المجتمعات المسلمة والحاجة إلى التفلسف السياسي

 

د.باسم علي خريسان

khrassn@yahoo.com

من تفلسف كفر هكذا انتهاء المطاف بالحضارة الإسلامية، فأصبح العقل معتقل من قبل النص في الظاهر والسلطة السياسية المستبدة في الباطن،ما جعل الحضارة الإسلامية تدخل الى مرحلة استنساخ الذات بدلاً من تطويرها  فأصبح التراث الفكري والفلسفي الذي أسهم به الأولون مقدس لايمكن تجاوزه او ممارسة النقد ضده وعلى المفكر العمل على شرحه وتفسيره بالشكل الذي يحافظ على قدسيته تلك،خاصة وان السلطة السياسية رأت في هذا التراث مرجعية تخدم مصالحها وتوفر لها الشرعية، من هنا وظفت السياسة الدين ووعاظ الساطيين وحماة التراث للوقوف امام حركة العقل المفكر  وعدم السماح له في التفلسف ،في حين لايمكن لحضارة تعتقل العقل ان تحقق التقدم الحضاري.

اذا كان التفلسف بصورته العامة مطلوباً ، فهو في المجال السياسي، مسالة بالغة الأهمية،كون المجال السياسي يتميز بخطورته،مما يتطلب  العمل على بناء أسس فلسفية لقراءة الحدث السياسي، فالحرب والصراع والسلام والسلطة والديمقراطية والأيديولوجية.، والحركات الدينية ،والإرهاب، والعنف السياسي،...الخ، ليست مفاهيم عائمة وانما تكمن في خلفيتها جذور وأسس فلسفية تحدد مسارها وأبعادها في الحياة الإنسانية، ونحن في الشرق العربي،حيث المجتمعات التي تقدس الأساطير  ولانتظر الى التفلسف الا عملاً جنونياً،لابل تتهم من يهاجم أساطيرها بأنه متفلسف (مجنون)، والإنسان فيها لايزال أسير مايجده من اطر وأعراف لايحق له التساؤل عن شرعيتها  وماهيتها وما عليه الا تقديم فروض الطاعة فإذا كان الأمر هكذا في الشؤون العامة،فكيف هو الحال في الشأن السياسي وأطره وأساطيره، التي على  الفرد قبولها قبولاً مسلم به دون اي حق في  التساؤل عن شرعية هذه الأنظمة  والأيديولوجيات الحاكمة والتمتع بامتيازات السلطة ونفوذها.

من هنا أصبح التفلسف بصورته العامة والتفلسف السياسي بصورته الخاصة، ضرورة وجودية، وأصبحت عملية النقد البناء، ومراجعة المرجعيات والحقائق الكبرى التي تحكم هذه المجتمعات  مسالة وجودية، فدون ذلك لايمكن لهذه المجتمعات ان تخرج من عملية الاستنساخ الفكري والثقافي التي تحكم حركتها، لابل العمل لوضع الآليات والأسس التي تحافظ على روح التفلسف والنقد في البناء الحضاري لهذه المجتمعات، كون المجتمعات حتى لو استطاعت ان تمارس النقد لمرجعياتها الفكرية تلك والخروج بمرجعيات أكثر قدرة على تحقيق الرقي الحضاري لها، فأنها اذا لم تستمر في تنمية الروح النقدية تلك ، فأنها سوف ينتهي بها المطاف إلى ذات الحالة التي تعيشها ألان.

اما في  المجال السياسي، الذي عانت وتعاني منه هذه المجتمعات الكثير، بسبب الاحتكار المقدس للممارسة السياسية، حيث تضفي السلطات في هذه المجتمعات على نفسها شرعية مقدسة،تنبع من مرجعيات اما دينية او أبوية او ملكية او ثورية، وتجعل الفكر أسير رؤاها ومنطقاتها وخادم لما ترموا أليه، فهي لاتقبل بممارسة التفلسف في شرعيتها تلك، بل لاتكتفي بذلك وانما تعمل على تفعيل آليات المحافظة على ثقافة المجتمع التقليدية التي تفرض على المجتمعات القبول الطوعي بوجودها، مما يجعلها تقاوم كل من يحاول ممارسة التفلسف والنقد ليس في شرعية وجودها وانما حتى في المرجعيات الحاكمة لهذه الثقافة التقليدية،هذا يجعلها ترفض أمكانية الدعوة الى تبني مرجعيات واليات سياسية جديدة في ممارسة الحكم ، والى أعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فهي لاتقبل آليات  وثقافة تداول السلطة ولا تقبل النظر الى العلاقة بين الحاكم والمحكومة  على أساس علاقة الحقوق والواجبات، بقدر ما ترى فيها علاقة السيد والعبد، علاقة الذات الحاكمة والذات المحكومة، علاقة الإله المستبد والعبد المظلوم.

لذلك يصبح دراسة  أطروحات الفلسفية لدى الحضارات الأخرى جدير بالأهمية، فعلى سبيل المثال نجد الفلسفة السياسية الغربية تضع مجمل هذه الموضوعات على طاولت التشريح، وتمارس عمليات بحث وتحليل عميق  للوقوف على الجذر الذي تستند أليه الأيديولوجيات السياسية والتي ترسم الأطر واليات العمل السياسي، فتمنحها شرعية الوجود، فالسلطة السياسية تمتلك شرعية استخدام القوة وممارسة عملية توزيع الثروات، هنا تبحث الفلسفة السياسية على الأسس التي تستند أليها هذه السلطة في شرعيتها تلك.

حيث تقدم الحضارة الغربية منذ أكثر من خمسة قرون الكثير من المنتج الفكري في مختلف مجالات الحياة، وفي المجال السياسي لها  العديد من الإسهامات والطروحات الفكرية التي أسهمت في تنضيج الوعي السياسي في المجتمعات الغربية، ومن ثمة العالم، حيث نجد ان هذه الطروحات السياسية أخذت تمثل العلاج للمشاكل السياسية لهذه المجتمعات، فمفاهيم مثل السيادة الشعبية،والديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة،والتعددية، والأحزاب، والفصل بين السلطات، وقانون الدستوري...الخ مفاهيم غربية المنتج عالمية التطبيق، من هذا المنطلق تبدو دراسة التجربة الغربية في أنتاج هذه المفاهيم والآليات في الجانب السياسية مسألة لأغنه عنها، لكون هذه المفاهيم والطروحات الفكرية لم تاتِ في أطار التفكير المجرد أو الترف الفكري بقدر ما كانت وليدة عملية احتدام وتصارع شديدة الا بل عنيفة شملت مجمل فضاءات الحياة الغربية.

بحيث جعلها اقرب الى الواقعية ومنه الى التنظير المجرد الحالم، خاصة وهذا المنتج يتعلق بجانب خصب من الحياة الغربية، الا وهو الجانب السياسي، الذي شكل ولا يزال يشكل مرتكز أساسي ومهم  في بناء المجتمعات الحديثة، فالمجتمعات التي تفشل في ضبط إيقاعها السياسي ،سوف يؤدي ذلك الى فشل مشروعها في البناء والرقي الحضاري، والجميل في المنتج السياسي الغربي، بأنه مستمر ومتجدد، يمتلك القدرة على ممارسة المراجعة النقدية على نفسه بالشكل الذي يمكنه من تجاوز الكثير من الإشكاليات السياسية التي تواجه المجتمعات الغربية.

خاصة وان صورة المجتمعات الغربية تشهد تغيير سريع ومؤثر يمس مجمل  الحياة فيها، حيث تدخل هذه المجتمعات الى الثورة الصناعية الثالثة ومجتمع المعلومات، وتسعى لتأسيس مجتمع ما بعد الدولة القومية، تشهد حالة تفكيكية وسعة النطاق يكون الجانب السياسي أكثر الجوانب عرض لتأثيرها، هذا بالإضافة الى عملية التطور في مجال الثورة المعرفية  حيث الانتقال من  مجتمع الحداثة الى مجتمع ما بعد الحداثة والتي أسهمت في قلبت الكثير من المفاهيم  والمرجعيات الفلسفية التي كان تشكل المرتكز او البنى التحتية للمجتمعات الغربية.

وانطلاقاً من أهمية دراسة التجربة الحضارية والفكرية للحضارات الأخرى، ولأهمية المنتج السياسي الغربي وتأثيره، لابد ان نسعى كغيرنا إلى الاستفادة من ذلك، ولمعالجة حالة التوقف او الانقطاع  التي حدثت في  المجتمعات  المسلمة في مجال  الفلسفة السياسة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com