|
يتوافد المثقفون العراقيون على دمشق, الواحد تلو الآخر , هربا من حياة مجمّدة ناقصة مهددة يعانون مرارتها في عراق الجحيم والأزمات والموت وبراثن الاحتلال البغيض, كما أنهم يبحثون عن فسحة أمل يتنفسون منها هواء نقيا بعيدا عن الاختناقات المزمنة التي تزداد وطأة يوما بعد آخر. ولا حلول في الأفق القريب لأزمة المثقف العراقي الذي يمثّل الشريحة الأكثر حساسية في المجتمع المنكوب بالأحداث الجسيمة التي جعلته نهبا للأقدار ولأفعال المحتل ومرتزقته, وشريحة المثقفين ضربت ملاذاتها البريئة الآمنة ومصالحها الابداعية البيضاء, اذ نامت نصوصهم وأحلامهم ومشاريعهم الثقافية على رفوف الاهمال والآلام والحسرات. وكل قادم جديد الى ربوع الشام, يتوجه في مستهل رحلته الى مقهى (الروضة) في قلب دمشق النابض بالحركة والحيوية الدائمة, حيث يتواجد في مقهى (الروضة) الكثير من الأدباء والمثقفين العراقيين والسوريين وبعض الأدباء والكتاب العرب ايضا, وتبدأ رحلة القادم الجديد بالسؤال والتقصي من خلال (ابي حالوب) الذي نسميه (مختار العراقيين) وهو يستقبل ويودّع الجميع بقلب كبير وصدر رحب واسع وابتسامة دائمة, ولا يمل الاجابة عن جميع الأسئلة المتلهفة التي يحمل حرائقها القادمون من أرض النار والموت, حيث يرى هؤلاء القادمون وهم مضمدو الجراح الفتية يبحثون عن حياة بديلة تنعم بالأمان والاستقرار والعودة الى أجواء الابداع ومنطلقاته من جديد. لكن اللهفة الحارة, والأسئلة المتعطشة, ينطفيء وهجها عندما تخيم الحيرة على الملامح وتبزغ لافتة يحملها عبارتها جميع المثقفين العراقيين الوافدين الى سوريا وهم يهتفون بها هتافا سريا أو معلنا: وماذا بعد؟ ما هي فرص العمل التي قد يحصل عليها المثقف العراقي الذي جاء هاربا ملتجئا باحثا عن سبل حياة جديدة توفر له ولعائلته أسباب العيش, هذا العيش الذي يتطلب موردا ماليا لا يمكن الحصول عليه من قبل مثقف لا يعرف من الأعمال غير الكتابة ولا يمتلك رأس مال غير قلمه المرتعش اثر تقلبات الحياة وتغيّرات الزمن القاسي وضراوة الواقع الذي يقبع فيه بلاد النار والدم , بلاد رافدي الموت. لا توجد حلول حقيقية تقي المثقف العراقي مفردات العوز والفاقة والحيرة في البحث عن أبواب ونوافذ للعمل في اهاب صحيفة أو مجلة أو دار نشر معينة. وبالتالي يفصح الواقع الجديد عن أبواب مغلقة ونوافذ يرصد منها القادم حقيقة العمل الثقافي في المكان البديل, حيث أن هذا العمل- ان توفّر- فهو لن يسد ولو جزءا يسيرا من متطلبات الحياة التي اشتعلت فصولها المعاشية فجأة وصارت كلفتها باهظة. لا أريد هنا أن ألقي الضوء على كل أزمات ومعاناة المثقفين العراقيين المهاجرين الى البلدان المجاورة, لأن ذلك يتطلب مني استقصاء ودراسة ميدانية تفصيلية, ربما سأتمكن منها في الأيام القادمة , لكنني أستغرب زعلا وعتابا بدر من احدى (الجهات) المهنية النقابية الخاصة بالثقافة والابداع العراقيين, وذلك الزعل والعتاب جاء حين تحدثت عن عدم جدية جميع المؤتمرات و(السفرات السياحية) الى البلدان البعيدة لحضور ندوة أو اجتماع يناقش محنة المثقف العراقي ومعاناته وموته اليومي, ليخرج المشاركون في هذه المحافل الضخمة بتصريحات نارية في غاية السحر والادهاش لأنها- وعبر هذه التصريحات - تعلن ايجادها حلا لجميع أزمات المثقف العراقي سواء أ كان في داخل البلد الجريح المحتل - العراق- أو كان في الشتات يعاني الغربة والاهمال والحيرة , وأنا- مع غيري من آلاف المثقفين العراقيين- جرّبنا الحالتين (أي في داخل البلد الجريح المحتل أو خارجه) اذ أنني مضيت سنوات من حياتي داخل البلاد بلا عمل, رغم أنني عضو عامل في نقابة الصحفيين العراقيين منذ أكثر من ثمانية عشر عاما, وعضو في الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق منذ عام 1986, كما أنني بدأت الكتابة والنشر عام 1979 كما يعلم جميع متابعي تجربتي في الكتابة. واذا كان وضعي مختلفا - بسبب كوني عضوا في المكتب التنفيذي للاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق لأكثر من عشر سنوات قبل احتلال البلاد - اضافة الى عملي مسئولا للقسم الثقافي في جريدة (القادسية) لعدة سنوات ضمن وزارة الاعلام (المنحلة) وقد ذهبت كل حقوقي أدراج الرياح لأنني كنت موظفا على صيغة العقد.! أقول اذا كان وضعي- بناء على ما ذكرته- مختلفا, فما بال زملائي المثقفين الذين لم يلقوا في (العراق الجديد المفتعل) أي اهتمام وقد توفي الكثير منهم كمدا وحسرة وحرمانا لم يكلفوا في موتهم- الجهات الثقافية التي تحدثت زورا بأسمائهم - غير لافتة نعي سوداء تذكّر الآخرين بالراحل العزيز!!. علينا جميعا, وبعيدا عن النقابات والمؤسسات التي يبحث منتسبوها عن مكتسبات شخصية باسم المثقف العراقي ومتاجرة بآلامه, أن نجد حلولا سريعة, وأنا هنا لا أشير الى أحد ما أو أتهم شخصا بعينه, لكنني أدعو دعوة صدق جادة بعيدة عن الشعارات والادعاءات والأكاذيب للبحث عن الحلول المنطقية المناسبة لأزمة المثقف العراقي وللثقافة الوطنية المتشظية, وأن نبتعد عن لغة الوعود والندم وكذلك عن أسلوب الانفعال والتشنج وثقافة الثأر والنظرة الضيقة للأمور. واذا كنا مصرين على صيغ عمل النقابات والاتحادات والمؤسسات الثقافية- حيث لا بديل لذلك- فعلينا أن نصعّد من أخلاقيات العمل المهني في هذه المرافق النقابية التي لو فهم القائمون عليها دورهم جيدا لكان دور هذه المرافق في غاية الأهمية ولوجدت حلولا ناجعة لكل الأزمات الثقافية التي تعصف بالبلاد مرافقة لأزماته المستشرية في كل الجوانب الانسانية. علينا- في نقاباتنا واتحاداتنا- أن نبتعد عن المحاكمات السياسية التي لا مبرر لها, والتي انتهجها بعض المتشنجين أزاء العديد من مثقفي قبل احتلال البلاد والذين يمتلك أكثرهم خيارا سياسيا شخصيا في التعبير والممارسة والتوجه الثقافي الذي لم يدن صاحبه باقتراف جريمة ضد الشعب العراقي ولم تلطّخ يداه بدم أبنائه. علينا أن نبحث عن حلول سريعة لانقاذ مثقفينا, وأن لا نظل منتظرين أخبار موتهم كمدا وحسرة, وهذه الأخبار تأتينا باردة حزينة, لنضرب كفا بكف أسفا وحزنا, ولنعلّق المزيد من اللافتات السود على الجدران المحترقة في وطننا المحتل.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |