|
عرض موجز لتقرير قدمه الباحث في مؤتمر دعم الديمقراطية في لندن نظمته لجنة دعم الديمقراطية مهمة الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية الدستورية هي المحافظة على حقوق كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والجنس والفكر . فهي تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها دولةَ مواطنة، تقوم على قاعدة ديمقراطية هي المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات. وعليه فالمواطنون لهم حقوق يتمتعون بها، مقابل واجباتٍ يؤدونها. وهذه المواطنة لصيقةٌ كليا بالدولة المدنية، فلا دولة مدنية بدون مواطنة، ولا مواطنة بدون دولة مدنية. وعليه فالمواطنة لا تتحقق إلا في دولة مدنية ديمقراطية تعددية دستورية تصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن بها في إطار الدستور الذي أقره الشعب. وهذا الدستور يحترم كافة حقوق المواطن بشكل يوفر له العيش الكريم. فإذا كان للمواطن هذه المساواة في الحقوق التي يضمنها الدستور، فذلك يعني انعدام التمييز بين المواطنين بسبب قوميتهم، كبيرة كانت أو صغيرة، أو جنسهم رجالا كانوا أو نساء، أو مركزهم الاجتماعي أغنياء كانوا أو فقراء، أو دورهم السياسي رؤساء كانوا أو مرؤوسين، أو فكرهم يساريين كانوا أو يمينيين، أو عقيدتهم أو مذاهبهم مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهود أو مندائين أو أيزيديين. إذن العلاقة بين الدولة المدنية والمواطنة أساس بناء المؤسسات المدنية الديمقراطية، وأساس هذه العلاقة هي الحقوق والواجبات بحرية، وحماية مصالح المواطنين التي تعتبر نواة مصالح المجتمع والدولة. فبدون حرية لايمكن صيانة حقوق المواطنين، وبدون حرية لايمكن للمواطنين القيام بواجباتهم تجاه الدولة. فالتفاهم والاحترام يؤديان إلى الالتزام من قبل المواطن تجاه الدولة، ويؤديان إلى حماية الدولة لحقوق المواطن. ومن هنا تتعمق قوة الإرادة الوطنية لتحقيق الاستقرار والسلام والازدهار في الداخل، والوقوف صفا واحدا ضد العدوان من الخارج.
كيف تنجح الدولة المدنية في كسب ثقة المواطن؟ الجواب هو ضرورة تأكيد المواطنة في دستور الدولة المدنية، لحماية هذه المواطنة ومتطلباتها وتفعيلها في الممارسة العملية وليس مجرد قاعدة قانونية. فديمومة المواطنة والمشاعر الوطنية المخلصة تجاه الدولة تتعمق في ديمومة الدولة المدنية ليس فقط في الحرية السياسية وإنما في الديمقراطية الليبرالية، لأن المواطنة لا تتحقق في الدولة الدكتاتورية أو الدولة الاستبدادية التي قاعدتها القمع والإرهاب بدلا من المواطنة، حتى وإن وُجِدت الحرية السياسية، طالما أن تلك الحرية تنسف المواطنة وتُلغي دور المواطن في بناء المؤسسات الديمقراطية المدنية. كما لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية الديمقراطية، تمييزا عن العلمانوية أو العلمانية الاستبدادية والعلمانية الكاريكاتيرية، لأن بعض الديانات، تمييزا عن الدين، لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون يميز بين الأديان والديانات. ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في المجتمع المدني ((لا إراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن بالله فقدِ استمسكّ بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) سورة البقرة/ 256.
الحرية السياسية المجردة ليست بديلا للديمقراطية كيف نفكر بحرية المواطن ونحن نجعل الحرية السياسية بديلا للديمقراطية بكل مكوناتها كما هو الحال في أقليم كردستان والعراق. نحن نسمح لمئات الصحف أن تصدر في دائرة الحرية السياسية بعيدا عن الديمقراطية في المحك العملي. الإنسان مجرد من حقوق المواطنة، ولايسمح له بالنقد، ولاسيما إذا كان موجها للقابضين على السلطة. الحيوان في الدول الديمقراطية الليبرالية يتمتع بحقوق أعلى من الإنسان في بلداننا التي تتوفر فيها نوع من "الحرية السياسية" فنقول بأننا حققنا كل ما نصبو إليه. في الدول الأوربية الديمقراطية الليبرالية تقف منظمات حماية الحيوان بالمرصاد إذا ما خرق الإنسان حقوق الحيوان فما بالك بحقوق الإنسان. قتل فلاح سويدي ذئبا فقُدِم للمحاكمة. وأقول بمرارة وأنا اشير هنا إلى قضية كنت ممثلها: كانت لي قبل بضعة سنين قطة لعوبة ولكنها لاتهدأ إذا عاندتها. وفي يوم من الأيام كنت وعائلتي في زيارة لوالدتي وعائلة شقيقي، وجئنا متأخرين، ووجدت قطتي خارج الباب تحتج لأنني لم آخذها معي، فضربتها بيدي ضربة خفيفة، وإذا بسويدي يمر من بعيد فوجدني على تلك الحال. فوقف ثم تقدم نحوي وقال بهدوء واحترام: هل تعلم أنه لايجوز ضرب الحيوان؟ قلت لا لم أكن أعرف. قال حسنا، لن أسجل دعوى قضائية عليك هذه المرة. ثم تساءل: أنت من الشرق الأوسط؟ قلت نعم، ففي بلدي يأكل الحكام لحوم البشر وهنا لايجوز أن نضرب الحيوان. قال لأنكم لاتميزون بين الحرية السياسية والديمقراطية الليبرالية. ثم تركني وأنا أفكر بهذه الجملة "إنكم لاتميزون بين الديمقراطية والحرية السياسية". بدأت أحب القطط وأخصص مبلغا من المال شهريا نفقة للقطة ولالعابها، ووقتا لحريتها والعب معها. ولكن بقيت أفكر بتلك الجملة التي قالها بعفوية أو عن قصد "إنكم لاتميزون بين الحرية السياسية والديمقراطية الليبرالية". قلت في داخلي، وفي كل مؤتمر أعقد مع نفسي: في بلدي يفهمون الحرية السياسية من أساسيات الديمقراطية حتى في حالة انعدام الديمقراطية. فإذا وجدوا صحفا ومجلات، قالوا الآن حققنا الديمقراطية، وقالوا نحن أحرار، هذه تجربتنا الديمقراطية. عشرات الصحف والمجلات والمنظمات وما إلى ذلك من صور وأشكال وألوان كلها عن "المعنى الصحيح محرف" كما قال شاعرنا معروف الرصافي "علم ودستور ومجلس أمة - كل عن المعنى الصحيح محرف".
إذن ماهي الحرية السياسية بمعزل عن الديمقراطية الليبرالية؟ الحرية السياسية بمعزل عن الديمقراطية الليبرالية: بحث المفكر العربي الأستاذ شاكر النابلسي هذا الموضوع في دراسة موثقة بعنوان "لماذا نادى البعثيون بالحرية السياسية وليس بالديمقراطية، وما هو الفرق بينهما؟" وأخذ العالم العربي ولا سيما العراق نموذجا. لذلك أقتبس منه بإيجاز ما تنطبق على حالة العراق وهي "الحرية السياسية بمعزل عن الديمقراطية الليبرالية: تتيح الحرية السياسية إقامة الأحزاب ونشر صحافتها وإجراء انتخابات بلدية وبرلمانية، ولكنها تربط هذه الآليات بعدم كشف عورات السلطة وتصرفاتها الخاطئة. لاتفرق هذه الأنظمة بين مهاجمة ونقد السلطة وبين مهاجمة ونقد الوطن. وتعتبر أن كلَّ هجوم على السلطة هو هجوم وإساءة للوطن. ومن هنا يعتبر كل منتقد للسلطة خائن للوطن ولا يستحق صفة المواطنة. لا تتوانى هذه الأنظمة عن تغيير مجالس إدارة هذه الصحافة من حين لآخر كلما شعرت بأن بعض الصحف لا تمتدح السلطة بما يُرضيها ولا تدافع عنهـا أمام خصومها ونُقادها. تُبقي هذه الأنظمة قوانين الطوارئ موضوعة رغم زوال الخطر الخارجي. ولكنها تعتبر أن الخطر الداخلي أكبر من الخطر الخارجي وأعظم شأناً. وأن الحرية السياسية المتاحة لا تعني أن لا تُغلِقَ صحفاً في أي وقت تشاء، وتُحلَّ حزباً في أي وقت تشاء، وتعتقل السياسيين والمفكرين والكتاب في أي وقت تشاء، وتُصادر ما يكتبون في أي وقت تشاء ودون إجراء قضائي. ولا تتوانى هذه الأنظمة في تزوير الانتخابات البلدية والنيابية التي تَشرف عليها وزارة الداخلية (الشرطة والأمن) دون أن يستطيع أحد من المعارضة شكاية السلطة على هذا التزوير أو حتى إثباته. وتمنع هذه الأنظمة المعارضة السياسية من الاشتراك في الحكم وتحول بينها وبين الأغلبية في الانتخابات البلدية والبرلمانية حتى لا تقفز إلى كراسي الحكم في يوم من الأيام. فالديمقراطية في مجتمع الحرية السياسية بمعزل عن الليبرالية، ديمقراطية "إجراءات". بمعنى أن تتخذ السلطة قراراً نهائياً وتقدمه إلى المجالس التشريعية لا لأخذ الرأي فيه، ولكن للبصم عليه وتصديقه. رأس السلطة يختار رئيس الوزراء لا لأنه يُشكِّل الأغلبية، ولا لأنه من التكنوقراطيين المجيدين، ولا لأنه من ذوي الدراية الإدارية المتفوقة، ولا لأنه نظيف اليد والفَرْج، ولكن لحسابات عائلية معينة، وحسابات عشائرية معينة، أو لمصلحة شخصية، أو ترضية وتلبية لطلب جهة خارجية، أو لطلاقة لسانه في مواجهة الخصوم، أو ربما لخفة دمه وإجادته للنكتة المُفرِّجة، أو لاستلطاف شخصي.
السبيل إلى الدولة المدنية هي الديمقراطية الليبرالية والمؤسسات الدستورية المستقلة يقول المفكر والكاتب الصحافي (فؤاد زكريا) في كتابه المترجم من اللغة الانكليزية (مستقبل الحرية)، أن الديمقراطية التي تنشأ دون دعائم الليبرالية السياسية تؤدي إلى الفاشية. وأطلق مصطلح "الديمقراطية المتعصبة" على الديمقراطية التي لا تقوم على أساس ليبرالي، مثل الصين وروسيا والهند. وأنه بدون الطبقة الوسطى من المثقفين والمفكرين المستقلين لا يمكن لليبرالية الدستورية أن تؤسس الديمقراطية الليبرالية. فالحكم على الحكومات يكون من خلال المؤسسات التي تنشأ في الواقع العملي وليس من خلال الانتخابات فقط. لأن الأغلبية والأقلية البرلمانية لاتشكلان ضمانا لحقوق المواطنين بدون دستور مدني يحدد سلطات الجانبين في إطار الحق الكامل للمواطنة. وحكم الأغلبية لا يعني حرمان الأقلية في صنع القرار، بل يجب مساهمة الأقلية أيضا في صنع القرار في حالة كالعراق وفي كل الدول الديمقراطية الليبرالية. وعليه فالديمقراطية التي تحكمها الأغلبية ولا تقوم على أساس ليبرالي تعرقل تحرر الأفراد والمجتمعات وتضيع حقوق الأقليات القومية والدينية. لأن الديمقراطية الليبرالية تتطلب بناء المؤسسات الدستورية والقضائية المستقلة قبل إجراء الانتخابات. وأساس الديمقراطية الليبرالية هي الفصل بين السلطات واحترام الدستور والحريات العامة وحقوق الإنسان في المجتمع وعدم استبداد الأغلبية. فلا ديمقراطية بدون حرية المواطنين وحقوقهم الفردية وحرية العقيدة والتعبير عن الرأي والتعددية السياسية. إذن السبيل إلى الدولة المدنية هي الديمقراطية الليبرالية والمؤسسات الدستورية والقضائية المستقلة وحقوق الأفراد وحقوق القوميات والعقائد. أما القول بالحريات السياسية والانتخابات دون ديمقراطية ليبرالية فليس إلا خداع وتضليل.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |