس مبدء قديم اتبعه البشر في استخدام الغابة، " لاتحطب من الغابة اكثر مما تحتاج الغابة لتجديد نفسها" واهم التعاريف شيوعا اليوم هو تعريف الامم المتحدة ’هيئة البيئة والتنمية’ المنشور عام 1987 "مستقبلنا المشترك": "هي التنمية التي تستجيب لسد الحاجات الحالية دون التاثير على امكانية سد حاجات الاجيال القادمة" ان التبذير باستخدام الموارد والثروات الطبيعية سيؤدي الى ارهاق البيئة وتدميرها ويؤسس لسلوك في الاستهلاك مبني على حساب التجاوز على موارد الاجيال القادمة. من المعروف ان العراقيين سيحتاجون لاعادة بناء بلدهم و سيستخدمون موارد كبيرة وهائلة لاعمار البلد. والسؤال المطروح على الذين يتصدون للمسؤولية: هل تم الاخذ بنظر الاعتبار التأثيرات على البيئة وعلى استخدام الموارد خلال وضع الخطط والدراسات و التصاميم ؟ فنوردعلى سبيل المثال وحسب تصريحات بعض وزراء الاسكان السابقين بعد سقوط نظام هدام التجريفي فالعراق سيحتاج الى 5000000 وحدة سكنية خلال الاعوام القادمة وهذا يعني استخدام حوالي 75000000 طن متري من الاسمنت مما سيؤدي الى اطلاق حوالي 30000000 طن من ثاني اوكسيد الكاربون الى الجو. وسنحتاج الى حوالي 20000000 طن متري من الحديد ولانتاج هذه الكمية ستستخدم 520 ترليون جول من الطاقة. هذه الارقام ليست نهاية القصة فعلينا الاخذ بنظر الاعتبار الموارد التي ستستهلك بعد انجاز الوحدات السكنية لغرض الادامة والصيانة والتشغيل و يجب الاخذ بنظر الاعتبار ايضا ما سيحصل لهذه الكميات بعد هدمها لانتهاء عمر الابنية وكيفية التخلص منها. للاسف لم يقدم لنا احد من القائمين على امر الوزارات وموظفيهم (خبراء زمن هدام وخبراء اداء اليوم مصممي قصوره و اصنامه و واضعي صفقات اليوم) كيفية تحقيق هذا الهدف وهل جرت مراعات الاقتصادية(عدم الاسراف) وعدم الاضرار بالبيئة. ان هذا المثل يقدم صورة للحالة والمشاكل التي سنخلفها لاولادنا ولاحفادنا اذا لم نتوجه الاتجاه الصحيح في التنمية. ان الفكر الهندسي الحديث قادر على استيعاب هذه المسائل وتوجد تجارب ناجحة تدل على ذلك. للاسف لاتتوفر الرؤية لدى تكنوقراط هدام( اغلبهم من البعثيين الذين اعلنوا التوبة بعد سقوطه " الذين بدلو كير") الذين وللاسف لايزالون يتحكمون بمؤسسات الدولة ويتسنمون المواقع القيادية والاسماء معروفة. التنمية المستدامة لاتقتصر علي قطاع البناء والانشاء فقط بل تشمل كافة مجالات الحياة الاقتصادية كمجال النقل والطاقة والزراعة وغيرها. ان نظرة التنمية المستدامة تستوجب ولاتتم الا باعتبار ومراعات دورة حياة موضوع التنمية والموارد المستعملة فيها . هذه النظرة يجب ان تكون محور اساسي في التخطيط والتنفيذ. وبكلمات اخرى، فكل مشروع له بداية( ولادة) ونضوج وشيخوخة ونهاية(موت) ففي البداية هناك الفكرة ومن ثم تبدء مرحلة التخطيط وبعدها التنفيذ تتبعها مرحلة استخدام المشروع وبعد انقضاء الغرض يتم الهدم لانتفاء الحاجة. لذا يجب عدم الاقتصار على اعتبار الكلف والموارد الضرورية قبل ولادة او الضرورية لولادة المنظومة فقط بل يجب ايضا مراعات الكلف و الموارد التي ستنشئ وتستهلك اثناء تشغيل واستعمال المنظومة او الوحدة موضوعة التنمية وحتى ازالتها اي بعد انتهاء عمرها التشغيلي. ويمكن الجزم بان مشاريع الوزارات الحالية لاتراعي هذه المتطلبات لعدم توفر النية والقدرة لدى ابناء مدرسة النظام السابق وفكره الذي لايزال يعشش في اروقة مؤسسات الدولة. ان تقييم دورة حياة المشروع اوالمنتوج او المنظومة هي طريقة عقلانية وقيمة مهمة لتحديد التاثير البيئي للمنتوج او المنظومة على طوال عمرهما. ويعتبر تقييم مدى استهلاك المنظومة للطاقة او مدى حاجة عملية انتاج المواد للطاقة من المقاييس المهمة لاعتبار التأثير على البيئة وعلى استهلاك الموارد. ولاعتبار التنمية المستدامة في العراق من الضروري جدا استحداث منظومة ادارية واداريين ومهندسين عصريين وكفوئين اذ ان معظم الاداريين واساليب الادارة المتبعة سابقا وحاليا ستقود البلد الى كارثة اهدار الموارد والطاقات على حساب مصالح الجيل الحالي والاجيال القادمة.
|
||||
© حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |